عمل "استثنائي" يسلط الضوء على الحالة النفسية لأمهات المهاجرين الأموات، ولأزواجهن وأحبائهن بعد الفراق. بعضهن لم تجف دموعهن إما لما يشعرن به من ألم أو لأن البحر التهم فلذات أكبادهن، وأصبح في نظرهن قبراً بلا شاهد.
وأمواجه التي طالما ألهمت المبدعين والفلاسفة بصخبها وضجيجها الحلو، وتموجاتها الراقصة التي طالما شبه بها الشعراء شعور وعيون حبيباتهم، باتت مجرد تجاعيد، علامة الهمّ والزمن.
كانت هذه الأفكار أول ما خطر على بالي، عندما حضرت مسرحية "تجاعيد البحر"، فهل كنت محقة في رأيي هذا؟
شهد جمهور المسرح الجهوي بسيدي بلعباس، مدينة ساحلية تقع غرب الجزائر، العرض المسرحي "تجاعيد البحر"، وهي من إخراج هشام بوسهلة، وتمثيل بن عبد الله جلاب بدور الحوات (الصياد)، وجناتي سعاد في دور أم الملاكم، وفاطمة بن سلمان بدور الهاربة أم الراقصة، وبنكامو نوال بدور زغرودة أم البطال، ودلاوي نبيلة بدور دمعة والدة الأم العازبة، والممثلة مسلم جهيدة بدور حكاية أم الصحافية.
أحداث العرض الذي جاء في المرتبة الأولى من بين 15 عرضاً ضمن الأيام التصفوية المؤهلة للمهرجان المحلي للمسرح المحترف، الذي انعقد بمسرح سيدي بلعباس تحت عنوان "المسرح نسق متجدد" في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، وسيعاد عرضه في رمضان 2023، أحداث هذا العرض تدور داخل "البوطي" أو القارب الذي يستعمل وسيلة نقل من سواحل الجزائر إلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط.
وراء كل أم حكاية
ينفتح المشهد الأول على اللقاء الذي جمع الأمهات المسنات ذات ليلة بالحوات (الصياد) في شاطىء صخري مهجور حيث كان يخبئ قاربه المهترئ. هذا المشهد يضع المشاهد أمام عرض فعلي وواقعي لأنه يعالج قصصاً حزينة تعكسُ واقعاً مأسوياً تعيشه أسر جزائرية يومياً، تبدأ فصوله عند ركوب الأمواج من أجل بلوغ الجنة الموعودة.
يعتمد العرض على مشاهد ارتجالية تختلف جذرياً عن تلك التي ألفناها في المسرح التقليدي.
يعتمد العرض على مشاهد ارتجالية تختلف جذرياً عن تلك التي ألفناها في المسرح التقليدي، وتفاعل معها المتفرج بشكل كبير.
يقول المخرج هشام بوسهلة عن مسرحيته: "تجاعيد البحر عمل يمزج بين تجاعيد الأم العجوز والبحر الذي ركبه يوماً ما ابنها. لم أطرح فكرة الهجرة غير الشرعية بتلك الطريقة الكلاسيكية التي تكلم بها الجميع، بل أردت تسليط الضوء على فراق الأم لابنها، الذي قد يصبح في غياهب المجهول. فالكثيرون فُقدوا في عرض البحر، ولم يبق من أجسادهم سوى أشلاء، بعدما نهشتها الأسماك، أو جثث منتفخة تطفو فوق وجه البحر، وقوارب لم يسلم منها سوى أخشاب بالية، ودلاء البنزين التي تتقاذفها أمواج البحر العاتية".
لا تمر أيام أو شهور قليلة حتى نسمع عمليات هجرة غير شرعية، فقد أحبطت وزارة الدفاع الجزائرية هجرة 6426 شخصاً بطريقة غير شرعية خلال 2021، بينما تم توقيف 5839 مهاجراً غير شرعي من جنسيات مختلفة، وجرى تفكيك شبكات إجرامية خطيرة.
خمس قصص
ويتجسد البعد المثير في العمل المسرحي في قصص خمس أمهات كبيرات في السن، يرافقهن صياد عجوز، قررن يوماً ركوب البحر بحثاً عن فلذات أكبادهن بعد الانتظار عدة سنوات.
1 – شخصية زغرودة: قرر الابن الهجرة، فأخذ الحلي الذهبية الخاصة بأخته فرحة، العروس، من أجل بيعها والهجرة، هروباً من براثن البطالة، فأخطروا أمه بذهابه ليلة عرس ابنتها.
كانت فرحة ترقص وتزغرد، وبعد السرقة اجتاحتها نوبات هلع متكررة وغير متوقعة. تتبول على نفسها وتخاف الفرح والزغاريد.
2 - شخصية حكاية: ابنتها تمتهن الصحافة، هربت هي وزوجها عبر قوارب الموت، بعدما تركت للأم حكاية، تسجيلاً صوتياً على مسجل كانت تستعمله في تسجيلاتها الصحافية، ومنذ ذلك الحين لم تتوقف دمعة الأم، إذ أحست بالذنب، واتهمت نفسها، فهي من علمتها ودرّستها وسهرت على نجاحها حتى صارت صحافية تفتخر بنشرها للحقيقة، غير أن الواقع كان عكس ما علمتها أمها إياه.
لا أرض يستظللن بظلها ولا قريب يحتضنهن وبقين عالقات في عرض البحر ورحن يستحضرن مواجعهن، تخيلت إحداهن أن ماء البحر المسرب للقارب هو بول إحدى رفيقاتهن... مشاعر معقدة لأمهات المهاجرين غير الشرعيين
3 - شخصية دمعة: أم عزباء اجتهدت في تربية ابنتها ورعايتها وتقويمها وتهذيب أخلاقها، حتى لا تكون ضحية مثلها، لكن حلمها أصبح سراباً وواقعاً مريراً لأن البنت لم تكن بشجاعة أمها فهربت هي وطفلها عبر قوارب الموت.
4 - شخصية الهاربة: أم عجوز كانت ابنتها تعشق رقص الباليه، لكن بحكم أنها ابنة الدشرة (الدوار) فبيئتها المحافظة لا تقبل بلباس البالي ولا بالرقص، فركبت في ليلة ذات برد وريح الزورق هروباً من كلام الناس، وهذا ما جعل أمها تكره الجميع، لأنها هم السبب وراء هروب ابنتها الراقصة.
5 - شخصية حلم: أم الملاكم، هي أم ليست ككل الأمهات، صارت القوة لغتها مع الجميع، بعدما هاجر ابنها لأنه شعر بالظلم والاحتقار والتهميش مع فريق الملاكمة، الذي تعب معه كثيراً طمعاً في تشريف ألوان العمل الوطني، ولكن حلمه لم يتحقق، وهو ما جعله يفر من الوطن الأم.
6 - شخصية الحوات (الصياد): وهو رجل عجوز، عاش بقاربه طوال حياته، له ستة أولاد هجروا كلهم في ليلة واحدة، كبيرهم كان يدرس الطب.
هل تتفقون معي الآن على أن القصة "استثنائية" من بين العديد من الأعمال، في المسرح واادراما، قلما يعلق في ذاكرتنا منها شيء مميز؟
تفاعل جماهيري
خلال العروض المتقطعة، حققت "تجاعيد البحر" تفاعلاً جماهيرياً، خاصة عندما توقف المحرك في عرض البحر، واكتشفت الأمهات الخمس أن القارب مهترئ ومثقوب، وهو الكابوس الذي يلاحق عشرات المهاجرين غير الشرعيين في عرض البحر.
وفي هذا المشهد بالذات تشابكت المشاعر واختلطت المواقف، فيظهر السرور على وجوههن تارة، عندما لمحن مرور إحدى السفن الكبيرة، ويحزنّ تارة أخرى عندما يتلاشى الأمل داخلهن، ويدب اليأس في نفوسهنّ، خوفاً من النهاية المحتومة كلما علا الموج بقاربهن الخشبي.
في مشهد آخر، نلمس نوعاً من الجرأة في العرض، جسدتها شخصية زغرودة التي تعاني من التبول المفرط والمتكرر، فلما لاحظت إحدى الأمهات الخمس مياهاً في القارب تخيل لها أن زغرودة هي من تبولت، لكن ما حدث هو العكس لأن المياه بدأت تتسرب إلى داخله. حينها شعرن أن كل المنافذ مغلقة، فلا أرض يستظلون بظلها ولا قريب يحتضنهن وبقين عالقات في عرض البحر ورحن يستحضرن مواجعهن.
شيء مقدس لا نعرفه
راهن المخرج الجزائري هشام بوسهلة في هذا العمل الذي بدأه في سبتمبر/ أيلول 2019 ضمن المخبر المسرحي الذي كان يشرف عليه باتفاق مع المسرح الجهوي لسيدي بلعباس، وجامعة الجيلالي اليابس، قسم الفنون، على إقناع الجمهور بالانهيار العاطفي والأزمات النفسية التي تصاب بها الأم بعد هجرة الابن.
"تخلت المسرحية التي كانت في البداية عبارة عن تربص اشتغلت عليه مجموعة من الممثلات المبتدئات كفاطمة بن سليمان ونوال بن كامو ودلاوي نبيلة عن المعالجة الكلاسيكية لظاهرة الهجرة غير الشرعية"، يقول أحمد بغالية، الأستاذ في الدراسات السينمائية.
هل تغيرت المجازات والاستعارات الفنية المرتبطة بمياه البحر المتوسط؟ بماذا توحي تلك الزرقة والأمواج التي تفصل عالمين عن بعضهما البعض، كيف تنظر أم هجرتها ابنتها إلى أوروبا، ولا تعلم عنها شيئاً وهي تتأمل صخبه وضجيجه؟
ويقول لرصيف22: "ما استطيع قوله أن الجميل في المسرحية هو طرح ظاهرة الهجرة غير الشرعية من زاوية الأمهات وليس من زاوية الشباب والشابات اللواتي هجرن. قبل ذلك كنا نسمع بمعاناة الأمهات، أما هذه المسرحية فرأينا وتفاعلنا مع المعاناة، لأن الذي سمع ليس كالذي رأى".
وبالنسبة للمخرج والممثل الجزائري حليم زادم فإن "مسرحة تجاعيد البحر مزيج بين التراجيديا والكوميديا، وهي تجربة إبداعية جديدة لمسنا فيها معاناة أمهات فقدن فلذات أكبادهن، وأردن اللحاق بـ"الحراقة" إذا ما زالوا على قيد الحياة، لكن صاحب الموتور البحري كان له رأي آخر فلن ينطلق البوطي الذي كان من المفترض به الولوج إلى بحر النجاة أو بحر السراب، للقاء الأبناء".
يعلق الكاتب والمخرج المسرحي، مصطفى جدي، على المسرحية بالقول: "يجب أن أكون آخر من ينكر حقيقة أن كاتب النص لمسرحية تجاعيد البحر لبوسهلة هشام قد نجح في تشويشي، لكنه أيضاً لم يتنبأ أن هوسي به سيتحول إلى وضوح.
"لذا كانت أساليب مخرج العرض جد متطورة وذكية، خصوصاً عندما عزلنا عن العالم، جاعلاً من عرضه واقعاً مستقلاً عن أي شيء آخر".
والأمر الآخر الذي نجح فيه المخرج نجاحاً باهراً، بحسب رأي مصطفى: "عندما استطاع أن يوفق بين الجيل القديم (الأسطورة عبد الله جلاب) وبين الجيل الجديد (فاطمة بن سليمان ونوال بن كامو وجهيدة مسلم ودلاوي نبيلة)، فالمخرج استعمل ورقة رابحة، وفّق بسببها بين الجيلين، وهي الممثلة القديرة والمخضرمة سعاد جناتي، التي استطاعت بمهارتها أن تكون الجسر الرابط بين الجبلين".
"حقيقة، هناك شيء مقدس في العرض لا ندرك إلى غاية الآن ماهيته"، يقر مصطفى ويضيف: "لندع مجريات القصة على حدة، ونعيد طرح السؤال بطريقة أخرى، ماذا كانت العجائز ينتظرن حين ركبن البحر على متن قوارب الموت؟ هل هو الوصول إلى الضفة الأخرى أو السقوط في جوف البحر أو حتى التشبث بالأمل في هاوية أخرى؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...