حملت عبء والدي منذ الصغر. خفت عليه كما خاف علي، وذكرته في أدعيتي وفي لحظات عشوائية في أوقات اللعب. أحببت والدي جداً عندما كنت صغيرة، وعندما كان حبه أمراً سهلاً يخلو من تعقيدات الوعي بعلاقتي به.
خفت عليه من ذلك العذاب الأبدي والقصص المروّعة عن عذاب القبر التي احتلت حيزاً كبيراً من تعاليم الطفولة. "إن كان هناك رجل طيب عانى في حياته الكثير، لا يؤذي أحداً ويساعد من حوله، لكنه غير مسلم، هل يدخل الجنة؟". كرّرت هذا السؤال كثيراً على مسامع معلماتي عندما كنت في الابتدائية. كان الجواب دائماً واحداً: لا.
لم أتفاجأ بالجواب، لكنني كنت أتمنى سماع شيء مختلف كلما كرّرت السؤال. أبي اعتنق الإسلام حتى يتمكن من الزواج بأمي، بالرغم من الاعتراضات الشديدة من قبل عائلتيهما. لكنني منذ الصغر تعلمت أن إسلامه "على الورق" فقط. لم أستطع تقبّل فكرة أن طيبة أبي وشخصه المسالم في الحياة غير ذي أهمية، وأن صبره على المصاعب العديدة التي كسرته على مر السنين لا يهم، وأن مصيره معروف ومؤكد لمجرد أن إسلامه مجرد حبر على ورق.
كان الفضول الشديد يتملكني لمعرفة المزيد عن نصف عائلتي المسيحية، عن أسماء أفرادها التي كثيراً ما تختلف عن أسماء عائلة أمي. بين "جورج" و "محمد" و "خديجة" و"كليمنس"، وجدت العديد من القصص التي تجنّب والداي الحديث عنها. لذلك كنت أغتنم أية فرصة تأتيني من زيارات عمي القليلة من بيت لحم، أو دعوة إلى مراسم زفاف في كنيسة ذات شبابيك ملونة.
خفت على أبي من ذلك العذاب الأبدي والقصص المروّعة عن عذاب القبر التي احتلت حيزاً كبيراً من تعاليم الطفولة. "إن كان هناك رجل طيب عانى في حياته الكثير، لا يؤذي أحداً ويساعد من حوله، لكنه غير مسلم، هل يدخل الجنة؟"
حامت بذهني أسئلة لا حصر لها، أسئلة لم تزعجني على الإطلاق، بل شعرت نحوها بشيء من المسؤولية، تدعوني لتكريمها بالتفكر بها وما قد تحمله من أجوبة.
لم أشعر بأي نوع من الخجل أو الاختلاف السلبي نحو هذا الشق الديني في عائلتي، بل العكس تماماً، شعرت بالغضب كلما طلب أحد مني عدم التحدث عن الموضوع. ذات يوم في الابتدائية، قرّرت تتبع أسماء أجدادي قدر الإمكان، وتوصلت إلى 7 مقاطع، 3 منها كانت مسيحية بوضوح.
بدأت بكتابة اسمي الكامل على أوراق الامتحانات ودفاتري، لا لسبب غير أني كنت سعيدة بنتائج تقصّي تاريخ العائلة، حتى تم إرسالي إلى غرفة المعلمات في يوم من الأيام. تحلقت المعلمات حولي وكأني متهمة في جلسة استماع. لم تدم الجلسة طويلاً، فلم يتسن لي الحديث كثيراً، كل ما أذكر هو منعي من كتابة اسمي كاملاً، لأن ذلك يعتبر "افتخاراً" بنصف عائلتي المسيحية، وذلك لا يجوز.
