نفّذ الصحافيون التونسيون، اليوم الخميس 17 شباط/ فبراير، يوم غضب في ساحة الحكومة في القصبة (العاصمة)، احتجاجاً على استهداف حرية الصحافة وضرب ديمومة وسائل الإعلام، زيادةً على التجويع الممنهج للصحافيين من خلال تعامل الحكومة مع ملفات المؤسسات الإعلامية المصادرة وعدم تمكين مؤسسات أخرى الصحافيين من مستحقاتهم المادية، وفق المنظمين. كما دعت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين إلى تنفيذ وقفات احتجاجية في الجهات، بالإضافة إلى حمل الشارة الحمراء خلال العمل الميداني.
الحرية والخبز أولاً
إن كان المطلب الاقتصادي حاضراً في الوقفة، فإن سؤال الحرية كان هو الآخر سائداً، إذ رفع المحتجون شعارات مناهضةً لتكميم الأفواه واستهداف قطاع الإعلام عبر شعارات قالت إن "محاكمة الصحافيين هي محاكمة للرأي"، و"لا لمرسوم القمع"، و"الخبر مقدس والتعليق حر"، و"موزاييك... الهمة خط تحريري".
تواجه الصحافة التونسية في الفترة الراهنة العديد من التحديات التي تهدد حرية التعبير بصفة عامة، وتهدد سلامة الصحافيين بصفة خاصة، في ظل تفاقم حالات الاعتداء على الصحافيين، ورفض الحكومات المتعاقبة نشر الاتفاقية المشتركة التي تنظم المهنة وتضمن الحقوق المهنية للصحافيين في الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية)، ومن بين أبرز المؤشرات الخطيرة الأخرى حملة التوقيف الأمنية التي تطال صحافيين ورؤساء تحرير آخرهم مدير عام إذاعة موزاييك، نور الدين بوطار.
يوم الإثنين الماضي، في حدود الساعة الثامنة مساءً، تم توقيف بوطار من قبل فرقة أمنية فتشت منزله واقتادته إلى منطقة الأمن الوطني في القرجاني حيث تم الاستماع إليه وقد قررت النيابة العمومية في القطب القضائي المالي تمديد مدة التوفيق لمدة خمسة أيام أخرى من دون توجيه أي تهمة إلى الإعلامي.
انتفض الصحافيون التونسيون احتجاجا على توقيف مدير إذاعة موزاييك نور الدين بوطار دون توجيه أي تهمة له ويرون فيها هجمة جديدة على حرية الإعلام
توقيف مدير إذاعة "موزاييك" الخاصة جاء في فترة شهدت فيها تونس حملة اعتقالات واسعةً شملت سياسيين ونواباً وقد وُجّهت إلى الموقوفين تهم من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد، بالتآمر على أمن الدولة والوقوف وراء أزمة المواد الغذائية وارتفاع أسعارها، وهو ما أثار حفيظة المعارضة التي رأت أن الإجراءات الأخيرة بلا سند قانوني وعنيفة تهدف أساساً إلى محاصرة المعارضة السياسية والصحافة.
إدانة واسعة
قالت المحامية دليلة مصدق، إن الأسئلة التي طُرحت من طرف المحقّقين على موكلها نور الدين بوطار، تتعلق بالخط التحريري لإذاعة "موزاييك"، ومن يختار المعلقين؟ ومن يحدد الخط التحريري للإذاعة؟ كما تم الاستفسار عن إدارة الإذاعة ومصادر تمويلها، ونفت المحامية وجود أي علاقة لقضية موكلها بالتوقيفات الأخيرة.
في هذا السياق، عبّرت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين عن عميق انشغالها من حيثيات توقيف نور الدين بوطار، التي تؤكد "التطور الخطير لمحاولات الهيمنة على وسائل الإعلام وتركيعها". ولفتت النقابة إلى أن الموقوف لم توجه إليه أي تهمة تدينه وتعلق جل التحقيق بالخط التحريري وكيفية انتداب الصحافيين ومجال تدخله في الإذاعة كمسؤول.
نقابة الصحافيين التونسيين: ما أقدمت عليه الفرق الأمنية منذ لحظات التوقيف الأولى، هو البحث عن أدلة لإدانة بوطار في محاولة يائسة باءت بالفشل وكشفت عن الهدف الأصلي من عملية التوقيف
وجزمت النقابة في بيان لها، بأن عملية التوقيف تأتي في إطار "الهرسلة" (التضييق) التي تمارسها السلطة منذ فترة على وسائل الإعلام عموماً، وعلى إذاعة "موزاييك" بصفة خاصة بهدف تدجينها وإدخالها بيت الطاعة وتوجيه خطها التحريري، كما أدانت النقابة "استغلال رئيس الجمهورية لسلطته من أجل تركيع الإعلام وتشويهه والتحريض عليه ومحاولات تلفيق التهم التي تُعدّ آخر حلقة في مسار ضرب حرية الإعلام في تونس في استهداف سافر للقوانين المنظمة للقطاع وهي المرسومان 115 و116".
كما أكدت نقابة الصحافيين، أن ما أقدمت عليه الفرق الأمنية منذ لحظات التوقيف الأولى، هو البحث عن أدلة لإدانته "في محاولة يائسة باءت بالفشل وكشفت عن الهدف الأصلي من عملية التوقيف، وهو ترهيب العاملين في قطاع الإعلام بعد تجويعهم وضرب مؤسساتهم".
تفاعلت العديد من هياكل الإعلام مع توقيف مدير إذاعة "موزاييك"، والتحقيق معه في ما يتعلق بالخط التحريري، فأدانت الجامعة العامة للإعلام المنضوية تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل، أي تدخل في الخط التحريري للمؤسسات الإعلامية محذرةً من التراجع المتواصل والخطير لحرية الإعلام التي ناضل من أجلها التونسيون ولا مجال للتراجع عنها مهما كانت الضغوط و"الهرسلة" والتهديدات.
كما رأت الجامعة أن استعمال الأمن والقضاء لترهيب النقابيين والإعلاميين يُعدّ سابقةً في تاريخ تونس ويمثل خطراً على الحريات في البلاد.
من جانبها، استنكرت النقابة الوطنية للإذاعات الخاصة، توقيف بوطار، ومحاولات التدخل في الخط التحريري للإذاعة، داعيةً إلى الحفاظ على مكسب الإعلام وإلى التوضيح وإنارة الرأي العام حول أسباب توقيف بوطار والتهم الموجة إليه إن وُجدت.
أما الهيئة العليا المستقلة، فقد دعت بدورها إلى ضرورة اعتماد أقصى درجات الشفافية في التعاطي مع الملفات المتعلقة بممارسة العمل الصحافي، وطالبت الجهات المختصة بتقديم التوضيحات اللازمة بخصوص توقيف نور الدين بوطار. وشدّدت الهيئة على مواقفها المبدئية المتعلقة بضرورة فتح ملفات الفساد في قطاع الإعلام، معربةً عن رفضها القاطع المس من حرية التعبير والصحافة واستقلالية الخط التحريري للمؤسسات الإعلامية.
"الصحافة لن تركع"
لا يُعدّ توقيف مدير إذاعة "موزاييك" سابقةً، فحملة الاعتقالات في قطاع الإعلام تعددت في الآونة الأخيرة، وسبق أن اعتُقل الصحافي مؤسس موقع "انحياز" غسان بن خليفة، وأحيل على القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، كما تم أيضاً توقيف الصحافي خليفة قاسمي، وفق الفصل 34 من قانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال لسنة 2015، إثر نشره خبراً حول الكشف عن خلية إرهابية، وقد تم الحكم على القاسمي بسنة سجناً على معنى قانون الإرهاب.
عضوة لجنة الحريات في النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، جيهان اللواتي، رأت أن الاحتفاظ بنور الدين بوطار، والاستماع إليه حول الخط التحريري للإذاعة استناداً إلى تصريح محاميته، مساس مباشر بخصوصية الإذاعة، وهو أمر مرفوض شكلاً ومضموناً، لافتةً إلى أن ضرب الحريات بدأ من المراسيم التي كان قد أصدرها رئيس الجمهورية، خاصةً منها المرسوم عدد 54 الذي أصبح بمقتضاه المجتمع برمته في سراح مشروط مع توقيف التنفيذ، لأن أي شخص يبث معلومةً من خلال تعبير حرّ في الإعلام، أو في مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن أن يكون رهن التوقيف بعد لحظات من تصريحه.
وأشارت اللواتي في حديثها لرصيف22، إلى أن الحريات في تونس حتى من خلال التصنيفات العالمية تراجعت إلى مراتب متدنية مقارنةً بما حلم به التونسيون من خلال الثورة التي تعدّ حرية التعبير من أهم مكاسبها وشددت المتحدثة على أن هياكل القطاع وخاصةً نقابة الصحافيين والمنظمات التي تؤمن بحرية التعبير لن تخضع لكل هذه الممارسات، ولن تفرّط في المكسب الحقيقي للثورة.
من جانبها، أكدت الناشطة الحقوقية بشرى بالحاج حميدة، خلال مشاركتها في الوقفة الاحتجاجية للصحافيين، أنها حرصت على الحضور ليس لمساندة الصحافيين فقط، بل للدفاع عن حقها كمواطنة تونسية في إعلام حر وتعددي وهو الحق الذي تتمتع به من تاريخ "14 جانفي 2011 " (تاريخ الثورة).
لفتت بالحاج حميدة، إلى أن ظاهرة الاعتداءات على الصحافيين مستجدة، وهذا لا يعني أن العشرية الماضية مثالية، لكن الحد الأدنى كان متوفراً ولم نصل إلى هذا المربع الذي أصبح يُعتقَل فيه مدير مؤسسة إذاعية، ويُسأل عن الخط التحريري وعن المتدخلين خاصةً منهم الأصوات المعروفة بنزاهتها وحريتها وثقافتها. كما شددت المتحدثة على أن بعض وسائل الإعلام أصبحت تدعو المتدخلين للوقوف مع "مسار 25 جويلة" (قرارات قيس سعيد لعام 2021)، أو نُحرم من حقنا في الظهور... وأقول لهم البلاد بلادنا ولن يخرجنا منها أحد.
جدير بالذكر أن تقرير نقابة الصحافيين لشهر كانون الثاني/ يناير 2023، كان قد تحدث عن تسجيل 29 اعتداءً على الصحافيين والمصورين الصحافيين خلال الدور الثاني من الانتخابات التشريعية، وطالت الاعتداءات 29 ضحيةً خلال المسار الانتخابي، و14 ضحيةً خارج المسار الانتخابي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...