لطالما كانت الانتخابات البلدية والاختيارية، بشكل عام مع استثناءات بسيطة، عبارةً عن معركة عائلية في المقام الأول، وحزبية ثانياً، بين وجهاء البلدة أو المدينة "الذكور"، وسط تغييب واضح للعديد من الفئات، لا سيما الشباب والنساء، فتتحول العملية الانتخابية من ديمقراطية تتمثل فيها الفئات المجتمعية كافة، وتتنافس البرامج التنموية، إلى عملية تستمد شرعيتها من العائلات والتقاليد، مكرّسةً نوعاً من الزبائنية السياسية.
وآخر انتخابات بلدية جرت في لبنان كانت عام 2016، وكان من المزمع أن يتمّ الاستحقاق في عام 2022، لكن الأولوية كانت للانتخابات النيابية التي جرت في أيار/ مايو من العام الماضي، ولم تكن للدولة، في ظل الأزمة العميقة التي تمرّ بها، القدرة على إجراء الاستحقاقين في توقيت واحد، أو حتى في السنة نفسها، فجرى تأجيلها بقرار من مجلس النواب إلى أيار/ مايو 2023.
في انتخابات عام 2016، شكّلت المرأة 50.8% من نسبة المقترعين، وبالرغم من ذلك، لم تتجاوز نسبة تمثيلها في المجالس البلدية والاختيارية 5.4%، بحسب تقرير مشروع دعم الانتخابات اللبنانية التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، لعام 2016، تحت عنوان "المرأة في الانتخابات البلدية والاختيارية 2016: نتائج وأرقام"، الذي أشار أيضاً إلى أن المسجلين في انتخابات 2016، بشكل عام في كل لبنان، 21،932 مرشحاً ومرشحةً، بينهم 1،508 مرشحات، أي ما يُقدّر بنسبة 6.9% من مجمل المرشحين.
المسجلون في انتخابات 2016، 21،932 مرشحاً ومرشحةً، بينهم 1،508 مرشحات، أي ما يُقدّر بنسبة 6.9% من مجمل المرشحين
إقصاء النساء سياسياً
ترى المحامية والباحثة منار زعيتر، أن "السبب الأساسي لإقصاء النساء هو النظام السياسي السائد والأحزاب المسيطرة في السنوات الأخيرة، والتي لمترشح بمعظمها في الانتخابات النيابية الأخيرة، العنصر النسائي وحتى لم تتوافق على إقرار الكوتا في المجلس النيابي، وهذا ما سينطبق بطبيعة الحال على المجالس البلدية، وسيبرز بصورة أكبر نظراً إلى محاولة الأحزاب إرضاء السلطات الدينية والتقليدية في البلديات، بالإضافة إلى العائلات وكافة القوى الرجعية".
وتضيف في حديث إلى رصيف22: "لقد فشلنا في إنتاج دولة مدنية حديثة ديمقراطية عادلة إلى جانب إنشاء نظام ديمقراطي حقيقي، إذ كلّما ارتفع مستوى الشفافية، الحوكمة، والديمقراطية، كلما كانت هناك فرص أكثر وهذا غير متوفر اليوم".
وتتحدث زعيتر عن القراءة التاريخية القاصرة لفكرة العمل البلدي، بأنه عمل رعائي خدماتي، و"هذا ما يجعل النساء مقصيّات عن هذا الدور، بحيث تلعب النظرة التاريخية إلى مفهوم العمل البلدي والنظرة إلى النساء، عائقاً أمام مشاركتهن في البلديات، برغم أن العمل البلدي هو عمل تنموي بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية".
وتروي أنه "عندما نتحدث عن العائلة والعشائر فهذا يعني إقصاء النساء، إذ إن العائلة مرتبطة بالذكور أو بالبيوت السياسية أو بالتوريث السياسي، وطالما موضوع العمل البلدي مرتبط بالعائلات فهذا يعني حكماً إقصاء النساء، هذا بالإضافة إلى ارتباط البلديات بالأحزاب في السنوات الأخيرة، وهذه الأحزاب، بما فيها اليسارية والتي تدّعي المدنية والحداثة، جميعها لم تنجح في أن تثبت نفسها كإطار سياسي داعم للنساء".
ماذا عن قانون الانتخاب؟ تقول زعيتر: "مثلما فشلنا في إنتاج قانون انتخابي برلماني حديث قائم على النسبية الحقيقية، أيضاً فشلنا على مستوى القانون البلدي الذي لا يزال يعتمد النظام الأكثري".
التمثيل ومستقبله
يوم الإثنين في 27 شباط/ فبراير الماضي، شارك عدد من المرشحات والعضوات السابقات في المجالس البلدية تجاربهن في ندوة نفّذها معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة في الجامعة الأمريكية في بيروت، بالتعاون مع سفارة كُل من الدنمارك وفنلندا والنرويج والسويد في لبنان، وكذلك مجلس وزراء دول الشمال الأوروبي، وتمحورت حول الانتخابات البلدية القادمة في لبنان وأهمية المشاركة السياسية للمرأة.
