خبرتي في الحياة كامرأة جعلت من جسدي دائماً ساحة لمعركة ما، بكل ما يحمل جسدي من معان لي وللمجتمع الذي يعتبرني جزءاً من مشهده البصري والقيمي. لست الوحيدة في ذلك الصراع بالطبع، تشاركني فيه صديقاتي ومن حولي من النساء في دوائر أوسع.
التفكير الدائم في الحشمة وغيابها وما تعنيه لنا بشكل شخصي، اجتماعي، مجتمعي، ديني، علماني، أجنبي، أصيل، جنسي، محافظ، وما بين كل هذا وذاك، جزء حقيقي من تجربتنا كنساء. بين كل تلك المناوشات، لا يُعَلِّمنا أحد مبدأ السيادة على أجسادنا (إلا المحظوظات). ننُعَت بالتقدمية والتخلّف بناء على اختيار ملابسنا التي بالتبعية لابد أن تعني شيئاً بسبب نشأتنا في مجتمعات تُحَمِّلنا عبء ما يعتبرونه ضمن أشكال الشرف (بتعريفاته المختلفة) قبل كل شيء، فنجد أنه لابد من اختيار فريق ننتمي إليه دون اعتبار أطياف الفرق الموجودة من حولنا، والتي نخترعها ونجعل منها بدعتنا ومشروعنا باستمرار كي نشعر بالارتياح تجاه أجسادنا وبها.
أثناء محاولات ثنائية التدين والعلمانية كَسب أجسادنا في أي الفريقين، كانت أعيننا على الغرب في 2017 لمشاهدة معركة النساء هناك على السيادة الذاتية على الجسد. بعد عقود من الصراعات وبعد الضجّة التي أحدثتها حملة #metoo في الحديث عن أجساد النساء، اتسع المجال لاكتشاف مفردات جديدة تجيد وصف التجربة الشخصية وتضيف إلى مفرداتنا مصطلح السيادة-الذاتية على الجسد.
شاهدنا معاركنا اليومية تُنَاقش على الملأ في سياق هوليود. ظهرت تونيا سينا، التي أسّست لانتشار مهنة تنسيق الحميمية، وقامت بتأليف دليل لمنسّقي الحميمية، لتعلن أن السيادة الذاتية على الجسد هي أساس علاقة الشخص بكيانه التشريحي/البيولوجي، وتكشف أمامنا حقيقة أن اعتبار أجساد النساء في السينما الأمريكية (التي يحتذي بها الكثيرون حول العالم) غير مُؤَسَس له بأي شكل من الأشكال، وأن أغلب ما نراه على شاشتنا هو تعدٍّ على أجساد النساء باسم الارتجال الجنسي.
نتعرّض لفكرة شبيهة في السينما المصرية، تم طرحها من خلال فيلم "بلاش تبوسني" في كانون الأول ديسمبر 2017. كانت الفكرة الأساسية في الفيلم عن مشهد لقبلة بين بطلي القصة الذي عزفت البطلة عن تأديته بغرض الحشمة الجنسية. تتطور مشاعر البطلة لتصبح المسألة أخلاقية ذات طابع ديني تصل بها إلى حد الاعتزال، ثم نراها تراجع موقفها وتعود للشاشة الصغيرة كمقدمة لبرنامج طبخ، وبعد فتوى من رجل الدين الذي تعتبره ناصحاً أساسياً لها، يقرّ لها استعمال الباروكة كغطاء لشعرها (على نهج التقاليد اليهودية الأرثوذكسية) من أجل العودة لامتهان التمثيل (كما فعلت الممثلة صابرين في الواقع) فتسترد شعبيتها كنجمة مسلسلات.
التفكير الدائم في الحشمة وغيابها وما تعنيه لنا بشكل شخصي، اجتماعي، مجتمعي، ديني، علماني، أجنبي، أصيل، جنسي، محافظ، وما بين كل هذا وذاك، جزء حقيقي من تجربتنا كنساء
نتعرّف على صراع البطلة النفسي، العاطفي، القيمي والجسدي كحدث محوري لقصة الفيلم. تأتينا أصوات عدة، منها المخرجان محمد خان وخيري بشارة، اللذان يلعبان كاريكاتير لشخوصهم في الحقيقة. تعليق الحلال والحرام يأتينا من خلال صوت البطلة التي تؤرقها احتمالية دخولها جهنم في الآخرة، والتي تصيبها بعبء نفسي تعبر عنه طوال الفيلم.
بينما تأتينا أصوات المنتج ومخرج الفيلم الشاب ومساعديه وأم البطلة وفنانة معتزلة ومحمد خان وخيري بشارة وأم المخرج بتعليقات حول حلاوة القبلات وأهميتها في السينما، دون الإشارة لارتياح بطلة الفيلم من عدمه في محاولاتها المتتالية لممارسة السيادة الذاتية على جسدها، لأن الصراع يُمَثَل لنا كمعركة قيمية على طول الخط.
تقول أم المخرج في مشهد معه إن "الناس محتاجة تتباس"، ويعلن خان أن "كله بيتقل في الأول" (أي يتدللن/يتمنّعن عند البدء في التصوير) ويعلن بشارة أن "الفن زي الأكل والشرب"، وبالتالي القبلات على الشاشة، كما يحرّض الأخير المخرج الشاب على تسريب مشهد للقبلة المصيرية في واحدة من الإعادات، حيث فسد المشهد بسبب أن أحد عاملي الصوت عطس أثناء التصوير. ويعدّ هذا التحريض ولاحقاً الفيلم، تلخيصاً لغياب السيادة الذاتية لجسد البطلة التي تتصارع عليه الأصوات المختلفة دون أن يتطرق الفيلم لهذه الجزئية ولو حتى بشكل عابر. يتم التعامل مع تسريب مشهد القبلة كأنه أضحوكة، ويكلل لنا الاستخفاف بأجساد النساء الذي يطلب منهن أن يتعاملن بحيادية مع أجسادهن، ولكن تظل معركة الفيلم قيمية.
أغلب ما نراه على شاشتنا هو تعدٍّ على أجساد النساء باسم الارتجال الجنسي
أنتجت شركة أخبار فايس تسجيلاً نُشِر على يوتيوب بتاريخ 30 يوليو 2020 بدأ بحوار مع سارة لوزوف، مخرجة الحميمية في مهرجان أوريجون لأعمال شكسبير. تقول سارة إن أهمية تنسيق الحميمية في الفنون الأدائية بدأ بالتحقق بعد حملة #metoo. حيث بدأ الاعتراف بأهمية إخراج وتنسيق المشاهد الحميمية التي تشمل تعلم التراضي كأساس للعمل والحفاظ على سيادة جسد الممثل أو الممثلة في حالة وجود مشاهد فيها عري أو إيحاءات جنسية، وكذلك تعميم إخراج الحركات والخطوات كما في المشاهد الخطرة ومشاهد القتال.
تشير سارة لوزوف إلى أن تعزيز الحدود بين الأشخاص وفهم معنى التحرّش هو الأصعب أثناء العمل. تعد حملة #metoo اللحظة التي تم الاعتراف بالجنس كممارسة تقع فيها الكثير من التعديات وأشكال من الاستغلال. تشير سارة زولوف إلى القاعدة الدراجة التي يتعلمها الغالبية للحصول على فرص عمل مستقبلية، والتي تشجع أن يقبل كل منا ما يعرض عليه/ا بدون نقاش، ما يجعل إقناع الممثلين والممثلات برفض كل ما ينتقص من سيادتهم/ن على أجسادهم/ن ووضع شروطهم/ن كطرف أساسي في العمل العامل الأهم لتطبيع ثقافة السيادة الذاتية على الجسد، وعدم صحة استحواذ ثقافة الوصاية على بيئة العمل.
أهم ما حاولت المنسقات توضيحه في تغطية فايس هو ألا نشعر بالذنب لأن أجسادنا ملكنا حتى أثناء العمل. بعد عامين من ضجة حملة #metoo، قامت نقابة ممثلي وممثلات السينما الأمريكية بإعلان بيان متعلّق بالمسألة في 29 يناير 2020، تضمن برتوكول من عدة فصول: "التراضي، موازين القوة بين الأفراد، رفض التحرّش واستخدام الملابس المحتشمة والعوازل للأمان والراحة والصحة الجنسية"، ولكن غاب عن البيان أي إشارة لأية مصادقة رسمية قانونياً على تلك المواد، ما يجعل الوثيقة غير ملزمة.
الأهم في صراع السيطرة على الجسد أن نميز ما يعني الطرف الآخر الذي يَطلب منا أن نجعل من أجسادنا أدوات محايدة، وأن نسائل ذلك الحياد الذي قد يعني في أغلب الأحوال أن نسلم سيادة أجسادنا لأناس آخرين دون أي اعتراض
يظل المحيط العام يعتبر تنسيق وإخراج المشاهد الحميمية نوعاً من أنواع الوقائية من أي شكاوى قانونية أو تشويه لسمعة الشركات المنتجة، ما يطلق علية "متلازمة-ما-بعد-واينستين". اللحظة الفاصلة في رأي تونيا سينا هي الانتخابات الرئاسية التي فاز بها دونالد ترامب بسبب الكثير من تصريحاته التي جاءت فيها إساءة واضحة للنساء، والتي أفصحت على الملأ وقتها عن أنواع من التنكر للمساواة بين الرجال والنساء كانعكاس لأسلوب فكر أعم متبع في المجتمع ككل في مجالات مختلفة.
تقول سارة لوزوف إن المجتمع الأمريكي مهووس بالبورنوجرافيا، ولكن لا أحد يريد أن يتناولها بشكل نقدي. كيف لصناعة السينما التي تعتمد على اختلاق الحكايات والمشاهد أن تستعين بمخرجي مشاهد الحركة والقتال والتسلق وما إلى ذلك وتطلب من الممثلين والممثلات أن يرتجلوا في المشاهد الجنسية التي لا يملكون لها خبرة إلا من حياتهم الشخصية، والتي لا يفترض أن تكون محل اختبار في مواقع التصوير.
غياب صوت النساء في صناعة القرار في المجال السينمائي له تأثير في تفشي هذه الثقافة التي لا تضع اعتباراً لأجساد النساء وأهمية السيادة الذاتية على الجسد. أوضحت تونيا سينا أن استئذان المخرج لا يلغي استئذان الممثلة، والوصول لتلك القناعة يحتاج إلى تمرين حركي وتمرين تشريحي وتمرين على الانفعالات الشخصية. تصديق الموروث في ثقافة الجسد بمثابة فخّ لأنه يجعل منا جميعاً كتلة من الأجساد السلبية، ويسلبنا البعد النقدي الذي ينبع من كون الجسد مساحة غاية في الخصوصية لا يمكن أن تكون محايدة. يقع في ذلك الفخّ العاملون في المجال السينمائي، لأن من يديرونه يحافظون على ذلك الموروث الذي أسَّس له من أتوا من قبلهم، ولكن الحديث عن صناعة السينما في هوليود ليس بعيداً عن مصالحنا كنساء في أي مكان في العالم، ويفتح لنا حواراً مضمونه يخاطب حياتنا الشخصية والطرق المختلفة التي تتصارع بها الحشود في مجتمعاتنا لاكتساب نقاط في أجسادنا، أياً كان الفريق.
يصح لنا أن نتعلّم الرفض كما أشارت سارة لوزوف. أكتب هذه الكلمات وأجد نفسي محاصرة بالمسؤولية تجاه كل النساء التي قد تهدد تلك الصراعات حياتهن بأشكال مختلفة لا يستطيع تقديرها إلا هن. أظن أن الأهم في هذا الصراع الطويل أن نميز ما يعني الطرف الآخر الذي يَطلب منا أن نجعل من أجسادنا أدوات محايدة، وأن نسائل ذلك الحياد الذي قد يعني في أغلب الأحوال أن نسلم سيادة أجسادنا لأناس آخرين دون أي اعتراض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...