في الآية القرآنية "إلا من أكره وقلبه مطمَـئِن بالإيمان"، أطمئنُّ إلى حروف كلمة "مطمَـئِن"؛ أشعر بها تفيض اطمئناناً ورضاً وسكينة. هكذا تلهمني فيوضات اللفظ. اطمئنان القلب يكبح انفلات اللسان. ماذا يحتاج المؤمنون أكثر من الاطمئنان؟
المؤمن المطمئن بأي دين سماوي أو أرضي، وكذلك المطمئن بإلحاده، كلاهما متصالح مع نفسه ومع الناس جميعاً، أكثر غنى عن العالمين، أكثر ترفعاً عن تتبع نقائص غيره، أبعد عن الترصد والمعايرة، أوسع صدراً للمختلفين عنه أو معه. المؤمن الحق لا يستكثر رحمة الله على غيره، أيّاً كان دين هذا الغير. فما الذي يجري لمعتنقي الإسلام والمسيحية، وقد حشد كلاهما طاقات الغضب للنيْل من دين الآخر؟
كنت أحسب أن واعظين هواة ومحترفين، مهنتهم دعوة المسلمين إلى الإسلام، هم وحدهم غير المطمئنين بدينهم؛ فليجأون إلى التشكيك في عقيدة المسيحيين، كما يفندون بخطاب زاعق ساذج حجج الملحدين. وعلى الضفة الأخرى، فاجأني متحولون إلى المسيحية، بسلوك أكثر غلظة وأقل احتشاماً، يتعدى هجاء الإسلام إلى السخرية من إلهه.
كلا الفريقين يسعى إلى طمأنة أتباعه، وتأكيد إيمانهم بقصف جبهة الآخر، وتسفيه دينه، وإعلان الحروب الكلامية عليه. الأول يتهم المسيحيين بفساد العقيدة، وتحريف الأناجيل، واتخاذ المسيح إلها مع الله. والثاني ينكر إله المسلمين
مأساة الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، في الأسبوع الأول من شباط/فبراير 2023، أوقعتني في شرك التلفزيون، وقد اعتزلت مشاهدته منذ انتكاسة ثورة 25 كانون الأول/يناير 2011. اضطررت إلى متابعة الكارثة، فصادفتني قنوات مسيحية مهمتها التعبئة المعنوية السابقة على شنّ الحروب. ماذا أفعل وأمامي جيشان فضائيان في خطين متوازيين، كلاهما مضاد للآخر في الاتجاه؟
كلا الفريقين يسعى إلى طمأنة أتباعه، وتأكيد إيمانهم بقصف جبهة الآخر، وتسفيه دينه، وإعلان الحروب الكلامية عليه. الأول يتهم المسيحيين بفساد العقيدة، وتحريف الأناجيل، واتخاذ المسيح إلها مع الله. والثاني ينكر إله المسلمين، ويكذب رسولهم، ويتهمه باختلاق القرآن ونسبته إلى إله ساديّ. فريقان يستحقان الشفقة، هل هم مؤمنون حقاً؟
ما أطمئن إليه أن المؤمن الحق "مطمَـئِن"، ولأنه اطمأن فلا يعنيه صدق الأديان الأخرى أو كذبها، ولا يشغله أن يعبد غيره قمراً أو شجرة أو مدفئة. ألا توجد وسيلة أكثر عقلانية وإنسانية وتحضرا لإقناع الأتباع بأنهم على الحق المبين؟ أترك لهم الإجابة، ولن يجيبوا، ولن يسألهم أتباع جعلتهم الفضائيات متلقين سلبيين.
أبدأ بالفريق الأول. في المواقع الإلكترونية تراث كتابي ومقاطع فيديو للإجابة عن سؤال: "حكم الدين في تسمية النصارى بالمسيحيين". وكنا نعود من صلاة العيدين بمطبوعات تغذي غريزة الخوف على الإسلام، منها "قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا اهله".
وقبل عامين مرّ علينا، بقهوة في شارع قصر العيني بالقاهرة، رجل طيب يبيع هذا الكتاب وكتباً أخرى. وكانت توزع مجاناً على المصلين مطبوعات مدعومة من أموال الحجاز، تحمل فتاوى القريبين من دوائر الحكم السعودي: "وجوب عداوة اليهود والمشركين وغيرهم من الكفار". ومنذ سنوات كفّ الخطباء في مصر عن لعن اليهود والنصارى، في ختام خطبة الجمعة. ولكن ما في القلوب تكشفه الألسنة أحياناً.
وكيل وزارة الأوقاف الشيخ سالم عبد الجليل كان مسؤولاً عن الحوار بين وزارة الأوقاف والكنيسة المصرية، وكان أيضاً مستشاراً للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ووجهاً تلفزيونياً مألوفاً حتى جانبته الفطنة، في أيار/مايو 2017، بقوله في برنامجه التلفزيوني "المسلمون يتساءلون" إن عقيدة اليهود والنصارى "فاسدة وضالة، لكن لهم عندنا التعايش والمحبة والمعاملة الحسنة".
يحق للمشاهدين، خصوصاً المسيحيين المصريين، الاستفسار عن دلالة قوله: "لهم عندنا"، وأن يسألوا الشيخ: "من أنتم؟". ولن يجيب بالطبع؛ لأن هذه البرامج ذات اتجاه واحد، تتدفق الفتاوى من قمة معممة، إلى جماهير تريد المزيد من الاطمئنان على دينها. كلام الشيخ، وكثيرون أمثاله، يتضمن خطأ مركباً يجمع الاستعلاء الديني والوطني.
ما قاله عبد الجليل "فقه قديم" تنقصه الحكمة؛ فلسنا في أزمنة ثنائية دار الإسلام ودار الكفر، لكي نقول: "لهم عندنا" عن مواطنين لا يفرق بينهم وبين المسلمين رصاص العدو الإسرائيلي، أو إرهاب اليمين الديني. الشيخ وأمثاله الكثيرون يغفلون حقيقة أن العقائد لا تناقش، ولا يشملها النشاط المسمى حوار الأديان.
هل توجد عقيدة سليمة وأخرى سقيمة؟ كما يقبّل حجرٌ ويُطاف حوله، يجري تقديس حيوان والناس واعون بأنه لا ينفع ولا يضر، هو رمز مقدس يؤكد تجدّد الحياة. لكن الأخ رشيد حمامي يغرقني الفيسبوك بمقاطع فيديو لبرنامجه الذي يستهويه الطعن في عقيدة الإسلام. رشيد مغربي متحول إلى المسيحية، ويتفرغ للانتقام من الإسلام.
نسيت رشيد وسالم عبد الجليل زمناً طويلاً، نسيت التلفزيون ثم أعادني الزلزال فشاهدت صلاة مسيحية في قناة اسمها "الحياة"، وبعد الصلاة أعلن عن برنامج "المرأة المسلمة". شغلتني مفارقة برنامج عن المرأة المسلمة في قناة رجّحتُ أنها مسيحية. وشككت في ترجيحي؛ لأن مقدمة البرنامج اسمها أماني مصطفى. استرحت إلى صوتها الهادئ ولهجتها المصرية، وجذبتني ملامحها القريبة من ميريل ستريب، وكل ما يذكّرني بالسيدة ميريل يعجبني، لولا أن الحلقة عنوانها "ولع محمد بأحاديث العذاب والنار". هنا عرفت من "الأخت أماني" أنها كانت مسلمة، واعتنقت المسيحية، ولا أعرف لماذا تريد الثأر من عقيدة الإسلام؟ وتصف "إله المسلمين" بأنه مخيف، مرعب، مغرم بتعذيب العصاة.
المؤمن المطمئن بأي دين سماوي أو أرضي، وكذلك المطمئن بإلحاده، كلاهما متصالح مع نفسه ومع الناس جميعاً، أكثر غنى عن العالمين، أكثر ترفعاً عن تتبع نقائص غيره
لماذا تهتم الأخت أماني بالمرأة المسلمة؟ من المنطقي ربما أن تنشغل بتوعية المرأة المسيحية بتعاليم دينها، بدلاً من تقصّي القذى في عيون المسلمات. الأعطاب متبادلة، فريق ذو أغلبية يريد حرمان المسيحيين من الشرف الوطني بالالتحاق بالجيش، ومن رحمة الله في الآخرة. وفريق ذو أقلية عددية لا يملك إلا حرمان المسلمين من الفردوس. في تسجيل للباباً شنودة إجابة عن سؤال يخص رجلاً ارتد ثم مات، وتمسكت أسرته بالمسيحية، ودعت الكاهن إلى الحضور للعزاء أو الصلاة فرفض. ألا يُقدم العزاء إلى الأسرة المجروحة؟ أجاب بأن العزاء ممكن، "والكنيسة لا تصلي عليه... نصلي في السر على اعتبار أن يكون تاب في آخر أيامه".
هؤلاء وهؤلاء بخلاء، "يقسمون رحمة ربك"، وقد "وسعت كل شيء"، ويتجاهلون آية "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة"، لقطع الطريق على فتنة الامتياز. انتبه إلى ذلك الشيخ مصطفى عبد الرازق، عام 1909 في رحلته إلى فرنسا، وهو مطمئن القلب، خال من العقد الشخصية والدينية؛ فانشرح صدره لمحبة الناس. على السفينة جاورته عائلة هندية، وسأله كبيرها: "هل أنت محمدي؟"، وعرف الشيخ أن معارك نشبت بين مسلمين وهندوس من أجل بقرة، يمتهنها المسلمون ويقدسها الهندوس. وكتب: "لا أهين البقر ولكنني لا أعبده... فيا ليت المسلمين والهندوس لا يتناحرون من أجل حيوان معبود!".
شيخ شاب مستنير، سيكون شيخاً للأزهر، رفض إهانة البقر، ودعاة ومبشرون يهينون الأنبياء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون