"أكيد بنت اللّي بتسوق" و"هاي سواقة بنت!" وغيرهما الكثير، جملٌ تنتشرُ بين الشُبان وبعض الفتيات في الأردن عند امتعاضهم من قيادة سيارةٍ مجاورةٍ لسيارتهم أو أمامها، بطريقة لا تعجبهم، في إشارةٍ منهم إلى أنَّ الفتيات غير قادراتٍ على قيادة السيارة أو لا يصلحنَ لذَلك ويتسببن بالعديد من الحوادث ويخلقن أزمات مروريةً كان يمكن تفاديها لو كان السائق ذكراً.
غير أن التقرير السنوي للحوادث المرورية في الأردن لعام 2020، كشفَ أن الرجال في المملكة أكثر ارتكاباً لحوادث السير من النساء بـ6 أضعاف، إذ إنَّ عدد السيدات اللواتي ارتكبن حوادث بلغن حالةً واحدةً لكل ألف امرأة تحمل رخصة قيادة، وذلك مقابل 6 رجال لكل ألف رجل يحملون رخصة قيادة ارتكبوا حوادث فيها إصابات بشرية.
فتاة السباقات
هذه ليست قصة فتاةٍ تقود السيارة في شوارع العاصمة عمّان، وإنما هي عن شابة هَوَت قيادة سيارات السباق في الحلبة، وسط الدخان وقطع الغيار؛ لتكون أصغر فاحصة للسيارات في الأردن وأول فتاة تدخل مجال السباقات، تبعتها في ما بعد فتاةٌ أُخرى.
ميرا الترزي 21 عاماً، التي نشأت في منزلٍ يُحبُ سباق السيارات الرياضيّة؛ إذ كان والدها المدير المسؤول عن فحص السيارات في إحدى الحلبات وهو ما دفعها للمداومة على مرافقته إلى الحلبة، ومتابعة سيارات السباق تزامناً مع إشباع فضولها حول كيفيّة الفحص.
تقول ميرا لرصيف22: "كان الجميع يقولون إني كَذَيل والدي. كنتُ أتبعه أينما ذهب".
كبرت الترزي داخل الحلبات، ودأبت على متابعة السباقات مع عائلتها كل نهاية أُسبوع، لتكتشف شغفها بسيارات السباقات مع بلوغها عامها الـ16، وبدأت بذَلك رحلة التنافس مع والدها الذي كان مثلها الأعلى في السباقات، وتحدّته في إحدى المرات بمنافسةٍ بينهما وتغلّبت عليه، وهو ما تتحدث عنه بفخرٍ والسعادة تغمرها.
هل ما زالت الفتاة الأردنية لا ترقى لمنافسه الرجال في مضمار القيادة؟
حلبة ومنزل
لم تكن الحلبة مجرد مكانٍ لسيارات السباق بالنسبة لميرا؛ إذ كبرت بين العاملين والمتسابقين فيها، وشَهدوا على نموّ شغفها أولاً بأول وهو ما خلق جوّاً من الأُلفة والود بينهم.
تتحدث عن ولعها بسيارات السباق وطريقة عملها المختلفة عن السيارات العاديّة من حيث الوزن، والمحرّكات، والإطارات المخصصة للسباقات لا للشوارع العاديّة، لذا اعتادت ميرا على إجراء تعديلاتٍ على سيارتها كلما سنحت لها الفرصة، تقول: "لا أوافق كثيراً على أن السائقين العاديين يمكنهم أن يكونوا سائقي سيارات سباق، الشوارع العاديّة لا تشبه شوارع السباق!".
الترزي، التي تشارك في سباقات السرعة، توضح أنَّ السيارة التي تقودها عادةً ما تكون محميّةً وهو ما يساعدها على مواجهة الخوف في أثناء السباق، خاصةً أن بعض السائقين يعمدون إلى تركيب قفص حمايةٍ في سياراتهم، كما أنَّ الحلبة مغلقة ويحيط بها رجال الدفاع المدنيّ والفاحصون وكل من بإمكانهم مدّ يد العون حال وقوع حادث. كل هذه العوامل ساهمت في خلقِ جوٍّ من الأمان خلال السباقات، بالإضافة إلى إحاطة والدها الدائمة بها.
أول سباق
"يزول التوتر بالكامل مع بدء السباق"؛ بهذه الكلمات تصف ميرا تجربتها مع أول سباقٍ خاضته عام 2021، إذ هدأت أفكارها وصفا عقلها وركّزت على السباق فور بدئه، فلا وقت للتفكير في أي شيءٍ آخر غيره!
هذه التجارب ساعدتها على صقل مهاراتها واكتساب خبرةٍ حول تصنيفات وفئات سباق السيارات والمقدار الذي تحتاجه السيارة من ضح الوقود أو التحكّم بالمقود في أثناء القيادة، وهو ما دفعها بالكامل للاندماج فيه والرغبة في التعرف على عالم السباقات.
العام الماضي كان حافلًا بالنسبة لميرا، إذ تمكّنت من الحصول على ممولٍ لها بعد تنقلها بين 20 شركةً بحثاً عن داعم، وحصلت على إطاراتٍ جديدة، و"صنوبرصات" معدّلة، وهو ما جعل العديد من الأشخاص المحيطين بها يُثنون على جهدها واجتهادها وسرعة تطوّرها، على حدّ وصفها.
وفي مطلع شهر نيسان/ أبريل الماضي، شاركت في أول رالي لها، وتلخص تجربتها تلك بـ"المذهلة"، إذ إنَّ هناك وقتاً محدداً لكل سيارةٍ للانتقال من منطقة الصيانة إلى مراحل السباق، بالإضافة إلى وقتٍ محددٍ لكل مرحلة، ووجود شخصين داخل كل سيارة (السائق ومساعده)، وسط درجات حرارةٍ عاليةٍ يتناساها المتسابقون فور اندماجهم مع السباق، تقول: "بعد مشاركتي في الرالي أصبحت بإمكاني معرفة السيارة من الداخل والخارج؛ بصفتي متسابقةً وبصفتي فاحصةً كذلك".
في الثامنة عشر من عمرها -بعد بلوغها السنّ القانونيّة- تطوّعت ميرا لتصبح من أفراد الفحص الفني. بدا الجميع مستغربين من وجود فتاةٍ بينهم، ودفعهم فضولهم لمراقبتها خلال عملها وهو ما زاد من توتّرها، إذ راقبتها عيون الجميع خلال فتح غطاء السيارة، إلا أنها كانت على معرفةٍ بالمسؤوليّة الملقاة على عاتقها، فالفاحصون هم من يتحمّلون مسؤولية السيارات وسلامتها في الحلبة. لم يكن الأمر مزحةً.
الجامعة والأب
قطعت الترزي أميالاً من المعرفة قبل دخولها إلى الجامعة، وذلك نتيجة المعلومات التي حصلت عليها من والدها. تقول: "أبوي هو جامعتي، أُقدِّر علاقتي معه، ليس مجرد أب يعلّم الأمور"، خاصةً أنها الفتاة الوحيدة في تخصصها الجامعيّ وفي السباقات، إلا أنَّ والدها كان متفهماً وداعماً لطموحها، ولا يزال.
لم تكن فترة ما بعد الثانويّة العامة سهلةً على ميرا، إذ يفرض طلب القبول الموحّد للجامعات الأردنيّة على الطالب تعبئة خيارات بديلة عدة للتخصصات التي يرغب في دراستها، ولم ترغب هيَّ إلا في دراسة تخصص هندسة السيارات الذي كان قد افتُتح عقب إنهائِها الثانوية العامة. ولأنها لم ترغب في غيره، فقد ضاعت بين الخيارات التي لا تملكها، وبين أصدقائها الذين أنهوا تقديم طلباتهم الجامعيّة.
وكالعادة، اتجهت إلى والدها الذي اصطحبها إلى الجامعة في محاولةٍ منه لتخفيف توتّرها، حتى تمكنت من دخول تخصص هندسة السيارات، وكانت الفتاة الوحيدة بين مجموعةٍ من الذكور في التخصص.
انقلبت الآية، وصار بعض الرجال هم من يخشون منافسة النساء في مجالات ظلت حكرا عليهم لعقود
تعليقات مسيئة
لم تخلُ حياة الترزي من التحديات إذ لاقت بعض السخرية حول سيارتها التي تراهَن البعض على أنها غير قادرةٍ على استعمالها وسط الحلبة، إلا أنَّ ميرا برهنت لهم عكس ذلك تماماً! وبرغم ما حققته خلال حياتها إلا أنها ما زالت تتلقى بعض العبارات التي تعدّها مسيئةً عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، وتنقل تعليقاً قرأته مفاده بأنها مع ممارستها لهذه الهواية "للأسف سلبت أنوثتها!".
وتعلّق ميرا على الانتقادات التي قرأتها لأنها فتاة تقود سيارات السباق، بأن الأشخاص لا يعرفون حياتها ويحكمون عليها وفقاً لهويتها وهو ما يثير استياءها، خاصةً أنها لطالما فكّرت في الاستسلام قبل أن تعود وتطرد الفكرة من رأسها.
شغفها بالسيارات لم يحُل دون التعليقات السلبيّة، ولم يحمِها أيضاً من الحوادث، إذ اصدمت سيارتها ذات يوم، وقبل أُسبوع من سباق اعتزمت المشاركة فيها، وهو ما أصابها بقلقٍ عارم من المشاركة إلا أنَّ والدها شجّعها على المشاركة لكسر حاجز الخوف لديها، وهو ما حدث بالفعل.
ولعل فوز ميرا في السباقات وحبّها لها متأصلٌ في عائلتها، فهي لم ترثهما من والدها وحسب، بل إنَّ شقيقيها يحبان هذه الهواية وعمتّها هالة الترزي قد فازت في سباق خلال تسعينيات القرن الماضي، ونالت كأساً عقب ذلك الفوز.
هذا كله دفع الشابة للإيمان بأن الأحلام كبيرة يبذل الناس جهدهم لتحقيقها وذلك في ضوء النظرة النمطيّة للمجتمع حول قيادة المرأة للسيارة. تقول: "ركّزوا على حياتكم، الحياة تفاهم بين الأشخاص ومكان النساء ليس المطبخ".
وشهدت المملكة سباقين عالميين لرياضة سباق السيارات أُقيما فيها، هما؛ MERC وBAJA، وشارك فيهما العديد من المتسابقين من مختلف أنحاء العالم، في حين تُنظَّم السباقات المحليّة أواخر شهر شباط/ فبراير وتستمر حتى نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...