"ضاقت بنا الأرض ولم نعرف إلى أين نهرب"؛ كلمات تخرج بصعوبة من عمر بكور، ابن مدينة الأتارب في ريف حلب الغربي، تصاحبها تنهيدة تجمع بين الحزن والتعب، بعد نجاته من كارثة الزلزال الذي ضرب الشمال السوري والجنوب التركي، فجر الإثنين 6 شباط/ فبراير الجاري.
حين وقع الزلزال، لم يُدرك عمر كيف هرع إلى الشارع هو وعائلته. بعد ساعات عدة قضوها في البرد القارس، أوّل ما فعله كان محاولة تأمين عائلته في مكان آمن، ولكن هل من مكان آمن؟ تذكّر أن لديه أقارب في مكان قريب يقطنون في منزل غير طابقي. توجه إليهم، هم بخير، ائتمنهم على عائلته وعاد إلى حيث الكارثة.
بدأت خيوط الضوء تظهر في صبيحة الزلزال، وبدأت ملامح المصيبة والكارثة تظهر في مدينته، لتكون الصدمة كبيرةً على الناس، الذين كان لهم نصيب كبير من الزلزال. يقول لرصيف22: "الأتارب كلها نُكبت، لم يوفر الزلزال أي شيء في المدينة، فتوزعت الأضرار على أغلب الأحياء فيها، خصوصاً في السوق وعلى طريق الجينة والطريق العام وطريق الكرم وطريق معراتة، وهناك عوائل كاملة اندثرت تحت الأنقاض ولم يخرج منها أحد على قيد الحياة".
والأتارب مدينة هجرة، استقبلت الكثير من العائلات التي هربت من الحرب الدائرة في سوريا منذ عام 2011، والتي تعرضوا خلالها لشتى أنواع العنف والقتل. هنا، ياسر محمد الأحمد، الذي هرب من بطش النظام من منطقة الحص في جنوب حلب، ولجأ بحثاً عن طوق نجاة في الأتارب، يُخرجه الدفاع المدني من تحت الأنقاض، بجروح كثيرة وكسر في الجمجمة واليد. خرج وحيداً، وبقيت زوجته وأطفاله الثلاثة تحت الركام. لقد ماتوا.
بحسب الدفاع المدني السوري، فإن مدينة الأتارب خسرت إلى الآن 155 شخصاً فضلاً عن إصابة 255 آخرين
بحسب الدفاع المدني السوري، فإن مدينة الأتارب خسرت إلى الآن 155 شخصاً فضلاً عن إصابة 255 آخرين، وهي مدينة من أرياف حلب الغربية تقطن فيها قرابة 100 ألف نسمة، تعرضت لمجازر كثيرة من قبل قوات النظام سقط فيها المئات، مع دمار كبير في البنى التحتية بفعل القصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة، وآخرها مجزرة ارتكبتها قوات النظام في 2017، سقط فيها 61 قتيلاً.
مأساة جنديرس
لم يكن الحال أفضل في شمال حلب الغربي، فجنديرس المدينة الجميلة التي تحيطها الأشجار من كل جانب وتتميز ببنائها الجميل المنسق، أضحت خراباً بكل المقاييس، عندما تدخل إليها لا تعرف ملامحها التي مزقتها ضربات الزلزال.
جنديرس قبل أشهر عدة، كانت بوابةً للاقتتال الفصائلي شمال حلب، عندما دخلت هيئة تحرير الشام إلى مناطق عفرين عبر بوابتها، أما اليوم فقد أصبحت بوابةً للتسابق بين الفصائل والفرق التطوعية لتقديم المساعدة للمنكوبين فيها، وكأن المصائب وحدها من توحد السوريين.
وبحسب رئيس المجلس المحلي في جنديرس المهندس محمود الحفار، هناك "معاناة بشكل رئيسي من مشكلة تأمين مأوى للأهالي والعائلات المتضررة من الزلزال، كما يوجد نقص في تأمين الاحتياجات الغذائية والإغاثية المستعجلة، وبلغ عدد العائلات المتضررة التي من دون مأوى والمسجلة لدينا حتى الآن 3،900 عائلة، لم نتمكن من تأمين خيم ومأوى سوى لـ500 عائلة فقط وهناك ما يقارب 2،500 عائلة من دون سكن حتى الآن، وتبيت غالبيتها في الشوارع".
ويستقبل مشفى جنديرس العسكري الجرحى، كما تم تحويل المشفى النسائي إلى نقطة طبية، وهو لا يستطيع تلبية الاحتياجات الكبيرة والأعداد الكثيرة من الجرحى، ويشير الحفار إلى أن "المساعدات الأممية التي يجري الحديث عن دخولها إلى شمال غرب سوريا هي مساعدات دورية، وتوقفت خلال الأيام الأولى من الزلزال، والآن تم استئنافها، وبالتأكيد هي ليست مساعدات ومعدات خاصةً لفرق البحث والإنقاذ، وانتشال العالقين تحت الأنقاض، وهذا يشعرنا بخيبة أمل كبيرة في وقت نحن بأمس ما نكون لتلك المعدات التي ستساعدنا بإنقاذ الأرواح من تحت الركام".
من جنديرس والأتارب في ريف حلب إلى حارم وسلقين وكفر تخاريم وأرمناز بريف إدلب، تتشابه المشاهد: منازل مهدمة، وأرواح عالقة تحت الأنقاض انخفض أنينها وانقطع، لا مساعدات ولا من يحزنون
ويقول الناشط والصحافي فداء الصالح، لرصيف22، وهو من سكان المدينة، إن "عدد الوفيات وصل إلى 756 وما زالت هناك تسعون عائلةً تحت الأنقاض، فأعداد الوفيات مرشحة للزيادة، وسط نقص في معدات الإنقاذ، وقد تم إنشاء 7 مخيمات بالقرب من المدينة استقبلت 515 عائلةً منكوبةً، في حين ما زالت هناك 2،692 عائلةً بلا خدمات، وبلغ عدد الأبنية المهدمة بشكل كامل 257 مبنى و1،100 مبنى متضرر، كما أن هناك استجابةً ضعيفةً، وأغلب الإغاثة عبارة عن طعام، في حين أن الحاجة الأكبر هي إلى تأمين المأوى".
من جنديرس والأتارب في ريف حلب إلى حارم وسلقين وكفر تخاريم وأرمناز بريف إدلب، تتشابه المشاهد: منازل مهدمة، وأرواح عالقة تحت الأنقاض انخفض أنينها وانقطع، لم تصل المساعدات الموعودة، وواجه السوريون مصيرهم بأنفسهم، واستخدموا أدواتهم البسيطة لانتشال الناس من تحت الأنقاض، ففي الأيام الثلاثة الأولى من الزلزال تم إنقاذ بعض الموجودين تحت الأنقاض، ولكن في اليوم الرابع أغلب الذين تم انتشالهم كانوا متوفين.
زلزال حلب الثاني
حلب، ثاني كبرى المدن السورية ومركزها التجاري، التي عاشت سنوات من الدمار والقتل بعد انقسامها إلى أحياء غربيةتحت سيطرة النظام، وأحياء شرقية كانت تسيطر عليها فصائل المعارضة قبل أن تخسرها لصالح قوات النظام في 2016، خسرت الكثير من أهلها بعد أن أصبحت بنيتها التحتية هشةً، نتيجة القصف والمعارك وجاء الزلزال ليُكمل على ما بقي صامداً.
يقول درغام حمادي، أحد سكان مدينة الأتارب وهو ممن هُجروا من مدينة حلب في 2016: "تعرضت مدينة حلب لدمار عدد من الأبنية نتيجة الزلزال الأخير الذي ضرب تركيا وشمال سوريا، ولكن تركزت الأبنية المتهدمة في الغالب في الأحياء الشرقية التي كانت تسيطر عليها فصائل المعارضة، وهي ذات بنية تحتية هشة بقعل عمليات القصف والتدمير في السنوات السابقة، فقد تهدم منزلي وأبنية عدة محيطة به في حي طريق الباب، وكذلك في أحياء الكلاسة، صلاح الدين، وحي بستان القصر، وهي أبنية متصدعة بالأساس".