لم تهتم المعلمات بتاريخ عائلتي أو تجارب أمي وأبي في هذا الزواج الذي تحدى الكثير من الناس والعواقب، ولم يكترثن بما يجول في خاطري من استفسارات ومتاهات ضعت بها أحياناً. عدت لكتابة اسمي من أربعة مقاطع، والذي تقريباً لا يوحي بأية ديانة. لكني كنت دائمة الحيرة إن كنت سأطالب بكتابة اسم العائلة فقط لو كان اسم أبي غير حيادي، كاسم عمي جورج؟
لم يخل قرار زواج والداي من المشاكل والتحديات، كذلك كان النشوء في بيت تختلف فيه معتقدات وأفكار الأب عن الأم. كان التأثير الأكبر لوالدتي، فنشأت أنا وإخوتي في بيت مسلم، في الأغلب. صلّيت وصمت كأمي، أحببت المقرئين الذين أحبتهم، ودعائي لأمي كان أحد أركان إيماني. كانت علاقتي بالدين بسيطة جداً قبل بدأ طرح الأسئلة، البعض منها طرحت تأثراً بوالدي الذي فقد إيمانه بكل شيء. لا أتحدث عن الدين فقط، بل الحب والحياة والقتال.
كان والدي أحد جنود المقاومة الفلسطينية في لبنان، كما كانت أمي تعمل في مركز المقاومة هناك أيضاً. شاء القدر وشاء الشتات أن يلتقيا ببعضهم في مخيم شاتيلا، حيث عاشا أحداث مجزرة صبرا وشاتيلا معاً في عام 1982.
لم أتعلم أن أحب بشكل مطلق، ولا أن أصدق بشكل أعمى، ولا أن أكره بشكل كامل. وبالرغم من شدة الضياع أو الرغبة البائسة في شيء من الهدى، إلا أني تعلمت أني لا أرغب بتعلمها
لا أعرف الكثير من تفاصيل قصصهم وتجاربهم في لبنان، سوى بعض ما يشاركانه معنا صدفة إن سمعا أغنية أو شاهدا مشهداً ذكرهم بشيء من حياتهم في المخيم، لكن ما أعرفه هو تمسك أبي العظيم بالقضية آنذاك.
بعد المجزرة، قرّرت عائلة أمي اللجوء إلى السويد، ليصبحوا لاجئين للمرة الثانية بعد شتاتهم من حيفا في 1948. رفض أبي الهجرة وبقيت معه أمي، وبذلك انفصلت عن عائلتها بشكل كامل، وزاد اغترابها الذي لن ينتهي أبداً. أحتفظ بتلك الصورة لأبي المقاتل المؤمن بالقضية في أعماق مخيلتي حتى لا أنساها كلما أرى فيه انكسارات الهزائم الآن، أما والدتي، فبالرغم من كل شيء، ورغم الفشل، إلا أنها لم تتوقف قط عن الأمل بحياة أفضل تذوق فيها شيء من اسمها، سعاد.
ما بين أبي وأمي، بين الجرح والضمادة، وجدت نفسي أسلك طرقاً تختلف عن الطرق المعتادة. طرق في محاولات فهم عائلتي ومجتمعي ومدرستي ونفسي. كثيراً ما اختلفت دروسي المتعلمة من أهلي وأبناء حارتي وأقاربي عن تلك الدروس المحصورة في أسوار المدرسة، وكم أنا شاكرة لذلك بالرغم من حيرتي المتزايدة.
لا أظن أن هناك شكلاً واحداً لطرح الأسئلة والسعي للبحث عن الأجوبة، إن وجدت، ولربما أهم ما تعلمته من تجربتي في هذا البيت متعدّد الأصوات أني لن أجد أجوبة لكل أسئلتي، أو على الأقل لن أجد أجوبة شافية بالضرورة. كان يصعب علي رؤية الأمور من منظور واحد أو أن أكوّن مشاعر واضحة تجاهها. لم أتعلم أن أحب بشكل مطلق، ولا أن أصدق بشكل أعمى، ولا أن أكره بشكل كامل. وبالرغم من شدة الضياع أو الرغبة البائسة في شيء من الهدى، إلا أني تعلمت أني لا أرغب بتعلمها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 10 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت