شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
هنا رقد الجميع تحت الركام... بين جوف الليل ورائحة الزمان

هنا رقد الجميع تحت الركام... بين جوف الليل ورائحة الزمان

مدونة نحن والحقوق الأساسية

السبت 18 فبراير 202301:12 م

لا منزل لك بعد اليوم، تصرف وقتك فيه؛ تُكنسه وترتّب محتوياته بيديك. لن تشعل النور ولن تزيح الستائر. لن تُعدّ الفطور للعائلة المؤلفة من خمسة أشخاص، لن تلعب "الغميضة" مع أولاد الجيران، ولن تجلس على الكرسي الدوّار. لن تتعارك مع إخوتك على الميراث، ولن تقاطع شقيقتك إن هي تزوجت شاباً من خارج الدين. حتى مدّخراتك التي خبّأتها ذهبت هي الأخرى. أما حضن الأب والأم، فلم يعودا اليقين. لا حضن تأخذه بعد اليوم بذراعيك. ذهب الحضن ومعه ذهب المكان وتلاشى اليقين.

كنت واعيةً تماماً عندما اهتز سريري ومعه اهتزت أسرّة السوريين جميعاً، فجر السادس من شباط/ فبراير. كان الصبح قد بدأ يتنفس، حين استيقظت الأحلام من غفوتها وانزلقنا... هوب، فجأةً وفي أربعين ثانيةً انتقل الجميع من فوق إلى تحت، وفوق الرأس الذي تحمّل ركام اثنتي عشرة سنةً، انهار سقف ما تبقى من جنى العمر. يا له من هبوط سريع ومرير يحتاج منا أن نفتح أعيننا على اتساعها ونعيد التفكير في تفاصيل لم ندرك قيمتها يوماً وأصبح من الضروري أن نتداركها نحن الأحياء الذين ما زلنا مجازاً على قيد الحياة.

الموت قد تغير، ولم يعد "الموت الطبيعي" الذي سبق أن سمعنا عنه وعايشناه، ذاك الموت الذي كنّا نخافه ونتهيّب قدومه، لكنه مع ذلك كان موتاً رحيماً يتيح لنا متسعاً من الوقت نحيط فيه بالمتوفى لوداعه، قبل أن نسير خلفه حاملين النعش إلى مثواه الأخير. كان موتاً سعيداً كما أحب أن أسمّيه. خبِرت هذا النوع من الموت عند وفاة جدتي والدة أبي عام 1997.

 كان الصبح قد بدأ يتنفس، حين استيقظت الأحلام من غفوتها وانزلقنا... هوب، فجأةً انتقل الجميع من فوق إلى تحت، وفوق الرأس الذي تحمّل ركام 12 سنةً، انهار سقف ما تبقى من جنى العمر

كانت جدتي، واسمها "نعامة"، قد استحمّت لتوها وجلست بجانب سريرها تغسل ملابسها بيديها في وعاء يُسمّى "الطشت". أنهت فضّ الغسيل وبدأت تعصره، وقبل أن تنتهي، وكما هي على قعدتها، أسندت ظهرها إلى السرير وماتت. لقد حدث هذا بالفعل. ما زلت أذكر ذلك اليوم جيداً. كنت في الصف الخامس، وكانت مدرستي قريبةً جداً من منزلها. كان الجو بارداً كما هو الآن تماماً عندما سمعنا الخبر. أخبرني أبي أنها توفيت في شباط/ فبراير أيضاً، في مثل هذه الأيام، وفي صبيحة اليوم التالي لدفنها كانت القرية مُغطاةً بالثلج.

في موتها السعيد، أتيح لجدتي أن تُسرِف في الزمن والحياة؛ رأت أولادها وهم يكبرون وكذلك رأت أحفادها. بقيت حتى وفاتها عن 96 سنةً، قوية البنية والجسد وقادرةً على خدمة نفسها بنفسها من دون حاجة إلى أحد. كانت تطبخ وتغسل وتنظّف البيت وتذهب لجلب مياه الشرب من النبع. ظلّت هكذا حتى آخر شهقة. الناس في القرية قالوا إنها نعمة من الله ورضا.

أما اليوم، فماذا عسانا نقول عما يحدث لنا من موت سريع ووحشي؟ ثمة من قضى عمره يجمع ثمن منزله، فتحول في لحظة إلى ركام، وثمة من اكتنز واغتنى فخرج من الحياة بثيابه، وثمة من كتب أهدافه في المساء لكن الغدَ لم يأتِ. أكثر من هذا، هناك من رمى بولده إلى الموت لينجّيه من الموت. نعم، هذا ما فعله أب بابنه عندما وقع الزلزال: رماه من الطابق الثالث قبل أن ينهار المبنى بالكامل على بقية الأخوة والعائلة في أغرب حادثة قد تشاهدها وأكثرها حزناً.

أما الثلج، فلم يعد يمثّل لنا حالةً جماليةً نحن السوريين. حتى البياض بات يرعبنا ويزيد من حجم المأساة. للمرة الأولى نتمنى لو يتوقف الثلج عن التساقط، فهناك في البرد والعراء والخيام أحبّة وعائلات ومنكوبون ومفقودون ونيام وأموات وأمل وسؤال صعب يردده الجميع: ماذا نفعل في الغد، ومن أين نبدأ فحتى الصفر لم يعد موجوداً؟

بالأمس فقط، وقبل يوم من الزلزال، كانت حبات البرد تتساقط وتضرب الأرض بقوة كالحجارة. جلست وأنا أشعر بسعادة كبيرة لأن منزلي يُصادف في الطابق الأرضي ما يتيح لي سماع صوت المطر لحظة ارتطامه بالأرض. شعور أحببته مذ كنت صغيرةً أعيش في القرية، قريتي التي لم تمنحني متعة السمع فقط بل فعل المشاهدة والفِرجةَ أيضاً. مُتعة حرمتني منها المنازل الطابقية في المدينة، خاصةً تلك المنازل المحشوة في داخل البناء وخلفيته والتي لا تفعل شيئاً سوى استنزاف دخلك المتدني على جدران اسمنتية مغلقة، كما الزنازين، على كل شيء، سوى على مواء القطط وصراخ المتزوجين بفعل الأزمات العائلية. أما وقد انهار البناء بالكامل بفعل الزلزال، وسار كل ما في حوزة اليد إلى الهلاك، وازداد النهار وضوحاً، فأظن أن ساعتنا جميعاً ستدقّ كثيراً قبل أن نفكر في النهوض مجدداً، أو أن نقوى على النظر.

على هذه السجادة صلّى أبي ودعا لي، وعلى هذا السرير أنفقت أمي ساعات من الوقت تراقبني بعينيها الصامتتين. هنا رقد الجميع الرقدة الأخيرة تحت الركام بين جوف الليل والدم ورائحة الزمان

فجائياً كان الزلزال وقاسياً وقاصماً. تأثيراته ستمتد في عمق القادم من الأيام، وستدوم لسنوات وسنوات. هكذا هو الألم، يأتي بسرعة لكن زواله يحتاج إلى وقت طويل جداً.

إلى ذلك الحين، سيبقى من نجا يتأرجح بين ذكريات الجدران التي انهارت على رؤوس ساكنيها، ولن يتوقف عن استعادة المشهد في كل لحظة يغمض فيها عينيه ويتذكر.

هنا خلف النوافذ كان يرقص الصباح، وهنا على زاوية المرآة كانت الشمس ترسل فيضاً من بحيرات أشعتها، وهنا في السقف الذي أطبق كانت تتدلى خيوط بيوت العنكوت، وهنا على كتف الباب كان أبي يعلّق صورنا وشهاداتنا وزينة الميلاد. هنا جلسوا وهنا ناموا، هنا لعبوا وهنا ضحكوا، هنا ربحوا الشرط وهنا تعاركوا، على هذه السجادة صلّى أبي ودعا لي، وعلى هذا السرير أنفقت أمي ساعات من الوقت تراقبني بعينيها الصامتتين. هنا رقد الجميع الرقدة الأخيرة تحت الركام بين جوف الليل والدم ورائحة الزمان. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image