كان أحد أيام الشتاء في بدء تسعينيات القرن الماضي، حين جلست رشا مع عائلتها إلى مائدة الغداء، الذي اختارت والدتها أن يكون "كبيبات بسلق"، وهي واحدة أشهر الأكلات التراثية الشعبية في الساحل السوري. هذا اليوم كان ليكون اعتيادياً، لولا أن الأم أخبرت أفراد العائلة بأنها وضعت في أقراص "الكبيبات" حبة حمص، من يحصل عليها تكون سعده، وحبة فاصولياء، من يحصل عليها تكون نحسه.
تقول رشا: "رغم يقيننا بأنها مجرد مزحة، كنت وأشقائي وشقيقاتي وأكبرنا لم يتجاوز الـ14 من عمره، ننظر إلى الأقراص بحيرة بالغة. كلنا يريد السعد، وكلنا يخشى النحس، واتفقنا أخيراً على تقسيم أقراص الكبيبات فيما بيننا، وكنتُ السعيدة التي حصلت على السعد، وشقيقتي التي تصغرني بعامين كان نصيبها حبة الفاصولياء أي النحس في عُرف أمي".
مضت السنون وتذكرت رشا في نهاية عقدها الرابع -والتي تعمل الآن كأستاذة جامعية- تلك الحادثة بينما كانت تحضر لإعداد تلك الأكلة التراثية لمنزلها، وفضلت عدم اتباع عادة والدتها في وضع السعد والنحس، كي لا تؤثر في وعي أولادها، خصوصاً أنها تؤمن بأن ما أوصلها إلى حياتها الناجحة، كان الجد والتعب وليس حبة الحمص، وما أوصل شقيقتها إلى الطلاق والعودة إلى منزل العائلة، كان سوء الاختيار وليس حبة الفاصولياء.
تقول رشا لرصيف22: "لا أشعر أني مدينة لحبة الحمص، ولا أريد لأولادي أن يحملوا عبء الفشل، أو فرحة النجاح في اللاوعي".
الوصفة السحرية
تعتبر "الكبيبات بسلق" أحد أشهر الأكلات التراثية في الساحل السوري، يتم إعدادها بكثرة مع بداية الشتاء، ونمو نبات السلق الأخضر، وهو المكون الرئيسي فيها.كان أحد أيام الشتاء في التسعينيات، حين جلست رشا مع عائلتها إلى مائدة الغداء، وحين أخبرت الأم أفراد العائلة بأنها وضعت في أقراص "الكبيبات" حبة حمص، من يحصل عليها تكون سعده، وحبة فاصولياء، من يحصل عليها تكون نحسه
كل يوم جمعة، وهو يوم عطلة نهاية الأسبوع في سوريا، تجمع الخالة أم لؤي (65 عاماً) من ريف اللاذقية، أولادها وأحفادها، ليكون الغداء أقراص الكبيبات بسلق.
تقطف أوراق السلق من أرضها القريبة، كما تقول، وبعد مرحلة القطاف تبدأ مرحلة تحضير الأوراق للفرم الذي يجب أن يكون متوسطاً، ومن ثم يسلق ويعصر حتى التأكد من خلوه تماماً من الماء.
على النار تضع أم لؤي عدة حبات من البصل المفروم ناعماً، مع قليل من زيت الزيتون، ثم تضيف السلق المعصور جيداً، ليبقى على النار حتى تجف المياه الناتجة عنه، ثم تطفئ النار وتضيف إليه الكمون والقليل من الفلفل الأسود والملح وأي نوع بهارات تحبه، لكن بكميات قليلة حتى لا تطغى نكهته، والقليل من عصير الليمون، أو السماق، أو دبس الرمان، أو حتى حبات الرمان الكاملة بشرط أن يكون رماناً حامضاً وليس حلواً، وهكذا تصبح الحشوة جاهزة.
تترك السيدة الستينية الحشوة حتى تبرد، بينما تقوم بتحضير العجينة، وهي عبارة عن برغل ناعم منقوع عدة ساعات بقليل من المياه الساخنة، وحين تتفتح حبة البرغل تبدأ مرحلة الفرك والدعك، وتستمر حتى الحصول على قوام شبيه بالعجينة، ومن الممكن إضافة القليل من الطحين والماء، وهذا يعود لطريقة السيدة التي تعد العجينة، وطبعاً لا ننسى إضافة الملح حسب الرغبة.
وهكذا أصبح كل شيء جاهزاً، لتبدأ مرحلة الحشوة، تقول أم لؤي: "عملية الحشو تحتاج لمهارة، كي لا تكون العجينة سميكة جداً، علماً أنها شبيهة بطريقة وشكل أقراص الكبة باللحمة".
خلال عملية الحشو، تجتمع أم لؤي مع بناتها وزوجات أولادها، لأن الكمية كبيرة وتحتاج وقتاً طويلاً، وبعد الانتهاء، يتم سلق الأقراص بالمياه حيث تغوص للقاع بادئ الأمر، وحين تنضج تطفو للسطح، وغالباً لا تحتاج أكثر من ربع ساعة تقريباً على النار.
وأخيراً أصبحت أقراص الكبيبات بسلق جاهزة تقريباً، وتقدم إلى جانب طبق تغميس خاص بها، عبارة عن ثوم مهروس وزيت زيتون والقليل من عصير الليمون ودبس الفليفلة.
السعد والنحس في الكبيبات
لا تنسى أم لؤي وضع السعد والنحس، لكن بطريقتها الخاصة، إذ تضع حبة حمص ومن يحصل عليها، سيكون مبتغاه محققاً دون عناء كبير، أما من يحصل على حبة الفاصولياء، فيكون ذلك بمثابة تحذير له ليجتهد أكثر.في إحدى قرى جبلة تجتمع الجارات لتحضير أكلة الكبيبات بسلق، لمرتين أو أكثر أسبوعياً طوال فصل الشتاء وبقاء موسم السلق، فهي أكلة تحتاج عملاً طويلاً، وكلما كثر معدوها قلّ وقت الإعداد
أقراص "الكبيبات بسلق" تؤكل ساخنة، إذ تفقد جزءاً كبيراً من نكهتها في حال تناولها باردة، كما تقول أم لؤي، وتضيف أن الأقراص المتبقية لليوم الثاني، لا يعاد تسخينها بطريقة السلق، إنما بطريقة القلي بزيت الزيتون حصراً، وتؤكل ساخنة بدون وجود صوص التغميس المؤلف من الثوم والزيت والحامض، إنما يتم تناول شوربة العدس أو أي نوع شوربة آخر معها.
البقايا لا ترمى
في إحدى قرى ريف مدينة جبلة على الساحل السوري، تجتمع الجارات لتحضير أكلة الكبيبات بسلق، لمرتين أو أكثر أسبوعياً طوال فصل الشتاء وبقاء موسم السلق، فهي أكلة تحتاج عملاً طويلاً، وكلما كثر معدوها قلّ وقت الإعداد.لذا تشترك النسوة بإعدادها ومن ثم تقسيمها فيما بينهنّ بعد الطهو، كما تقول ليلى (48 عاماً) وتضيف أنهنّ يجتمعنّ أمام مدفأة الحطب، التي يستخدمنها لسلق أقراص الكبيبات بسلق، توفيراً للغاز الذي يعتبر نادر الوجود بسبب ظروف البلاد وأزماتها المتكررة في المحروقات والوقود.
تضع أم لؤي على النار البصل المفروم ناعماً، مع قليل من زيت الزيتون، ثم تضيف السلق المعصور، ليبقى على النار حتى يجف ماؤه، وتطفئ النار لتضيف الكمون والفلفل الأسود والليمون، أو السماق، أو دبس الرمان
تقول ليلى إنهنّ يحرصنّ على ترك القليل من العجينة، وعدة ملاعق من الحشوة، لطهو طبق جانبي آخر اسمه "الدعيبولات" أو "المسيلوقات"، إذ يتم صنع كرات صغيرة من العجينة بحجم حبة الحمص، توضع في مياه سلق أقراص الكبيبات، مع أربع أو خمس ملاعق من الحشوة، وكميات صغيرة من الحبوب المنقوعة سابقاً، مثل الحمص والفاصولياء واللوبياء والعدس، وتترك على النار حتى تنضج ثم تصبح حساءً شهياً يضاف إليه القليل من عصير الحامض والثوم والملح.
طبق الضيافة الأول
لكل منطقة في سوريا أكلتها التراثية التي تشتهر بها، وغالباً فإن الطعام الذي تشتهر به كل منطقة يكون نابعاً من العادات الغذائية أو من المكونات في بيئة تلك المنطقة.ففي الريف الساحلي، لا تُربى الحيوانات بكثرة، وكل الأراضي صالحة للزراعة، ويعتبر السلق أحد أشهر المزروعات التي لا يخلو بيت تقريباً منها.
كما أن أكلة "الكبيبات بسلق" على بساطتها، تعتبر طعام الضيافة الأول لكل الزائرين من خارج المحافظة، كون هذا الطبق يعبر عن هوية المنطقة نفسها.
إلى جانب ذلك، فإنها تعتبر إحدى أهم الوجبات في قائمة الطعام الصيامي، خلال فترة صوم أتباع الديانة المسيحية في الساحل السوري، إذ يصومون عن كل أنواع اللحوم ومنتجات الحيوانات أربعين يوماً في السنة.
تعتبر هذه الأكلة من أشهر الأكلات الصيامي، والطعام الرسمي لعيد البشارة الذي يُحتفل به في الساحل السوري، لكونه يوم التبشير بولادة السيد المسيح
طبق عيد البشارة
تعتبر أكلة الكبيبات بسلق الطعام الرسمي لعيد البشارة الذي يصادف يوم الـ30 من كانون الأول/ ديسمبر، ويُحتفل به في الساحل السوري، لكونه يوم التبشير بولادة السيد المسيح، وجرت العادة طهو الكبيبات بسلق في هذا اليوم، كتقليد شعبي متوارث منذ سنين طويلة.الكبيبات بسلق ليست مجرد طبق طعام نتناوله لنشعر بالشبع ونلبي حاجة الجوع، هنا في الساحل السوري ندرك تماماً أن كل قرص يحوي تفصيلاً من حب أمهاتنا، وآخر من كرم أرضنا، وشيئاً من رائحة جداتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون