خلال مكالمة أخيرة مع عائلتي التي تركتها وسافرت بعيداً لغرض الدراسة، أصبحت ووالدتي على وشك أن ننهي المكالمة بدموع غزيرة، وصرت أردّد نفس الكلمات مراراً وتكراراً: "أنا بحبك أوي يا ماما والله"، لتجيب هي بنفس النبرة الحزينة أثناء محاولتها لإخفاء دموعها المنهمرة: "وأنا بحبك أكثر يا نور عيني"، وهذا اسم تدليل ابتكرته أمي مؤخراً لي، وفجأة دخل أبي إلى المكالمة ليقاطعنا بشكل ساخر: "أنتي بتعيطي ليه يا نورهان، هي مش والدتك دي اللي كانت بتزعق لك وتتخانق معاكي كل شوية".
لتتفاجأ أمي قائلة: "أنا يا نورهان؟"، وهنا حاولت أن أهدّئ من روعهم حتى لا يتشاجرا بعد إغلاق المكالمة، ولكن في قرارة نفسي كنت أعرف أنها الحقيقة، والسؤال الذي طرح نفسه في عقلي من وقتها: لماذا تتحسن علاقتنا مع أهلنا بعد تركنا للمنزل؟
أنا وأخي
على صعيد آخر، علاقتي مع أخي الصغير، كما يقول المثل "علاقة ناقر و نقير"، ولكن أعتقد أنها تخطت هذه المرحلة في العام الأخير، حتى أصبح لدى كلانا يقين داخلي بأننا نكره بعضنا البعض، وأن الحياة كانت ستكون أفضل لو كان الآخر غير موجود.
حتى قبل يومين، خلال مكالمة أخيرة مع أخي، أطمئن من خلالها على حاله مع امتحاناته الدراسية والتي تبدو أنها أرهقته، إذ فجأة يقول لي: " أنتي وحشتيني أوي يا نورا والله، البيت من غيرك كئيب ووحش أوي، مش زي ما كان لما أنتي كنتي موجودة فيه".
كلمات غير متوقعة وذات معنى عميق بشكل بسيط، لم أتخيل أن أسمعها من نفس الأخ الذي اعتدنا ان نضيع نصف اليوم ونحن نتشاجر معاً، وتعلو أصواتنا في وجه بعض.
عند سماع كلمات أخي لم أستطع إعطاء أي رد فعل، وقتها لم أستطع إلا التفكير في سؤال واحد: "طالما أننا نحب بعضنا بهذا الشكل فلماذا قضينا سنواتنا سوياً في المشاجرة والصراخ، وهل كان يجب علي ترك منزلي حتى اكتشف وعائلتي هذه المشاعر العميقة ونستمع لأحن وأرق الكلمات من بعضنا البعض؟".
العلاقات الإنسانية معقدة للغاية، ولكن أغلب القواسم المشتركة تعتمد على فكرة المسافة، وأغلب العلاقات التي تخلو من المسافة تكون علاقات سامة، حتى مع الوالدين
عند محاولتي لتحليل هذه المواقف التي واجهتها مع عائلتي العزيزة لم أستطع ربطها إلا بفكرة واحدة: "العلاقات الصحية تحتاج لمسافات".
"العلاقات الصحية تحتاج لمسافات "
العلاقات الإنسانية معقدة للغاية، ولكن أغلب القواسم المشتركة تعتمد على فكرة المسافة، وأغلب العلاقات التي تخلو من المسافة تكون علاقات سامة، حتى مع الوالدين، تكون عبارة عن علاقة لا تفرغ منها المشاكل و الشجارات حتى بدون أي سبب وجيه.
قرأت ذات مرة على لسان أحد المتزوجين أنه لا يستطيع أن يرى زوجته أو يتعامل معها كل يوم، وأنه ممتن لوظيفته التي تسمح له بالسفر من فترة إلى أخرى، وأنه لا يعني بالحديث هذا بأنه يكره زوجته، بالعكس هو يحبها حباً جماً، وكل منهما مغرم بالآخر، ولكن بالنسبة له رحيله المستمر كل فترة هو ما يبقي هذا الحب موجوداً، وكلاهما يشتاق للآخر أثناء وجود هذه المسافة، وهو نفس ما ذكره المغني أمير عيد في أحد اللقاءات: "أكتر حاجة بحبها في ليلى مراتي أنها عارفة تكون مبسوطة من غيري، واحنا الاثنين عندنا مسافتنا الخاصة".
المسافة نفسها التي أصلحت علاقتي بعائلتي وتجعلنا في كل مرة نتحدث، لا نتفوه بأي شيء مؤذ.
نبتعد فننسى الصورة السلبية
أثناء بحثي باستفاضة في هذا الموضوع وحديثي مع العديد من الأشخاص في محيطي الدراسي الجديد، تعددت الآراء حول هذه الفكرة، فقالت ياسمين (اليمن): "علاقتي بالفعل تحسنت مع أهلي بعد تركي للبيت، في الواقع لطالما راودتني فكرة مرتبطة بهذا الموضوع وهي أن مع البعد تزداد مشاعر الإنسان تجاه الشخص الذي رحل، وهذا ما حصل معي.
يجب أن نبدأ جميعاً على العمل على احترام المسافات مع الآخرين، ووضع أخرى لأنفسنا أثناء التعامل حتى نحظى بعلاقات صحية
بعد رحيلنا عن بيوتنا يشعر أهالينا بالنقص، وبالتالي نحن أيضاً نواجه في نفس الوقت حقيقة ألا وهي الندم. يشعر كلا الطرفين بالندم على العلاقة المعقدة المليئة بالخلافات التي حظينا بها. الآن نحاول تعويض هذا عن طريق كلمات رقيقة، أيضاً من أسباب تحسن العلاقة بعد البُعد هو نسيان السلبيات وعيوب الأشخاص، فالقرب بنفس البيت وتحت نفس السقف يجعلنا نحتك دوماً بالصورة السلبية والوجه الحقيقي لعيوبنا دون الحاجة لإخفاء شيء".
وعلى النقيض من رأي ياسمين، قالت رؤى (سوريا): "أنا شخصية انطوائية بطبعي، لطالما كنت معتادة على عزل نفسي في غرفتي، فأفضل الانعزال عن عائلتي حتى لا أفتعل معهم أي مشاكل، على الرغم من محاولات أمي وأخوتي للتقرب مني بالمجيء لغرفتي بشكل مستمر. لن أنكر أن علاقتي تحسنت مع أبي بعد تركي للمنزل بنسبة بسيطة، وقلّت حدة الانفعالات بيننا. في الواقع ،أنا أرى أني جهزت أهلي نفسياً لفكرة الابتعاد عنهم عن طريق تفضيلي للوحدة والانعزال ونحن تحت سقف واحد".
لطالما تردد على مسامعنا عبارات مثل "العلاقات الإنسانية معقدة"، لم نكن نعير اهتمام لكلمات كهذه كثيراً، فكان من الصعب تخيل علاقة أم أنجبت طفل لهذا العالم وتحمل له هذا القدر من الحب ومع ذلك علاقتهما لا تخلو من المشاكل، أو ثنائي متحاب ولا ينفكان عن الشجار، ولكن يجب أن نبدأ جميعاً على العمل على احترام هذه المسافات، ووضع أخرى لأنفسنا أثناء التعامل حتى نحظى بعلاقات صحية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين