في سوق حي الشباب في مدينة الدار البيضاء، عربات لبيع الخضار متراصّة دون زبائن. هو يوم سبتٍ والسوق شبه "صامتة" على خلاف عادتها. لم تعد تسمع أصوات الباعة المنادين بالأسعار قصد جذب المشترين، فالأسعار لم تعد مغرية، «لم أعد أستطيع أن أقول للناس السّعر، أيعقل أن يكون سعر هذه 10 دراهم للكيلوغرام الواحد؟ "، يتساءل محمد بائع خضار في السوق، وهو يمسك بين يديه حبات طماطم ضعيفة الجودة، ويضيف متحدثا لصريف 22 "لا يوجد في السوق إلا الأسعار المرتفعة. لا يوجد أي إقبال. نار الأسعار ملتهبة، إذا وضعت يدك على الخضار فستكويك نارها".
بينما ينتظر محمد وغيره من باعة الخضار إقبال المتسوقين على عرباتهم، يجد عبد الرزاق بائع السّردين صعوبة في تلبية طلبات زبائنه، يقول إن إقبال الناس على السردين وإن كان سعره مرتفعاً يرجع لكونه يبقى أرخص من الدجاج، فهو بمثابة تعويض عن اللحوم التي لم تعد شريحة واسعة من الناس قادرة على استهلاكها، فيردّ جاره محمد إن من المواطنين من يتخذ من السردين تعويضاً للخضار أيضا، "لملء القفة تحتاج 200 درهم (نحو 20 دولاراً)، سعر السردين 15 درهما (1.5 دولار)، نحن في هذا البلد لن نأكل إلاّ السردين. ولكن كاين الله" يقول وهو يرفع يديه نحو السماء.
نار الأسعار.. ورواتب لا تتحرّك
عمر موظف أربعيني متزوج وله أبناء، يقف أمام عربة محمد وفي يديه قائمة المشتريات المحددة بدقة. هو المسؤول الوحيد عن إعالة أسرته، ويجد صعوبة في تلبية احتياجاتها، فالأسعار ترتفع وراتبه الشهري قارٌّ لا يتزحزح، ما اضطره للتخلي عن الكثير من الأمور لتقليص المصاريف. يقول متحدثا لرصيف 22 "كنت أشرب ماءً معدنياً، عوضته الآن بماء الصنبور. لم أعد أخطط لقضاء عطلة نهاية الأسبوع خارج البيت، كما لم أعد أشتري الملابس لي ولأسرتي، فقد طلبت مني ابنتي حذاء رياضياً جديداً منذ أزيد من شهر، ولم أستطع أن أشتريه لها".
خاصمت زوجتي التي لا يعجبها مبلغ المصروف الذي أعطيها. رمتني بسلة المشتريات وقالت لي اذهب بنفسك إلى السوق
لم يقتصر تأثير غلاء الأسعار في حياة عمر على الجوانب المادية فقط، بل تعدّاه إلى علاقته بزوجته، "هذا الغلاء أثّر على نفسيتنا وسبّب الاحتقان، بلغ هذا أن خاصمت زوجتي التي لا يعجبها مبلغ المصروف الذي أعطيها. رمتني بسلة المشتريات وقالت لي اذهب بنفسك إلى السوق"، يحكي عمر وهو يتفقد قائمة المشتريات.
أما أمينة وهي موظفة تعيل أسرتها، فراتبها القارّ لم يعد يكفيها لتحمل نفقات الشهر بعد أن كانت تدخر منه، "ترتفع الأسعار والرواتب ثابتة. أحمل 500 درهم (نحو 50 دولاراً) لن أشتري بها لا اللحم ولا الدجاج. حمدناك يا ربّي وشكرناك الله يلطف بينا"، تقول وهي تحرّك يديها في حركة استسلام.
أكبر المتضررين الفقراء
لم تسلم الأسر من الطبقة المتوسّطة من تبعات ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، فكيف للطبقة الفقيرة التي تبحث عن قوت عيشها يوماً بيوم أن تتكيف مع هذا الوضع؟ تقول أمينة "عندي راتب قار وأعاني، أما الطبقة الفقيرة فلن تستطيع العيش. لا يجد الناس حتى ما يأكلونه"، وهذا حال خدوج المرأة الستّينية التي تعيش لوحدها، ولا معاش لديها إذ تعيش على مساعدات المحسنين. تتجول في السوق حاملة قفة شبه فارغة، تسأل الباعة عن الأسعار ثم تتابع سيرها، تقول إنها لم تعد تشتري سوى نصف كيلوغرام من بعض الخضار الأساسية، وأحيانا تشتري ربع كيلوغرام فقط، أما الدجاج فلم تعد تشتريه.
