زلزالٌ عنيفٌ ضرب تركيا وسبّب كوارث لا تعدُّ ولا تُحصى على أرضها. في عداد ضحاياه مسجد أثري هام في تركيا هو "يني جامع". تداول المتابعون صوراً متحسِّرة لدمار ذلك المسجد العتيق الذي تهدّمت جُدرانه وتحوّل إلى أثرٍ بعد عين. موجة الحسرة على دمار المسجد دفعت البعض للخلط بينه وبين "يني جامع" آخر في تركيا يمتلك من الأهمية ما يفوق المسجد المتهدّم بمراحل كثيرة.
وهنا من الضروري التفرقة بين "يني جامع" المقام في ملاطية التي تقع شرق الأناضول، وهو المسجد الذي تعرّض للدمار، وبين "يني جامع" الكائن في إسطنبول.
دمار يني جامع الملاطي والاهتمام الكبير بتقصّي أخباره وأحواله ألهماني لإعادة الحديث والكلام عن يني جامع الإسطنبولي وتسليط الضوء على تاريخه، وكأن مصيبة الأول حلّت على الثاني بالفائدة والشهرة.
ليس مجرد مسجد
يمتلك يني جامع الإسطنبولي سمعة مميزة لدى أي باحث تاريخ، ليس فقط بسبب قيمته المعمارية الكبرى، ولكن بفضل مكتبته التي تمتلك آلاف المخطوطات النادرة التي لطالما استعان بها الباحثون في كتاباتهم.
بسبب ما تحويه جنبات هذه المكتبة من كنوزٍ لطالما ردَّد آلاف الباحثين في كتبهم التاريخية عبارات على شاكلة "اطّلعنا على تلك المخطوطة في مكتبة يني جامع"، فتلك المكتبة بمخطوطاتها حوّلته من مجرد مسجد أثري عريق البنيان إلى بؤرة علمية وبحثية ميّزته عن باقي المساجد.
لم يكن هذا هو المعلم الأثري الوحيد الذي ارتبط بِاسم مسجد "يني جامع"، وإنما يحتضن كذلك مقبرة آوت العديدَ من رؤوس الدولة العثمانية، أشهرهم السلطان مصطفى الثاني، والسلطان عثمان الثالث والسُلطان محمود الأول، وكذلك تيريموجكان قادين (Tirimüjgan Kadın)، أم السُلطان عبد الحميد الثاني، حسبما ذكر سامي المغلوث في كتابه أطلس تاريخ الدولة العثمانية.
في كتب التاريخ العثماني حمل هذا المسجد العتيق أسماء متعددة: "يني جامع"، "الجامع الجديد"، "جامع والدة السُلطان"، وهنا لا نعرف من هي المقصودة بوالدة السُلطان تحديداً، لأن قصة المسجد تضمّنت والدتي سُلطان: واحدة بدأت بناءه وأخرى انتهت منه.
في الشهر الماضي فقط، انتهت أعمال ترميم موسّعة -استمرّت سبع سنوات- بهذا المسجد الشهير، وحضر حفل افتتاحه الرئيس التركي أردوغان، الذي ألقى كلمة استعرض فيها القيمة الأثرية الكبيرة لهذا الجامع.
صلاة بشراب العسل
يقول أحد صدقي شقيرات في كتابه مؤسسة شيوخ الإسلام في العهد العثماني، إن هذا الجامع وُضعت أساسات بنائه في عهد السلطان محمد الثالث 1007هـ\1598م بأمرٍ من والدته السلطانة صفية. تولّى الإشراف عليه المعماريان داود أغا وأحمد أغا.
في كتابها البلاد العربية في ظِل الحُكم العثماني، زعمت المؤرخة جين هاثاوي أن والدة السُلطان عندما أمرت ببناء الجامع الجديد في إسطنبول، أخلت السُلطات حيّاً يهودياً كبيراً كان موجوداً أسفل هضبة قصر توبكابي على حافة القرن الذهبي (شبه جزيرة ضمن حدود إسطنبول).
وهو نفس ما شدّد عليه المؤرخ الأمريكي ستانفورد جاي شو (Stanford Jay Shaw) في كتابه يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية، الذي أكد فيه أن حيّاً يهوديًاً كان كائناً في تلك المنطقة من الخليج الذهبي، ولكن حلَّ محله بناء "يني جامع" و"سوق مصر" خلال القرن الـ17. وبحسب ستانفورد فإن اليهود المستنكرين إقامةَ مساجد داخل الأحياء اليهودية أطلقوا على هذا المسجد لقب "الظلمية"، اعتراضاً منهم على بنائه.
أمرت والدة السلطان محمد الثالث ببناء الجامع فأخلت السُلطات حيّاً يهودياً كبيراً كان موجوداً في مكانه. استنكر اليهود إقامة مساجد داخل الأحياء اليهودية وأطلقوا على هذا المسجد لقب "الظلمية"، اعتراضاً منهم على بنائه... قصة مسجد "يني جامع" الإسطنبولي
اختارت السُلطانة الأم هذه المنطقة تحديداً لأنها كانت المركز التجاري الرئيسي في المدينة، وكانت تأمل توسعة النفوذ الإسلامي في تلك البقعة المهمة من دولة ابنها.
بحسب شقيرات فلقد توقّف البناء لـ"أسباب مجهولة" حوالى 63 عاماً. البعض فسّر هذا التوقف بسبب استياء الإنكشارية من النفوذ المتنامي للسُلطانة صفية وانتقادهم الإنفاق ببذخ "غير ضروري" على أعمال المسجد.
خلال فترة التوقف، تعرّض المسجد لأضرارٍ من زلزال ضربه عام 1603م قبل أن يتأذّى من حريق إسطنبول الكبير الذي دمّر أحياء كاملة في المدينة عام 1660م.
في نفس العام، قرّرت خديجة تورخان سُلطانة، والدة السُلطان محمد الرابع، استكمالَ بناء المسجد، وأشرف على بنائه المعماري مصطفى أغا.
ويضيف شقيرات: استمّرت أعمال البناء حتى عام 1074هـ\1663م انتهى خلالها من بناء الجامع على طراز شبيه بطراز جامع السليمانية. امتلك "المسجد الجديد" مئذنتين تحتوي كل واحدة منها على ثلاث شرفات، أما قبته المركزية فتتخلها 24 نافذة. كما أُلحقت به استراحة خاصة للسلطان تتصل بالجامع عن طريق ممر خاص.
"يُخصص لكل باب من أبواب المسجد 33 أوقية من العسل لشراب العسل، ويجب تأمين 30 ألف أوقية من العسل سنوياً".
يقول عثمان نوري طوباش في كتابه "العثمانيون": "لقد خصّصت خديجة أوقافاً وفيرة لتقديم خدمة جليلة للمُصلين في ذلك المسجد تحديداً؛ إذ أمرت بأن يقدّم لهم شراب العسل الجيد في ليالي رمضان. نصَّ الوقف على أن يُجلب من مدن معينة اشتهرت بجودة ما تُنتجه من عسل، شرحت الوقفية طريقة توزيعها على النحو التالي: يُخصص لكل باب من أبواب المسجد 33 أوقية من العسل لشراب العسل، ويجب تأمين 30 ألف أوقية من العسل سنوياً".
شاهد على ضياع الخلافة
لعب هذا المسجد دوراً كبيراً في واحدة من أشهر الوقائع في تاريخ تركيا، وهو انقلاب 31 آذار/مارس عام 1909، الذي حاول فيه السُلطان عبد الحميد الثاني التراجع عن تطبيق الدستور وإصلاح دولته العليّة وفقاً للنهج الغربي، فتمردت عليه وحدات الجيش بقيادة الضباط الاتحاديين وعزلوه عن منصبه، وكانت هذه الواقعة بداية لإلغاء الخلافة تماماً.
يقول مصطفى طوران في كتابه "أسرار الانقلاب العثماني" إنه في إطار الأوضاع الجديدة التي كانت تمرُّ بها الخلافة العثمانية، في ظل ضعف السُلطان وازدياد نفوذ الاتحاديين، تلقّى جنود بعض الوحدات أمراً بخلع الطربوش وارتداء القبّعة الغربية بدلاً منه، وهو خطوة وصفها طوران بـ"إلقاء شعلة نار في برميل بارود"، اعتبر الجنود أن لبس القبعة خلعٌ للإسلام وتشبُّه بالكفار.
وفقاً لرواية طوران، خرج الجنود في مظاهرات مُسلحة بالشوارع تعترض على تيار التحديث الذي تُقاد البلاد إليه، وفور اقتراب الجنود من "يني جامع" تلقوا دعماً فورياً من المُصلين فيه. يقول مصطفى: "استقبلنا جمعٌ كثيف من طلاب المعاهد الدينية المحتشدين في (يني جامع) بعمائمهم البيض، وهم يهتفون (أتلبسون القبعات وتصبحون كفاراً؟ نريد تحكيم الشريعة)، بعدما انضمَّ إلينا هؤلاء المشايخ".
حاصرت هذه المظاهرة العسكرية\ الدينية مبنى المبعوثين (البرلمان العثماني) لكنها انتهت في النهاية بخلاف ما أرادوا، بعدما اعتقد الاتحاديون أن تلك الخطوة مؤامرة من الخليفة للتراجع عن الإصلاحات التي تعهّد بها فاقتحموا اسطنبول وخلعوه من منصبه وفضّوا تلك المظاهرات بالقوة.
يمنحنا سليمان جوقه باش في كتابه السلطان عبدالحميد الثاني: شخصيته وسياسته، معلومة قد تفسّر لنا سبب لعب هذا المسجد دوراً في محاولة إنقاذ عرش السلطان عبدالحميد، وخروج المظاهرات منه تحديداً تأييداً له، إذ يقول إن وفود الحجيج كانت تتجمّع "في مسجد والدة سُلطان الكائن على شاطئ الأناضول".
ويضيف: "كانت الدولة تكفل لهم وسائل المعيشة والعبادة من الخزانة العامة، وبعد ذلك يتوجهون لأداء مناسك الحج".
وبخلاف هذا السبب، فلقد مثّل هذا المسجد رمزية بالغة الأهمية في حياة الخليفة عبدالحميد الثاني كون مقبرته تضمُّ رفات والدته، وفي كتابه الذي حمل عنوان ذكريات السُلطان عبدالحميد الثاني، كتب مراد دومان حياة السُلطان بشكل متخيّل، فإن السلطان كلما رغب في الإحساس بالراحة والهدوء وبالحاجة لاتخاذ قرارٍ هام، كان يذهب إلى مسجد "يني جامع" لقراءة الفاتحة على قبر والدته والتفكير ملياً بمعزلٍ عن العالم.
في رحلات الأقدمين
بحُكم امتلاك المسجد تراثاً معمارياً مميزاً جعله محطُّ كثيرٍ من الوافدين إلى تركيا، حتى لو لم يكونوا من المهتمين بالتراث، ولم يُظهروا شغفاً كبيراً بمكتبته ومخطوطاتها الشهيرة، اكتفوا فقط بمظهره الأنيق وإطلالته البديعة على الساحل.
يمتلك يني جامع الإسطنبولي سمعة مميزة لدى باحثي التاريخ، ليس فقط بسبب قيمته المعمارية الكبرى، ولكن بفضل مكتبته التي تمتلك آلاف المخطوطات النادرة التي لطالما استعان بها الباحثون في كتاباتهم
يقول الأديب المصري عبد الوهاب عزام في كتابه "رحلات" إنه خلال وجوده في إسطنبول عام 1929، حرص على زيارة "الجامع الجديد"، حيث صلّى في الجمعة، فوصفه قائلاً "هو جامع كبير جميل، زُينت بالقاشاني جُدره، وكان القارئ يقرأ في سورة الإسراء، وتوافد الناس حتى اكتظَّ بهم الجامع".
خلّفت تلك الصلاة في نفسه أثراً بالغاً حتى أنه لحظة ركوبه الباخرة ومغادرته المدينة يمّم وجهه شطر المسجد وقال لنفسه: "هذا (يني جامع) مشرفاً على جسر غلطة، فهل تذكر ساعة قضيتها تقلب الطرف في قبابه، وتوجّه القلب إلى محراب، وتمتّع النفس بمرأى جُدره وأساطينه المجمّلة بالقاشاني النفيس؟".
وكذا فعل الشيخ محمد ناصر الدين الألباني خلال زيارته إلى تركيا عام 1979، التي حكى بعضاً منها في كتابه ذكريات لا تُنسى، تضمّنت ذكريات الألباني سخطاً على الجو العلماني الذي رآه سائداً في تركيا حينها. زار الألباني مسجد "يني جامع"، وحرص على ذِكر أن منارة الجامع خضعت لأعمال ترميم موّلتها رابطة العالم الإسلامي، ورغم ذلك أبدى الألباني ضيقه من دعاء إمام المسجد لـ"الطغاة من أعداء الإسلام"!.
كذلك تطرّقت مذكرات المناضل الفلسطيني محمد عزت دروزة (تُوفي 1984) والشاعر السعودي عبدالحق بن عبدالسلام النقشبندي (توفي عام 1409) إلى حرصهما على المرور بـ"الجامع الجديد" خلال زيارتهما إسطنبول، للتمتّع بمنظره العمراني المتفرّد.
على خطى هؤلاء الزوار كان المسجد محطَّ زيارات ملايين السياح الذين يفدون إلى تركيا سنوياً، لذا تكالبت المواقع السياحية على الحديث عنه عبر إعطاء نبذات سريعة عن فرادته المعمارية والتاريخية وأهمية عدم الرحيل عن إسطنبول إلا بعد زيارته، قبل أن يُصبح اسمه محل اهتمام الكثيرين حول العالم، مؤخراً، بعد واقعة تدمير "شبيهه" في ملاطية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع