تعيش إمارة الشارقة، أجواء "بينالي الشارقة" في دورته 15 التي تجمع عشرات الفنانين من دول مختلفة جلّهم ينتمون إلى بلدان الجنوب الكبير.
يطرح الحدث الثقافي الذي يُنظَّم كل سنتين، سؤال "التاريخ حاضراً" في دورته الحالية، وتالياً فهو يقدّم لعبة مرايا بين مختلف الأعمال، التي تُقرأ في سياقات تاريخية ومجتمعية خاصة، لكنّها مادة للُحْمة أعمق، هي عمل مجتمعات الجنوب على ترتيب دفتر "خسارات" و"انتصارات" على حقبة الكولونيالية، بما قدّمته حيناً وما سرقته وقمعته أحياناً أخرى، داخلها.
الفن مُفَكِّكاً للماضي
منذ ثلاثين عاماً، تحولت منصة "البينالي" إلى ملتقى لفنانين، لا ينحدرون بالضرورة من دوائر "السلطة" التي تفرضها المؤسسات والنقاد الغربيون مع أحداث ثقافية تعكس وجهة نظر غربية. وعليه، فإن هؤلاء الفنانين من ضيوف البينالي يطرحون أسئلةً أكثر إشكاليةً تعيد إليهم سلطة تدبير مشاريعهم الفنية وفق رؤى أكثر محليةً. يقترح الحدث الذي انطلقت فعالياته في 7 شباط/ فبراير الجاري، أعمالاً تجعل من حاضر بلدان الجنوب وماضيها، والمتحدّرين منها خريطة طريق لتفكيك الحقبة الاستعمارية وبناء أعمال تقارعها تُعرض خلال فعاليات الدورة.
إن كانت إدارة مؤسسة الشارقة للفنون قد شاءت هذا العام أن توسّع من دائرة المعارض، إذ تقدّم في مدن أخرى تابعة للشارقة كخورفكان وكلباء، فما يلاحظه الزائر الدائم للبينالي، هو أن هناك اختلافاً ليس فقط بخصوص فضاءات العرض، التي كانت تركز على الفضاءات التاريخية لمدينة الشارقة، بل أيضاً في طبيعة الأعمال مقارنةً بالدورات السابقة من البينالي الذي لم يُنظَّم منذ بدء جائحة كوفيد19. بهذا تجد اللوحات والصور مكانةً مهمةً مقارنةً بعدد الأعمال المشاركة، خلافاً لدورات سابقة كانت التَنْصِيبات الفنية فيها أكثر حضوراً.
تنزع الأعمال المقدّمة في الدورة الحالية من البينالي، إلى أشكال أكثر ارتباطاً بتيمات الهجرة والعلاقة بالاستعمار، وتحولات المجتمعات (ومنها العربية) وصولاً إلى سطوة الاستهلاك، فضلاً عن تقديم مرآة، يرى فيها المنتمون إلى الجنوب العالمي، أن المشترَك بينهم أكثر من المفرِّق.
تؤكد إدارة الشارقة للفنون، ورئيستها حور القاسمي، أن البينالي يأتي في سياق تفكير مستمر منذ أعوام في مسألة العلاقة بالاستعمار وآثاره، وبعلاقة مع القيّمين المختلفين لدورات سابقة. فقد تم التحضير للدورة الحالية عبر لقاءات آذار/ مارس، وهي مواعيد تشهد مشاركة عشرات المفكرين ونقاد الفن، الذين يقدمون أوراقاً بحثيةً بخصوص مواضيع يختارها المنظمون.
تقول المؤسسة إن "لقاء آذار/ مارس 2021، عاين تجليات الحاضر. في حين ناقش لقاء آذار/ مارس 2022 'متحوّرات ما بعد الاستعمار'، إرث الاستعمار، وآثار ما بعد الاستعمار والتأثيرات المعاصرة للقضايا المرتبطة بالممارسات الثقافية والجمالية والفنية في جميع أرجاء العالم".
لعلّ البرمجة خلال البينالي استحضرت هذه الروابط والآثار في اختيارها للمشاريع الفنية المشاركة، ومن ضمنها عرض أداء افتتاحي للبينالي جمع "مْعَلْمِين" موسيقى غناوة (المغرب)، وراقصي الكابويرا (البرازيل). لقاء تمخض عن مشروع للفنان حسن حجاج، وقدّم صورةً تفيد بأن القواسم المشتركة واللقاء بين شعوب الجنوب باختلاف لغاتها وثقافاتها أكبر أحياناً من الرواية الرسمية الاستعمارية التي تقسّم العالم وفق خرائط و"مناطق" متباينة.
يقول الفنان المغربي البريطاني الشهير في مجال الفوتوغرافيا عن المشروع الذي تمخض عنه فيلم وثائقي، يُعرض خلال البينالي، إنه يشغله منذ أكثر من عشرين عاماً، ولهذا وجد في الحدث فرصةً لتقديمه.
يستمد بينالي الشارقة 15، قوة برامجه/ اختياراته في موضوعه "التاريخ حاضراً"، الذي يشكل خيطاً جليّاً يؤسس جسوراً بين نحو 300 عمل فني من قارات عدة، وحساسيات فنية مختلفة لنحو 150 فناناً
فضلا عمّا يقوله، فإن الشَّكلين الموسيقيّين على الرغم من مساراتهما التاريخية المختلفة، يشكلان مشتركاً قوياً لموسيقى "العبيد" السابقين، وتالياً إثباتاً لوضع الموسيقى كأداة للتحرر من أسئلة العرق والأيديولوجيا، وانعتاقاً للأجساد من كل قيود المجتمعات التقليدية التي جعلت الاستعمار والإخضاع بالعبودية أداةً لتمزيق "العوالم القديمة". مقاومة جاءت عبر "أخويّات" صوفية أو روحية تعالج الأرواح بالرقص وتعيد تشييد شبكة علاقاتها بالمجتمع.
لعلّ عرض الأداء هذا يقول إن الماضي الذي ولَّد الموسيقى/ الرقصة، في سياقات مختلفة من القهر والإخضاع، يتحول إلى بوتقة معاصرة تقدّم إمكانيات هي في الآن ذاته فنية وسياسيّة.
يستمد بينالي الشارقة 15، قوة برامجه/ اختياراته في موضوعه "التاريخ حاضراً"، الذي يشكل خيطاً جليّاً يؤسس جسوراً بين نحو 300 عمل فني من قارات عدة، وحساسيات فنية مختلفة لنحو 150 فناناً.
استُعملت وسائط متعددة في هذه الأعمال منها الفيديو والأداء والفوتوغرافيا إلى جانب التنصيب الفني، للحديث عن الروابط البيِّنة أحياناً للكولونيالية مع الحاضر على سبيل المثال في علاقة أبناء الهجرة بالتاريخ الكولونيالي، وأحياناً عبر روابط خفيّة سرعان ما تتكاثف لتظهر أن الماضي جزء من الحاضر كما في عرض الأداء "شريحة مانغو/ زوجة الملك"، للفنانة الدومينيكانية جويري مينايا، والذي تتحول فيه العلاقة مع فاكهة المانغو إلى قصّة حميمية لـ"هجرة" عائلتها إلى الولايات المتحدة، ومعها إلى حديث عن دور الفاكهة في الاقتصاد وترتيب العلاقات داخل المجتمع، والعلاقات الجندرية، وصولاً إلى فكرة "المرأة الفاكهة"، التي تنتقدها الفنانة.
أعمال عدة قوّية تستحضر هذ العلاقات، مثل لوحة مالالا أندريا لافيدرازانا التي تتحول إلى "جدارية" تعكس تاريخ العالم وصراعاته منذ الأصول الأولى للبشرية، أو صور هيروجي كوبوتا، التي تعود إلى النصف الثاني من القرن الماضي وتقدّم مناضلين من البلاك بانترز وحركة الحقوق المدنية، وكذا أعمال التركية نيل يالتر التي ترفق صورها للمهاجرين بعبارة "المنفى عمل شاق".
تقدّم أعمال عدة مشاركة في البينالي تاريخ الشعوب الأصلية في مقاوماتها للاستعمار، من قبيل عمل "ذهب" للأمريكي عمر رشيد، ومواطنته ويندي ريد ستار التي تتحدّر من القبائل الأصلية ومن إيرلندا، وتقدّم عبر صور مستعادة من الأرشيف "مجسّمات" للسكان الأصليين، وطرائق عيشهم، ومواجهتهم للهيمنة.
ذاكرة عربية أخرى
ترينا الأعمال القادمة من المنطقة العربية وهجراتها، صوراً وتواريخ مختلفةً. فإن كان السوداني المصري فتحي حسن، يقدّم في أعماله الأشكال الفنية النوبية، في علاقتها بالتاريخ والاستعمار، فإن الجزائري الفرنسي قادر عطية، يقدّم عملاً "هيبنومنيماتا" متعدّد الوسائط، والتنصيب الفني "المرآة الكبرى للعالم"، الذي يريد من خلاله التفكير في علاقة المعرفة الغربية الاستعمارية بالرأسمالية اليوم، واستخلاص الثروات في المستعمرات السابقة. اللبنانيان خليل جريج وجوانا هادجيتوما يرويان سيرةً لمخيم نهر البارد، شمال لبنان، ومعها إعادة تركيب لتاريخ اللجوء الفلسطيني فيه.
مواطنتهما تانيا الخوري، قدّمت عرض أداء كان من المحطات الرئيسية لفعاليات افتتاح البينالي، تدعو جمهورها من خلاله إلى عيش تفاصيل قرية عكار اللبنانية، عبر وسائط صوتية وروائح، وذلك في عمل مشترك مع المؤرخ زياد أبو الريش.
وتقدّم الفلسطينية منى حاطوم تنصيباً، يريد محاكاة عالم السجون، وأدوار الإخضاع الاجتماعي، وهو السؤال الذي يجد صداه في عمل آخر، للتونسيين مالك قناوي وعلاء الدين سليم، اللذين يعيدان محاكاة أجواء سجون تونس، معتمدَين في ذلك على قصص سجناء سابقين. يحاكي العمل أجواء السجن، وبعد أن يغلق السجّان الباب وراء الجمهور، يدخلون تجربة العتمة والأصوات التي تمدّد الزمن، ليدخلوا كلياً ولو لدقائق في تجربة السجن وضبابيته، وتفاصيله الصغيرة من سرير ضيق وسجائر وخِرق تملأ الزنزانة.
فيديو بشرى خليلي
تجد ذاكرة العمال عموماً والعمال المهاجرين خصوصاً، مكانةً مهمةً في الأعمال المقدّمة في البينالي. من الأعمال الحديثة مع لوحات المصري فتحي عفيفي، إلى أخرى معاصرة مثل تنصيب الفيديو للمغربية بشرى خليلي، الذي قدّمت عبره تجربةً فريدةً لمهاجرين عرب استطاعوا فرض برنامجهم على الدولة الفرنسية، من خلال تقديم شخصية خيالية لمهاجر "جيلالي كمال"، للانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 1974 والتي أثارت نقاشا في وسائل الإعلام. حركة ضمّت تنسيقيات مختلفة كـ"العاصفة"، واتحاد العمال العرب المهاجرين في فرنسا، وحلفاء من الفرنسيين، واستطاعت عيش تجربة النضال من أجل الحقوق ولمناهضة العنصرية في الجنوب الفرنسي، الذي كان حينها أحد معاقل اليمين المتطرف.
يتحول عمل بشرى خليلي الذي حاز على واحدة من جوائز البينالي، إلى عمل أركيولوجي، يحفر في حقبة مغيّبة من التاريخ الكبير للهجرة، ولعله أحد أبرز المشاريع التي تقدّم فكرة التاريخ/ الماضي الذي ما زال يعيش قائماً في الحاضر
مايكل راكويتز
يتحول عمل الفنانة الذي حاز على واحدة من جوائز البينالي، إلى عمل أركيولوجي، يحفر في حقبة مغيّبة من التاريخ الكبير للهجرة، ولعله أحد أبرز المشاريع التي تقدّم فكرة التاريخ/ الماضي الذي ما زال يعيش قائماً في الحاضر.
إن كان الماضي يختفي تماماً في بعض الأحيان، فإن تفاصيله الصغيرة تظل قائمةً، وخير دليل على ذلك عرض أداء الفنان الأمريكي من أصول عراقية مايكل راكويتز، عبر نصّ عن علاقته بأصوله العربية، وتشبّثه بهذا التاريخ المنسيّ، ويصرّ الكاتب على فكرة أن العراقي اليهودي وتاريخه لم ينقرضا بعد.
الفنان الناشط الذي يطالب المتاحف الغربية بإعادة آثار عراقية إلى بلادها وينظم حملات في هذا الاتجاه، مرَّرَ خلال قراءته للنص عن "اليهودي العربي" الذي يسكنه، أدوات من الماضي اشتراها على مواقع إنترنت تجارية. نظارة ليهودي عراقي غادر البلاد منتصف القرن الماضي، بطاقة تاجر آخر سلّمتها إليه السلطات العراقية، توراة عربية مكتوبة بالأحرف العبرية تعود إلى بدايات القرن، وساعة تعود ليهودي عاش في بلاد الرافدين... وكأنها أشياء تبادلنا النظر، وتقول: "يعيش التاريخ بيننا دوماً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 23 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت