شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عشت

عشت "ضيفة خفيفة" فتشوّهت روحي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 6 مارس 202310:42 ص

هتعيشي غريبة، ضيفة على خلق الله، فخليكي خفيفة"، كلمات ردّدتها عجوز كانت تقطن منزلاً متهالكاً من فرط قدمه، في الكفر المجاور لقريتي. ظهرها المحني بسبب سنوات عمرها التي اقتربت من التسعين؛ لم يمنعها من استقبال الزائرين الذين سمعوا كثيراً عن مذاق قهوتها، فضلاً عن الدهشة التي تصيبهم إذا ما قرأت لهم الفنجان.

على الرغم من تديّن أمي وإيمانها بأنه "كذب المنجمون ولو صدقوا"؛ إلا أن حيرتها بشأن ضياع قرطي الذهبي الجديد جعلتها تقرّر اللجوء إلى قارئة الفنجان العجوز، فربما عرفت اليد التي امتدت وسرقته، فأقسى ما كان يؤرّقها هو الشك في المقربين، وهي التي فتحت منزلها للكل دون استثناء، بترحاب كان مضرب للأمثال.

"من أمّنك لا تخونه ولو كنت خاين"، مثل شعبي ردّدته أمي بغصّة على أسماع جارتنا، وهي تؤكد أنه حتى لو كان من بين ضيوفها سارق طويل اليد، كان عليه أن يلمّ يده عن بيتها، هي التي أكرمته وأمنته على الدار وأهلها.

ملبوسة

في ظهيرة حارقة طرقنا بابها، فأطلّت بظهرها المحني وعينيها اللتين راحتا تتفرسان بي، بنظرة علقت في ذاكرتي إلى اليوم، رغم مرور ما يقرب من ثلاثين عاماً على تلك اللحظة. نظرة أصابت جسدي بقشعريرة، فارتجف لأختبئ خلف أمي مرتعدة.

"دي ست راكبها عفريت"، تذكرت وصف جارتنا لها وهي ترشّحها لأمي حتى تنهى حيرتها، وهي تقسم لها أنها "ملبوسة"، وحتماً سوف تدلّها على الفاعل.

أدخلتنا العجوز، وفي ركوتها صنعت القهوة،ا ومدت يدها نحوي بفنجان قديم، طار جزء صغير من حافته الخزفية، وقالت: "اشربي مرة واحدة"، فتردّدت خوفاً، أشارت لي أمي بطرف عينها أن أفعل، فانصعت، وشربت قهوتها المُرّة ورددت إليها الفنجان. قلبته على طبقه الصغير وتمتمت بكلمات لم أفك شفرتها، ثم  رفعته ونظرت فيه وقالت جملتها: "هاتعيشي غريبة، ضيفة على خلق الله، فخليكي خفيفة".

اندهشت أمي وعبست ملامحها، بينما تهلل وجهي، فها هي تبشرني بأنني سوف أغادر قريتنا الصغيرة وأعبر حدودها لبراح العالم يوماً ما، كما عشت أحلم.

شربت قهوتها المُرّة ورددت إليها الفنجان. قلبته على طبقه الصغير وتمتمت بكلمات لم أفك شفرتها، ثم  رفعته ونظرت فيه وقالت جملتها: "هاتعيشي غريبة، ضيفة على خلق الله، فخليكي خفيفة".

أخرجتني من شرودي بجملة رددتها بحزم: "اللي ضايع منكم ماخرجش من بيتكم. دوري انتي بس وما تظلميش حد".

ارتاحت أمي لجملتها التي قتلت شكها بطعنة قوية، فشكرتها وأعطتها "اللي فيه النصيب" وانصرفنا.

نبوءة تتحقق

قلبت أمي منزلنا رأساً على عقب يومها. فوجدت القرط بين طيات الملابس في الخزانة الخشبية القديمة. ارتاحت أمي وانتهت شكوكها، وبدأت أحلامي أنا في التضخم، فقد امتلكت نبوءة تؤكد ما أصبو إليه، ولن استسلم بعد لسخرية رفيقاتي: "انتي بتحلمي، جامعة إيه اللى هاتروحيها في مصر، وشغل إيه اللي هاتشتغليه، آخرك تتجوزي وتقعدي في البيت تربي العيال".

في أوقات كثيرة كانت تصيبني سهام الإحباط بسبب ذلك السيناريو الكئيب المرسوم لكل فتيات القرية حتى حفظنه صماً، لكن كانت نبوءة العجوز هي العصا السحرية التي قرّرت أن أغير بها قدري المرسوم مسبقاً، لكنني لم أكن أعي أن الثمن سيكون باهظاً.

مفرادات جديدة

تركت عالمي الصغير وأنا ابنة 16 سنة، لأبدأ رحلة الاغتراب التي لم تنته حتى الآن. تركت الدفء والونس والدلال إلى البرد والوحدة والقسوة والحرمان. مفردات كانت جديدة على قاموسي، اختبرتها رغم الإقامة في بيوت أقارب، فقد وافق والدي على التحاقي بجامعة القاهرة بشرط أن أظل في حماية الأقارب.

ومن منزل أختي الكبرى وزوجها، لمنزل خالتي التي فاتها قطار الزواج، ثم منزل خالتي الأرملة التي تعول صغاراً، حتى وصلت لمنزل زوجي الذي لازلت أشعر فيه بأنني ضيفة عابرة.

ثلاثة عقود عشت فيها ضيفة لا أنتمي لمكان، حتى أيقنت أنني روح تعيش ضيفة في جسد لا يشبهها، وحتماً سوف تغادره في يوم ما.

في منزل أختي دفعت ثمن الضيافة باهظاً، فقد صرت دون أدنى رغبة مني شاهدة حية على علاقة مضطربة. خلافات زوجية ومشاجرات تصل لحد الضرب والإهانات والطرد. علاقة سامة كما يقول الكّتاب، لم تنته بالطلاق إلا بعد أن قضت على جزء غالٍ مني.

فبالقرب اختبرت كيف يداري الرجل نقصه بتسلطه، وعرفت كيف ترضى المرأة الإهانة، لأن لديها أطفال تعجز عن إطعامهم بمفردها.

تذوّقت بشاعة التدخل في أدق الخصوصيات، لا لشيء سوى أنني ضيفة، لذلك فحياتي متاحة لأصحاب البيت. لا أستطيع أن أغلق باباً في وجه أحدهم، ولا أن أعبر عن غضبي  لتطفله/ها، ولا أن أصرخ في وجهه/ها "وأنت/ي مالك". لا أملك الدفاع عن نفسي اذا ما قرّرا أن أصبح كبش فداء لحفظ ماء وجههما أمام الجميع لأسباب مختلفة.

يمتلكون وحدهم حق تفسير مشاعري، وتعكير مزاجي، وسرقة أحلامي، وكلما حاولت الفرار واجهني سؤال: "هاروح فين وأنا لسه على حلمي كتير؟"، فلا أملك حينها إلا غضباً مكتوماً وصبراً راح يقل مع الأيام، حتى نفذ تماماً مع أول لمسة تحرّش، فلم يعد هناك حينها مكان لحسابات العقل ولا للبحث عن إجابة للسؤال، صار الرحيل حتمياً حتى لو كان نحو المجهول.

دخلت منزل أختي بقلب صبوح، وخرجت منه بقلب عابس يكره كل شيء، حتى الحب ذاته. تيقنت أن الخلاص في الاستقلال وعدم الخضوع لأي رجل، فمصير المرأة يجب أن يكون بين يديها، لا يتحكم فيه أحد لمجرد أنه يدفع لها ثمن وجبة أويؤمن لها منزلاً

حملت حقيبتي التي جمعت فيها أحلامي قبل ملابسي، وعدت لمنزل والدي دون أن أخبر أحداً بما حدث. لم أملك رفاهية الانفجار لتفريغ ما اختزنته من مشاعر مضطربة، لأنني كنت أمام تحد آخر: البقاء في أمان أو المغامرة، والبحث عن مكان ضيافة جديد حتى يتحقق الحلم ويأتي معه الخلاص.

قلب عابس

أعترف أنني دخلت منزل أختي وأنا شابة بقلب صبوح، مقبل على الحياة، وخرجت منه بقلب عابس يكره كل شيء، حتى الحب ذاته. تيقنت أن الخلاص في الاستقلال وعدم الخضوع لأي رجل، فمصير المرأة يجب أن يكون بين يديها، لا يتحكم فيه أحد لمجرد أنه يدفع لها ثمن وجبة أويؤمن لها منزلاً.

فكان قراري بانتقالي للعيش مع خالتي التي فاتها قطار الزواج، متخيلة أن الحياة سوف تكون مريحة، هادئة، آمنة، مادامت خالية من الرجال، لكنها للأسف لم تكن كذلك.

فالمرأة التي حُرمت من المتعة كانت صعبة العشرة. كانت تحسدني على شعري الخالي من الشيب الذي كسى نصف شعرها، وعلى جسدي الخالي من الشحوم التي ضاعت بسببها تفاصيل جسدها. كل ذلك كان مقدوراً عليه، لكنها كانت تحاسبني على النفس، ترسم خطواتي داخل شقتها، تحدّد مكان جلوسي، وحيّز حركتي، وكم وجبة أتناول في اليوم، وموعد نومي، ومكانه الذي خصّصته هي، بالأغطية التي تحدّدها هي، حتى لو كانت مهلهلة لا تستر ولا تقي من برد.

أذكر أنها في ليلة شتوية قارصة أخذت كل الأغطية، ولم تترك لي شيئاً، بدعوى:

- جسمي ما بيتحملش برد. إبقى هاتي من بيتكم غطا وانتي راجعة من الأجازة

- طب الليلة دي هاعمل إيه؟ أنا بردانة؟

- ماعرفش. اتصرفي.

هكذا ردّت ببرود وراحت في نوم عميق، وتركتني أجمع ملابسي وأرتديها، وأفرد الباقي منها على جسدي المتكور في ضعف، وقلبي يتمزق من هواني عليها بهذا الشكل وهي التي طالما أكرمتها أمي. قرّرت ليلتها أن أحمل حقيبتي بما فيها من أحلام وملابس وأرحل، فلا مكان لي في بيتها.

أرملة حنون

ذهبت لبيت خالتي الأرملة التي ترعي أطفالاً، كمحطة مؤقتة حتى أعود مستسلمة لقريتي، فدامت ضيافتي لديها عشر سنوات، وجدت في بيتها حنان أمي وونس إخوتي، فواصلت رحلتي لتحقيق أحلامي حتى تحققت.

لكنني وبرغم دفء منزلها وحنانها، عشت ضيفة خفيفة كما أوصتني العجوز. لم أتصرف يوماً على سجيتي، فلم أجرؤ على البحث عن لقمة اذا ماهاجمني الجوع في منتصف الليل، لم أملك رفاهية مشاهدة التلفاز وقتما أحب. كنت أتناول طعاماً لا أحبه لأنني أتحرّج من الاعتراف بذلك.

تفاصيل صغيرة ربما تكون تافهة في نظر البعض، لكنها كانت تؤكد طوال الوقت أنني ضيفة، حتى صار ذلك الشعور رفيقاً لي في بيت الزوجية، بالرغم من إقدامي على الارتباط والزواج في محاولة مني للقضاء عليه ذلك الشعور القاتل، إلا أنه ورغماً عني تأكد، فقد عشت في منزل أشعر دوماً أنني ضيفة فيه، وسأغادره يوماً ما حتماً.

لذلك لم يعد حلمي الأكبر إصدار رواية جديدة أو صناعة تقرير صحفي مميز، بل صار حلمي الأكبر امتلاك بيت صغير، أصنع تفاصيله بنفسي، أؤثثه على ذوقي، أستقبل فيه الضيوف بترحاب كما كانت تفعل أمي، بيت أكون صاحبته لا ضيفة عليه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image