شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
زوجة مغربية في مركز قوى علاقات الحب… فيلم

زوجة مغربية في مركز قوى علاقات الحب… فيلم "القفطان الأزرق"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 1 مارس 202304:00 م

أُلحق "غارسان" إلى الجحيم، بحسب مسرحية جان بول سارتر "لا مفر"، لأنه رفض أداء الخدمة العسكرية، ولكن الأمر في حقيقته ينطوي على تعذيبه لزوجته، التي تحمّلت حماقاته، وأهمها إحضاره امرأة أخرى إلى بيتها.

غارسان وزوجته يهيمان بين الاختيار والانصياع، المشاعر ذاتها يختبرها "مينة" و"حليم" في فيلم "القفطان الأزرق"، ربما بسبب التباين بين حياة هادئة روتينية في ظاهرها، إذ يديران محلاً تقليدياً لخياطة الملابس النسائية في مدينة "سلا" المغربية، وفي باطنها شيء آخر.

يعيش الزوجان (حليم ومنية) نمط حياة على الساحل مغلفاً بالأغاني التراثية والحرير. ذات يوم يأتي يوسف ليشاركهما في شغف الثوب القديم والقفطان الحي، ويصبح واحداً منهما.

هذا هو نمط أحداث فيلم "القفطان الأزرق" من إخراج المغربية مريم توزاني، وشاركها زوجها المخرج والكاتب نبيل عيوش في كتابته، ويدور حور عالم الرجال، وهو فيلمها الروائي الطويل الثاني بعد "آدم"، الذي قدمت من خلاله قصة إنسانية داخل عالم النساء.

"حليم" يحب زوجته ويقدر وجودها في حياته، لا يستطيع أن يستمتع بحياته الحميمية معها، كما تفعل هي حينما تقوده إلى جسدها، حيث لا يجد نفسه معها، وتتحقق متعته مع الرجال من بني جنسه. تعلم "مينة" بهذه الرغبة الدفينة، التي تتفجر مع كل زيارة له إلى الحمام المغربي للرجال، حيث يلتقي الراغبين فيه ويعود لها في النهاية.

فيلم "القفطان الأزرق" إنتاج عام 2022، وهو العمل الثاني لمخرجته مريم توزاني، وحقق حضوراً على الساحة الدولية والمهرجانات السينمائية، واختارته المغرب ليكون ممثلاً لها في ترشيحات جوائز الأوسكار عن فئة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية، وشهد عرضه الأول في مهرجان "كان" في الدورة 75 ضمن قسم "نظرة ما"، وحصل على جائزة اتحاد النقاد الدولي "الفيبريسي" إلى جانب ما حققه في مهرجان "مراكش" السينمائي الدولي للفيلم، وحصوله على جائزة لجنة التحكيم. 

نواقص مقبولة

حليم يحب زوجته ويقدر وجودها في حياته، لا يستطيع أن يستمتع بحياته الحميمية معها، كما تفعل هي حينما تقوده إلى جسدها، إذ لا يجد نفسه معها، وتتحقق متعته مع الرجال من بني جنسه، تعلم مينة بهذه الرغبة الدفينة، التي تتفجر مع كل زيارة له إلى الحمام المغربي للرجال، حيث يلتقي الراغبين به في صمت، ويعود لها في النهاية.  

علاقة مينة وحليم لا تشبه غيرها من العلاقات الأخرى، عنوانها التقبل المطلق لكل شيء، مينة تعلم بخصال زوجها ورغباته، وهو يتقبلها كما هي، ويعاونها في تجاوز المرض الذي قضى على ملامح أنوثتها، عبر نص توزاني وعيوش عن هذه العلاقة المعقدة في مضمونها والهادئة في ظاهرها، مستعينين بالصمت في أغلب الأحيان حيث لم يحل الحوار كثيراً على لسان حليم ومينة إلا فيما ندر، كما هو الحال مع الشريط الفيلمي.

هي زوجته، وهو زوجها، هي ترغب في جسده، هو لا يرغب سوى أجساد الرجال، هو يحبها، هي تحبه، فما الحل؟ وإلى أين تسير الأمور؟... قراءة نقدية لفيلم "قفطان أزرق"

ساهمت قلة الحوار في التعبير عما يخبئُه كل منهما للآخر.

حينما يحل يوسف بطلاً جديداً في حياة مينة وحليم لا يغير في شيء كشخص قادم من خارج القصة، رغم رغبته في حليم، فالتغيرات في مسار علاقة الزوجين نبعت من داخلها، بسبب مرض قاتل أصاب مينة، ويشرع في القضاء عليها تدريجياً، وعلى أثره تدفع زوجها لاكتشاف حياته، واكتساب حب جديد يمنحه الحياة والقوة من بعدها، ليكون "يوسف".

الزوجة التي تفهم زوجها الذي لا يعلن عن رغباته، تكون هي مفتاح الحل والأزمة في الوقت عينه، إذ يتجاوز إحساس حليم بمينة الحب الشهواني القائم على الرغبات أو الرباط المقدس إلى حب خالد، لا يموت في قلبه، فهي التي ساندته، وقدمت له الحب بدون شرط، ولم يشكل وجود يوسف بجواره أي فارق، إذ يهيم حليم بحب مينة وينهار عالمه بموتها.

ما يدعم دراما فيلم "القفطان الأزرق" هو التوازن الذي يحاول كل من "مينة وحليم" ألا يختل، فحياتهما تتأرجح بين الشعور بالثقل والحب، فكلاهما مدين للآخر بشيء، حتى تصبح علاقتهما في بعض اللحظات أثقل من أن يتحملاها رغم ما تبدو عليه من خفة، وهو ما يزيد المرارة التي لا يبوحان بها على الإطلاق.

المرأة الحامية

يكسر فيلم "القفطان الأزرق" العديد من التابوهات المتوارثة، وفي مقدمتها ظاهرياً تقبل المثلية الجنسية، رغم أنه لا يقدم المثلية الجنسية كموضوع رئيسي، إذ يشير بقوة نحو تبادل مراكز القوة المعتادة بين النساء والرجال، وهو ما يتجلى في شكل علاقة حليم ومينة الحميمة التي تقود فيها مينة زمام الأمور، كما تفعل في حياتهما بصورة عامة، فهي التي تتحدث نيابة عنه، وتحميه في الكثير من اللحظات، بل تكشر عن أنيابها في حال مهاجمته من قبل أي شخص.

لا يناقش الفيلم بالأساس قضية تقبل/رفض المجتمع للمثلية، وهي ممارسة لا يتطبع قطاع عريض من المغاربة معها، بل يطرح حياة شخوص يعيشون بشجونهم المكتومة، مستسلمين للغد وما يحمله من صدمات جديدة.

"القفطان الأزرق" هو مرثية للحب يغلفها الحرير الأزرق الخلاب الذي هو العنصر الرئيس في القفطان الذي يغزل خيوطه حليم، ربما تكون الهدية الأغلى التي قدمها لمينة طوال حياتهما معاً.

من خلال القفطان الأزرق كسرت توزاني تابوهاً آخر، هو المظهر الذي يسعى الجميع للامتثال له حتى يلقوا احترام الجماعة. لم يسر في جنازة مينة إلا حاملو نعشها. حليم ويوسف هما أكثر الذين أحبوها وحملوا لها التقدير بداخلهم دون شرط أو تصنيف لوجودها في حياتهم.

أين نحن؟

شكل المكان عنصراً هاماً في "القفطان الأزرق"، بدءاً من اختيار المدينة، مروراً بالأماكن التي تجمع الشخصيات، داخل مدينة سلا العتيقة بتراثها ومظهرها الخلاب المنتمية للماضي، انتهاءً بالحمام الذي يلعب الدور الأكبر في بناء حكاية "حليم" حيث أنه ملجأه لتفريغ رغباته، وفي المقابل البيت الذي يجمع مينة وحليم، بيت هادئ حميمي يعكس ملامح حياتهما.

أحياناً يصبح الحب عبئاً يتمنى صاحبه لو يتخلص منه. في حالة مينة وحليم فإن حياتهما كانت أفضل ما يحلمان بعيشه رغم المرارة التي كانت حاضرة في الكثير من الفصول، لكن ما يخشاه حليم هو أنه ربما لن يجد من يتقبله كما هو... "القفطان الأزرق" الفيلم المغربي

يتحرك الفيلم إلى الأمام بطريقة أفقية تأملية في حياة مينة وحليم ويوسف الوافد الجديد، ويكتشف المشاهد حياتهم بتمهل شديد إذ يستعير الفيلم آلية صناعة القفطان، هذا اللباس التقليدي. وظفت مريم توزاني بناء الفيلم وتركيبه البصري بالطريقة ذاتها حيث التركيز على التفاصيل، والأنامل، والخيوط الحريرية، والغزل، والنظرات، ولغة العيون المتبادلة بين الشخوص الثلاثة. وعليه، يشعر المشاهد أنه يسترق النظر إلى حياتهم في شاعرية بالغة، تعبر عن الحالة الإنسانية التي ينسجها الفيلم.

يغرق المشاهد في تجربة المراقبة والتلصص، وفي الوقت ذاته يتسع إحساسه بالمكان/ العالم المحيط بشخصياته، والمدينة بما تحمله من ملامح صوتية تشكلها حركة المارة، والمهن القديمة، والأغاني التراثية التي يتغزل بها الأحبة. وأجادت توزاني توظيف الأغاني في العديد من اللحظات الدرامية التي رسمت ملامح دراما الفيلم وعلاقة الشخوص.

ثقل محبب

رغم حميمية القصة واندماجها مع التراث الحضاري المغربي، استعانت مريم توزاني بعيون أجنبية لرسم ملامح صورة الفيلم البصرية، فاستعانت بمديرة التصوير البولندية Virginie Surdej التي شاركتها من قبل في فيلم "آدم" عام 2019، والمونتير Nicolas Rumpl المعروف عربياً بمشاركته في الفيلم التونسي "نورا تحلم" (2019)، إذ أضفى كل منهما لمسة واضحة، ما دعم تأثير القصة الإنسانية الحاضرة منذ اللحظات الأولى للشريط الفيلمي.

الحال ذاته مع الموسيقي المعروف Kristian Eidnes Andersen، إذ لم تكن الموسيقى ضيفاً دائماً على مسامع المشاهد، حيث لا يهدف الفيلم إلى استجداء تعاطف المشاهد بل جعله معايشاً للحدث وتحركه المتمهل، وترك مساحة للأغاني التراثية لتكون بطلاً صوتياً تجاوره الموسيقى على استحياء بالغ.

للمرة الثانية، تستعين المخرجة مريم توزاني بالممثلة لبنى الزبال، المغربية الأصل والبلجيكية الجنسية، في بطولة ثانية بعد فيلم "’آدم"، والتي أضفت بأدائها ملامح شديدة القرب من شخصية مينة، والمتغيرات التي تمر بها، ورغبتها في استثمار كل لحظة لقضائها مع زوجها حليم، الذي لعب دوره الفلسطيني صالح بكري، متحدياً بنجاح اللهجة المغربية، وساعدته على ذلك قلة الحوار والاعتماد على الأداء التمثيلي. قدم بكري شخصية حليم ببراعة واضحة، وانفعالات طبيعية مدروسة.

أحياناً يصبح الحب عبئاً يتمنى صاحبه لو يتخلص منه. في حالة مينة وحليم فإن حياتهما كانت أفضل ما يحلمان بعيشه رغم المرارة التي كانت حاضرة في الكثير من الفصول، لكن ما يخشاه حليم هو أنه ربما لن يجد من يتقبله كما هو مثلما فعلت مينة، التي فارقت وتركته من دون سند يجاوره.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image