تركزت الأضرار في الأحياء الشرقية لحلب التي تعرضت لقصف سابق من قبل قوات النظام، وفي القنصلية اليونانية
وبحسب مصدر من مدينة حلب رفض الإدلاء باسمه، فإن "الأضرار تركزت في الأحياء الشرقية التي تعرضت لقصف سابق من قبل قوات النظام، وفي القنصلية اليونانية أمام موقف الدفاع المدني في محطة بغداد الذي يطل على الحديقة العامة وسط مدينة حلب، وهي من أقدم أبنية المدينة، فقد انهار المبنى بشكل كامل، كما أن هناك بنايات في حلب الغربية تم إخلاؤها قسراً من البلدية إلى حين التأكد من سلامتها، لكنها لم تنهَر".
أما المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا، فكتبت في بيان على صفحتها في فيسبوك: "تعرضت قلعة حلب لأضرار طفيفة ومتوسطة منها سقوط أجزاء من الطاحونة العثمانية، وحدوث تشقق وتصدع وسقوط لأجزاء من الأسوار الدفاعية الشمالية الشرقية. كما سقطت أجزاء كبيرة من قبة منارة الجامع الأيوبي، وتضررت مداخل القلعة وسقطت أجزاء من الحجارة ومنها مدخل البرج الدفاعي المملوكي، وتعرضت واجهة التكية العثمانية لأضرار. كما تضررت بعض القطع الأثرية المتحفية داخل صالة العرض، وظهرت تصدعات وتشققات على واجهة المتحف الوطني في حلب".
كما هربت قرابة 1،200 عائلة من حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، وغالبيتها من المكون الكردي، إلى مناطق الشهباء التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، بعد انهيار وتصدع عدد من الأبنية، وسط حالة رعب من الأهالي، فقد سبق الزلزال انهيار أحد المباني المؤلفة من خمسة طوابق على ساكنيه في 22 كانون الثاني/ يناير من العام الحالي، وخلّف 17 قتيلاً.
ذاكرة حلب القديمة
وأعلنت وازرة الصحة في حكومة دمشق أن عدد الوفيات من الزلزال في 8 شباط/ فبراير الجاري، بلغ 1،403 في إحصائية غير نهائية، في حين أجرى موقع داماس بوست مقارنةً بين أعداد المصابين والقتلى بين مناطق النظام ومناطق المعارضة التي تشكل جزءاً لا يتجاوز العشرين في المئة من مناطق سيطرة النظام، وأفضى إلى أنه في مناطق النظام هناك 1،262 قتيلاً و2،285 مصاباً، وفي مناطق المعارضة هناك 1،900 قتيل و2،950 مصاباً، في حين أعلن الدفاع المدني (الخوذ البيضاء)، اليوم الخميس 9 شباط/ فبراير، عن إحصائية غير نهائية، لأكثر من 2،030 حالة وفاة، وأكثر من 2،950 مصاباً، مع استمرار عمليات البحث والإنقاذ وسط ظروف صعبة جداً بعد مرور أكثر من 87 ساعةً على الزلزال العنيف الذي ضرب المنطقة.
إلى حين كتابة هذا التقرير، لم تدخل إلى مناطق شمال سوريا، أي مساعدات، من أي نوع كانت!
وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها حلب لزلزال مدمر، فقد سبقه زلزال وُصف بأنه من أكبر الزلازل في عصره، وحصل في عام 1138 وتسبب وقتها بمقتل نحو 230 ألف شخص ونتج عنه تدمير المدينة بالكامل.
أعلنت وزارة النقل التابعة لحكومة النظام، أمس الخميس، أنه تم استقبال 40 طائرة مساعدات من مختلف الأحجام والطرازات في مطاراتنا المدنية الثلاثة دمشق وحلب واللاذقية، ووصلت إلى مطار دمشق الدولي ست طائرات إماراتية وإيرانية وعمانية وصينية محملةً بالمساعدات الإنسانية لمتضرري الزلزال، كما استقبل مطار حلب الدولي مساعدات إنسانيةً وفرق إنقاذ من الصين والجزائر وإيران، ودخلت فرق إنقاذ فلسطينية قادمة من الأردن عبر معبر نصيب الحدودي.
وإلى حين كتابة هذا التقرير، لم تدخل إلى مناطق شمال سوريا، أي مساعدات، من أي نوع كانت!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.