ما بقاش الخير اللي كنَّا عايشين فيه، كنتي تشري 10 سلع بألف درهم اليوم تقدر تشري بيها غير 7
يقول رشيد صاحب محل بقالة في حي ياسمينة الشعبيّ، لرصيف 22 إن زبائنه لم يعودوا يشترون سوى المواد الأساسية والضرورية، فلم يعد الناس يفكرون في اقتناء منتوجات كالشوكولاتة وغيرها من المنتوجات التي كانت ضمن قائمة مشترياتهم قبل أن ترتفع الأسعار بهذه الطريقة، ويضيف "ما بقاش الخير اللي كنَّا عايشين فيه، كنتي تشري 10 سلع بألف درهم اليوم تقدر تشري بيها غير 7".
حكيمة إحدى زبونات رشيد تحكي لرصيف22 بأنها أرملة تدبّر مصروفها بتقديم دروس الدعم في منزلها، "توفي زوجي في فترة كورونا. ليس لدي أي مدخول أما ابني فرغم أنه درس في الجامعة فهو لا يجد أي عمل ويبقى في البيت"، تمسك ورقة نقدية من فئة مئتي درهم لتقدّمها لبقّال الحي، تشير إليها وتقول إن هذا ما حصلت عليه من عملها وستصرفه في اقتناء مستلزماتها الأساسية.
وعود حكومية غير مقنعة؟
مع هذا الوضع يتزايد الغضب من الحكومة المغربية. ورغم أن رئيسها عزيز أخنوش أكد في أكثر من مجلس حكومي على أن إنتاج الخضروات خلال السنة الحالية في مستوى جيد، وربط ارتفاع أسعار الطماطم بموجة البرد التي يعرفها المغرب، ووعد بأن يتراجع سعرها اللحوم وغيرها عبر إجراءات ضريبية فإن أجوبته وأجوبة وزرائه لا تقنع والغضب يتزايد.
محاولات أخنوش لطمأنة المواطنين في ظل استمرار ارتفاع الأسعار، لم تحل دون نزولهم إلى الشارع للتنديد بموجة الغلاء التي تعرفها البلاد
دعا أخنوش وزراءه إلى تجنيد مصالحهم لتعزيز مراقبة السوق الوطنية والسهر على ضمان تموين مستمر لها بالمنتجات الغذائية ومحاربة المضاربات، كما أوقف تصدير الطماطم والبصل إلى أسواق غرب إفريقيا لتوفيرها في السوق الداخلية إلى وتقليص الأسعار. لكنها إجراءات تظل عاجزة إذ أن أغلب المنتوجات الفلاحية توجه إلى أسواق دولية، عبر عقود صارمة، يستحيل التراجع عنها لفائدة السوق المحلية.
محاولات أخنوش لطمأنة المواطنين في ظل استمرار ارتفاع الأسعار، لم تحل دون نزولهم إلى الشارع للتنديد بموجة الغلاء التي تعرفها البلاد، إذ شهدت عدة مدن مغربية في الآونة الأخيرة وقفات احتجاجية مندّدة بالغلاء ومستنكرة لارتفاع أسعار الخضروات في بلد فلاحي، ورفع المتظاهرون شعارات من قبيل "بلادي فلاحية والخضرة غالية علي"، و"كيف تعيش يا مسكين المعيشة دارت جنحين" كما توجه دعوات لرئيس الحكومة بالاستقالة لأنها ترى أنه قاد وزارة الفلاحة في حكومات متعاقبة وأن مشروع "مخطط المغرب الأخضر" الذي أطلقه وأشرف عليه لسنوات أتى بردود أفعال عكسية. لكنها دعوات لا تجد آذانا مصغية، وقد تتزايد حدتها مع انعكاسات أزمة اقتصادية وموجة تضخم عالمية تلقي بظلالها على المغرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...