شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
نحن السوريين الناجين، لسنا بالناجين أبداً

نحن السوريين الناجين، لسنا بالناجين أبداً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 16 فبراير 202311:57 ص
Read in English:

Why? Syrians ask themselves why anyone deserves their predicament


لا تبدو الحياة منطقية أبداً، بل وأصبحت أرى كلمة "العدل" كالديناصورات المنقرضة، لا شيء أفكّر به الآن أكثر من كلمة "لماذا" ودون إلحاقها بأي كلمة أخرى، عندما تكون مواطناً سورياً لا تحتاج لأن تسأل أكثر ولا لأن تقول أكثر، وأراهن أن لا أحد في العالم قادر على الإجابة أبداً حين يقف أي سوري ليصيح "لماذا؟".

لطالما شعرت أنّ موتنا لم يحدث ضجيجاً حقيقياً، وأنّ أي فعل على هذه الأرض الحزينة ليس له رد فعل يساويه بالشدة أبداً، بل لا يوجد رد فعل أساساً، وأننا نموت بصمت كما لو كانت سوريا تسبح لوحدها في الفراغ، ولطالما رأيته أمراً مؤلماً، والآن حين أصبح العالم كله يشاهد موتنا بعدما صرخت أرضنا الحزينة وابتلعت ثباتنا، صار المشهد مؤلماً أكثر، الجميع يرانا والجميع يحصي جثثنا والجميع يتمعّن بوجوهنا الباردة تحت الحطام، ومع هذا استمرينا في الموت على مرأى ومسمع الكرة الأرضية بأكملها، وشعرت كم أنّ الموت تحت الأضواء أقبح من الموت خلف الستائر.

نموت بصمت كما لو كانت سوريا تسبح لوحدها في الفراغ، الجميع يرانا والجميع يحصي جثثنا والجميع يتمعّن بوجوهنا الباردة تحت الحطام، ومع هذا استمرينا في الموت على مرأى ومسمع الكرة الأرضية بأكملها

لا أستطيع أن أنسى تلك الليلة أبداً ولن أستطيع، رغم أنّني عانيت من الحرب كجميع السوريين، وهربت من الموت مراراً، وتركت ورائي عشرات المنازل بحثاً عن الأمان، ولكن تلك الليلة هي شيء آخر، مأساة مختلفة وشعور مختلف. إنّه الشعور بأن كل شيء قد خذلك حتى أرضك، ويصبح الهروب شيئاً مستحيلاً، وتختفي كلمة "أمان" نهائياً، ويتحوّل العالم في نظرك إلى وحش كبير لا تدري متى سينقض عليك ليقتلك، ففي اللحظة التي تهتزّ بها الأرض من تحتك ترغب بالصراخ والبكاء والركض، ولكن يختفي مفهوم الاتجاهات في عقلك، فلا يبقى لديك يمين أو يسار، وتدرك في لحظة أنّك مجرّد لون رمادي، ومجرّد رقم تخشى ألا يحصوه مع الأرقام، وتركض باتجاه أفراد عائلتك فقط، تمسك بهم وتنظر إلى وجوههم كما لو كانت لحظة وداع، وتصرخ في داخلك: "لا... لا يا إلهي لا".

لا أحد في العالم قادر على الإجابة أبداً حين يقف أي سوري ليصيح "لماذا؟"

تدرك كم أنت ضعيف وكم أنّ الموت قد يكون قريب، وتتحوّل جدران منزلك إلى "بعبع" كما لو أنّك قد عشت حياتك كلّها بلا مأوى حقيقي، ورغم أنّ هذا الشعور لم يستمر أكثر من دقيقة، ورغم أنّني خرجت من هذه الدقيقة سليمة دون أضرار لا للمنزل ولا سكانه، إلّا أنّني منذ تلك اللحظة وإلى الآن وأنا في حالة صدمة، أرى نفسي كل ليلة تحت الأنقاض، أشاهد ما وثّقه الآخرون من موت ودمار وأرتعب أكثر.

أعلم بأنّني أنا وجميع الناجين نجونا بالصدفة، أتعلم ما هو الشعور بأنّك قد نجوت بالصدفة؟ هذا يعني أنّ جميع شهداء الزلزال هم نحن وجميع المصابين هم نحن، وجميع المتضررين والعالقين بالطرقات والملاجئ هم نحن، ولكنّها الصدفة جعلتهم هم وليسوا نحن.

لم أعتقد أنّني قد أحتاج كل هذا الوقت لأتمكن من التحدث عن هذه الكارثة، كل ليلة كنت أحاول أن أكتب أي شيء لأقوله للناس، ولكنني لم أستطع، لم أتمكّن حتى من تقديم كلمات العزاء أو المواساة، لم أتمكّن من شيء إلا الصمت والحزن والخوف المستمر.

حزن كبير لا تدرك كيفية تقسيمه، وتود أن تستمر في البكاء والبكاء، والأقسى هو شعورك بالعجز، ماذا يعني أنّني ما زلت حيّة ولا أستطيع إنقاذ طفل خائف تحت أنقاض منزله الذي ظنّه آمن؟ ماذا يعني أن أحاول النوم كل ليلة وهنالك أصوات تصرخ طالبةً النجدة ولا يمكنني سماعها ولا احتضانها ولا الرد عليها؟ ماذا يعني أنّني هنا حيّة وجميعنا هنا أحياء، وهناك المئات مثلنا كانوا أحياء ولكن تحت الأنقاض، انتظروا طويلاً ليبحث عنهم أحد، ليجدهم أحد، انتظروا طويلاً حتى لا يخذلون، أتعلم كيف يكون الشعور وأنت تنتظر فرصةً أخرى في هذه الحياة فلا يجدك أحد؟

هذا العالم قاس وغير عادل بالتأكيد، ولكنّه لم يقس على أحد كما فعل معنا، ولم يظلم أحد كما فعل معنا، والأسوأ هو أنّه مازال مستمر في فعلته، ولا نستطيع سوى الرضوخ والاستسلام والتسليم، ومدّ حبل النجاة نحوكم

أعلم كم تضامنت معنا شعوب وبلدان في هذه الكارثة، ورأيت حزناً حقيقياً في عيون عشرات الأشخاص الذين أعرفهم من بلدان عربية مختلفة، وأعلم أنّ الآلاف بكوا علينا، ولكنّني أعلم أيضاً أنّنا مخذولون مخذولون، وأنّنا لطالما متنا كحوادث السير، وأنّنا دوماً كنّا مجرّد أرقام أو جنسية، ولا فرق بيننا بالوجوه والأعمار والأحلام والمصير، وفي حين أنّ الجميع في الخارج ينتظر لحظةً في عمره ليكون بطلاً، إلّا أنّنا هنا نحلم بالبقاء أحياء فقط، وإن كنا مجرّد كومبارس أو حجر شطرنج في أيدي الأبطال.

لا أدري متى ستنتهي قصتنا الحزينة هذه، ولا أدري إلام سنبقى نحكي عن الموت والموت فقط، إلام سنبكي نحن السوريين على بعضنا، وإلام سيبكي العالم علينا، وإلام سنظل نطلب النجدة والعون، ولا أدري متى سوف نبدأ من جديد، متى بإمكاننا أن نحلم مجدداً ونعيش مجدداً ونشعر بالوجود مجدداً، متى سيكون لنا أسماء حقيقية، أسماء ووجوه وأعمار وأحلام؟

متى نستطيع القول "نحن سوريون" دون أن تبدو أو تعني "نحن أموات"؟

هذا العالم قاس وغير عادل بالتأكيد، ولكنّه لم يقس على أحد كما فعل معنا، ولم يظلم أحد كما فعل معنا، والأسوأ هو أنّه مازال مستمر في فعلته، ولا نستطيع سوى الرضوخ والاستسلام والتسليم، ومدّ حبل النجاة نحوكم، وانتظار جميعكم ليرانا ويسمعنا ويجدنا، نحن الناجين لسنا بناجين أبداً... نحن أيضاً ننتظر أحدهم ليجدنا، ننتظر أحدهم ليعيدنا للحياة، فما نعيشه ليس حياة أبداً بل موت مؤجّل فقط.

ولا تسأل "لماذا؟"، بحثت عن الإجابة كثيراً ولم أجد إلّا جواباً واحداً غير مقنع أبداً: لأنّنا سوريون... ولكن ما ذنبنا؟

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image