خلالها، وصفت المحامية إليانا زغيب، بلدة ضهور الشوير في المتن في محافظة جبل لبنان، كبلدة نموذجية منذ العام 2010، في التمثيل النسائي في العمل البلدي، بحيث توجد فيها أربع عضوات من أصل أحد عشر عضواً/ ةً، وقالت: "على نطاق البلدة، لا مشكلة في ترشح النساء وتمثيلهن في البلديات ولكن المشكلة تكمن في تولّي المرأة رئاسة البلدية أو موقع نائبة رئيس في المجالس البلدية".
من جهتها، رأت العضوة في بلدية عاليه في جبل لبنان أيضاً، الدكتورة منى عقل، أن "المرأة التي تتخذ قرار الترشح عليها أن تتحلى بشخصية قوية وألا تقف عند ما يمكن أن تتعرض له، لأن العنف السياسي الموجه ضدها والتحديات التي تلاحقها، ستكون كثيرةً".
عندما نتحدث عن العائلة والعشائر فهذا يعني إقصاء النساء، إذ إن العائلة مرتبطة بالذكور أو بالبيوت السياسية أو بالتوريث السياسي، وطالما موضوع العمل البلدي مرتبط بالعائلات فهذا يعني حكماً إقصاء النساء
أما عضوة بلدية برقا في منطقة بعلبك في البقاع، رامونا جعجع، التي نشأت في عائلة ذكورية بحسب تعبيرها، فترى أن "هذا كان التحدي الأكبر لها"، إذ وعت على الاجتماعات السياسية والمعارك البلدية التي كانت تقام وتخاض من منزلهم وهذا ما جعلها ترغب في خوض تجربة الانتخابات في الوقت الذي لا يوجد فيه تمثيل للنساء في البلدية.
ورأت النائبة حليمة قعقور، أنه "لا يوجد عمل تنموي من دون نساء"، متحدثةً عن محاولات تسخيف قضايا النساء وسط ما نمر به من أزمات في البلد"، ومشيرةً إلى أن "شرعية البلديات يجب أن تؤخذ من برامجها التنموية التي تعمل على دمج جميع الفئات وتقوم بإنتاج برامج بمشاركة الجميع لتكون المحاسبة مستندةً إليها، وليس من شرعية العائلات والعشائر".
تغيير الثقافة السائدة
برغم كون بلدية ضهور الشوير تحظى بنموذجية نسبية في التمثيل النسائي في العمل البلدي، لا يزال العديد من البلديات ينتهج ثقافة تغييب النساء عن مجالسها ولا يزال تمثيل النساء في الحياة العامة والسياسية يُعدّ تمثيلاً غير كافٍ أو عادل.
وبيّنت دراسة أصدرتها الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية، بالتعاون مع الدولية للمعلومات، في العام 2016، وعلى إثر انتهاء الانتخابات البلدية والاختيارية حول نتائج مشاركة النساء في الانتخابات البلدية، أن النسبة الأكبر من النساء اللواتي ترشحن وفزن في الانتخابات البلدية كنّ في محافظتي الشمال وعكار (8.7% مرشحات، و7.9% فائزات)، مما يعني أنه لا تزال هناك عوامل ثقافية متوارثة وقوانين تلعب دوراً في تهميش النساء من خلال استبعادهن عن الحياة العامة والسياسية ورفض تمثيلهن والاعتراف بهن كمكون أساسي في المجتمع.
يرى الخبير الانتخابي وعضو الهيئة الإدارية في الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات، عمار عبّود، أن "هناك العديد من التحديات في الانتخابات البلدية، فلا توجد تحديات تستهدف على وجه الخصوص النساء أو الشباب في الانتخابات، ولكن النظام الانتخابي الذي يعتمد الأكثرية لا يسهّل وصول الأقليات، وهو نظام يضخّم الحجم السياسي للبعض".
النسبة الأكبر من النساء اللواتي ترشحن وفزن في الانتخابات البلدية كنّ في محافظتي الشمال وعكار (8.7% مرشحات، و7.9% فائزات)
ويوضح أن "الانتخابات يجب أن تعطي صورةً سياسيةً للمجتمع، ولكنها فعلياً لا تعكس هذه الصورة، بحيث تتحول الانتخابات إلى سباق يعزز فكرة وصول الأقوى والأبرز وصاحب الوجاهة، وهذا غير مشجع للنساء والشباب لأن المسألة تتحول إلى عشائرية وطائفية ولا يمكن أن تتمثل في شاب أو امرأة"، مشيراً إلى الانزلاق في توصيف البلدية على أنها مثل برلمان صغير على مستوى بلدة أو ضيعة تتمثل فيها العائلات والطوائف، و"لكن في الحقيقة هي تشبه الحكومة بحيث أنها يجب أن تمتلك إستراتيجيةً، وخطةً وبرنامج عمل".
ويضيء عبود في حديثه إلى رصيف22، على التراتبية الاجتماعية التي يعززها القانون، فيقول: "إذا اطّلعنا على تفاصيل القانون، نرى أنه لا يسمح بانتخاب اسمين أو أكثر من العائلة ذاتها (أي قرابة ثلاث درجات). للوهلة الأولى نظن أنها مكافحة ضد العشائرية، ولكن في الحقيقة هي تكرّس وتحافظ عليها، بحيث أنه إذا ترشح الابن والأب وفازا في عضوية البلدية يتم اختيار الأكبر سنّاً بغض النظر عن نسبة الأصوات، مما يعزز فكرة القوي والأقدم وبطبيعة الحال إذا ترشح زوجان، يتم اختيار الزوج وتفضيله على زوجته حتى لو حصدت الزوجة نسبةً أعلى من الأصوات".
وبرغم كل هذا المشهد السوداوي، يرى عبود أن هناك فرصاً تسهم في تعزيز وجود النساء والشباب وهي تبدأ بالضغط، فـ"مثلاً إذا وُجدت لائحة في كل بلدة تضمنت مرشحةً نالت عدداً جيداً من الأصوات أو فازت، فبشكل تلقائي اللائحة المضادة ستقوم بترشيح امرأة وهذا ينطبق على التمثيل الشبابي لأن هذا يسهم في خلق عرف ديمقراطي يمكن البناء عليه"، مضيفاً أنه "وسط الأزمة الاقتصادية وإفلاس صناديق البلدية، لا تعود رئاسة المجلس البلدي أو العضوية فيه، مكاناً ربحياً ووجاهةً لتوزيع خدمات، وهذا قد يخلق فجوةً بحيث يصبح الاهتمام من قبل الفئات التقليدية أقل، وتالياً من الممكن أن تسهّل لقوى نسائية وشبابية وتيارات سياسية، الخرق أو الفوز".
دور المنظمات
في إطار تعزيز المشاركة السياسية للنساء، تعمل العديد من الجمعيات المعنية بحقوق وقضايا النساء وديمقراطية الانتخابات، لرفع مستوى الوعي وتثقيف الناخبين/ ات، وتقديم الدعم الفني وبناء القدرات للمرشحات، إلى جانب التصدي للعنف القائم على النوع الاجتماعي في السياسة وخلال الانتخابات.
فمثلاً، تعمل اليوم جمعية fiftyfifty، من خلال مشروعها "ثورة النساء في السياسة-بلديات 2023"، على دعم النساء اللبنانيات في الترشح للانتخابات البلدية المقبلة 2023، في جميع المناطق اللبنانية ومن جميع الخلفيات السياسية، كما تهدف إلى تسليط الضوء على أهمية التنمية المحلية في الحياة البلدية.
وسط الأزمة الاقتصادية وإفلاس صناديق البلدية، لا تعود رئاسة المجلس البلدي أو العضوية فيه، مكاناً ربحياً ووجاهةً لتوزيع خدمات، وبالتالي من الممكن أن تسهّل لقوى نسائية وشبابية وتيارات سياسية، الخرق أو الفوز
وترى المحامية زعيتر، أن "الجمعيات اليوم قادرة على لعب دور مهم، ولكن ليس وحدها، فالمنظمات ليست بديلاً من الأحزاب السياسية، ودورها يكمن في المراقبة وإنتاج خطاب مدني والضغط باتجاه تعديل السياسات العامة، والمطلوب من المؤسسات النسوية أن تمتلك خطاباً سياسياً، وتقرأ المشهد السياسي في البلد".
وتشدد على أن "المنظمات النسوية بحاجة إلى العمل في المناطق ومع القاعدة الشعبية، وبحاجة إلى الربط بين حقوق النساء في الفضاء العام وحقوقهن في الفضاء الخاص، فمثلاً العنف الأسري في الفضاء الخاص هو أحد أبرز العوامل والتحديات التي تعيق مشاركة النساء السياسية، فكيف أطالب النساء بالمشاركة في البلديات إذا كن يتعرضن للعنف في منازلهن، في ظل قانون مشوّه وقوانين تمييزية ضدهن؟".
وفق رأيها، "إذا لم أرفع الصوت باتجاه قضايا الأحوال الشخصية، ولم أطرح القانون المدني للأحوال الشخصية، فمن المستحيل أن أتحدث عن مشاركة سياسية للنساء حتى على مستوى البلديات، لأن المرأة التي لا تستطيع أن تلعب دوراً سياسياً في منزلها، لن أتوقع منها أو ألومها ولا يحق لي القول: ‘كيف بدّي خلّيها تلعب دور سياسي؟’، سواء على مستوى الحيز العام الذي يبدأ بالبلدية، وصولاً إلى الحكومة والبرلمان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...