يقول أسامة بن منقذ: "لا ألتقي الدهرَ من بعد الزلازل ما/حييت، إلّا كسير القلب حيرانا". هذا هو حال السوريين بعد أن عصفت بهم نار الحرب السوداء لتأتيهم بعد ذلك الطبيعة بزلزالها، فإن كسرت الحرب منهم العظم، فزلزال كهرمان مرعش الذي ضرب تركيا في ساعة مبكرة من صبيحة يوم الاثنين الموافق 6 شباط/فبراير عام 2023 وامتدّ إلى سوريا شظّى أرواحهم الهشّة في صبح مستطيل؛ وهو الصبح الكاذب، فمتى يتقد صبحكم المستطير بالنور والأمان أيّها السوريون؟
يعود أول مقياس للزلازل إلى الصين عام 132م، وكان يسمى جرّة التنين، وهو عبارة عن جرّة أسطوانية يخرج منها ثماني أذرع على شكل رؤوس التنانين وفي كل فم كرة. وتسقط الكرات تباعاً حسب شدّة الزلزال إلى أفواه ثمانية ضفادع. أمّا العرب فقد ذهبوا في تحديد شدّة الزلزال إلى قياس مدّته الزمنية، فيذكر الدواداري بأنّه في العام 702 هـ، قامت الأرض تهتزّ ربع ساعة فلكية، أو خمس درج في تقدير المقريزي، أي ما يعادل عشرين دقيقة؛ فيقولون وقعت في القاهرة زلزلة نصف درجة ولو دامت لأفسدت. أمّا عن قوة الزلزلة، فكانت توصف بالكلمات من قبيل: شديدة، هائلة، متوسطة، خفيفة. وفي زمننا الحالي يعتبر مقياس ريختر الأشهرَ في قياس شدّة الزلازل.
يذهب علماء الجيولوجيا في الكشف عن آثار الزلازل إلى التنقيب في طبقات الكرة الأرضية، ويدعمهم في هذا البحث ما جاء في كتب التاريخ من ذكر عنها. وتعتبر رسالة السيوطي "كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة"، من أهم المجاميع التراثية التي تذكر الزلازل في منطقتنا العربية. ولقد تنوّعت هذه المصادر ما بين ما يختصّ بالزلازل، حيث أورد ابن النديم في فهرسه كتاباً بعنوان "علم حدوث الرياح في باطن الأرض المحدثة كثير الزلازل" وهو للكِندي. ويعدّ أقدم مصدر عربي اختص بذكر الزلازل.
يقول السيوطي بأن أول زلزلة في الأرض حدثت يوم قتَل قابيل أخاه هابيل واستمرت سبعة أيام. وأورد بأنّ أرض الشام قد اهتزت بعد المسيح واحدة وثمانين مرة
وذكر ياقوت الحموي في كتابه "معجم الأدباء" أن ابن عساكر كتب كتاباً من ثلاثة أجزاء بعنوان "الإنذار بحدوث الزلزال". وهناك العديد من الكتب التي تناولت الزلزال بجانبه الفقهي والديني. وفي جانب آخر تناول الكتّاب العرب القدماء الزلازل ضمن كتبهم، كما فعل الطبري في "تاريخ الرسل والملوك"، و"الكامل في التاريخ" لابن كثير.
هذا الاهتمام بالزلازل من العرب قادهم إلى البحث في أسبابها، فمنهم من أرجعها إلى أسباب دينية وعقابية، ووضعها آخرون ضمن مخيال خرافي. أمّا البقية، فقد نحوا منحى طبيعياً في تفسيرها، ولقد بدأوا التسجيل من العام 20 هـ، في حين ربطوا الزلازل قبل البعثة النبوية بأحداث دينية متعلّق بولادة الأنبياء أو اضطهادهم.
يقول السيوطي بأن أول زلزلة في الأرض حدثت يوم قتل قابيل أخاه هابيل واستمرت سبعة أيام. وأورد بأنّ أرض الشام قد اهتزت بعد المسيح واحدة وثمانين مرة. ويذكر أنّ الأرض قد رجفت يوم مولد الرسول، وفيها سقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى. وحاول الفلكيون أن يتنبأوا بالزلازل، ويذكر العسقلاني ذلك، بأنّه عام 801 هـ ذكر أهل الهيئة بأنّه يقع في هذه السنة زلزال عظيم، في أول جمعة منها. وشاع بين الناس ذلك، لكن لم يقع شيء من ذلك وكذّبهم الله.
وجاء في كتاب "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" للبجيرمي نقلاً عن القزويني بأنّ سبب الزلزلة بعوضة خلقها الله وسلّطها على الثور الذي عليه الأرض، فهي تطير أبداً بين عينيه، فإذا دخلت أنفه، حرّك الثور رأسه، فيتحرّك جانب من جوانب الأرض. ويضيف سبباً آخر بأنّ عروق جبل قاف المحيط بالدنيا تمتدّ في أصول بلاد الأرض، فإذا أراد الله أن يعذّب بلدة، أمر ملكاً بتحريك ذلك العرق الذي هو راسخ تحتها، فتتزلزل تلك البلدة. ويقال بأنّ سبب الزلزلة بأنّ الله تجلّى للأرض فترتجف خشية منه.
مسبّبات الزلزال عند العرب
تعني الزلزلة في كلام العرب تحريك الشيء، وفي القرآن: "إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا" أي تحركت حركة شديدة. وتُسمى الزلزلة الرجفة. وقد جمع الدكتور عبد الله يوسف الغنيم في كتابه "أسباب الزلازل وأحداثها في التراث العربي" أهم آراء المؤرخين والجغرافيين وعلماء العرب عن أسباب نشوء الزلازل، والتي تكاد تجمع على عدّة أسباب.
الاهتمام بالزلازل من العرب قادهم إلى البحث في أسبابها، فمنهم من أرجعها إلى أسباب دينية وعقابية، ووضعها آخرون ضمن مخيال خرافي
يرى إخوان الصفا بأنّ الكهوف والمغارات التي في جوف الأرض والجبال، إذا لم يكن لها منافذ تخرج المياه منها وبقيت تلك المياه محبوسة، فأنّها تحمى نتيجة سخونة باطن الأرض، فتتحوّل إلى بخار، وإن لم تجد مكاناً تنفذ منه، تشقّ الأرض وتخسفها ويسمع لذلك صوت قوي.
ويذهب ابن سينا إلى تعريف الزلزلة بأنّها حركة تعرض لجزء من الأرض نتيجة بخار ريحي أو ناري في باطن الأرض، ولا شيء يحرك الأرض تلك الحركة السريعة غير الريح أو مياه تسيل بقوة. وهو بذلك يستند إلى رأي ديمقريطس، ولا يبتعد ابن حيان في تحليله عن ما سبق وكذلك القزويني، واعتبر العرب بأنّ البلاد التي تكثر فيها الآبار والأقنية تخفّف من احتباس الريح والماء مما يحدّ من الزلازل. وتعود آراء العلماء العرب إلى آراء أرسطو في كتابه "الآثار العلوية".
هل عرف العرب ظاهرة التسونامي والهزات الارتدادية؟
ربط العلماء العرب القدامى بين الزلازل وانحسار البحر، ففي عام 460 هـ انحسر البحر عن ساحل الشام مسافة يوم، فنزل الناس يلتقطون ثمار البحر، وما كشف عن سفن غارقة، فرجع البحر عليهم وأغرق خلقاً كثيراً. وفي عكا عام 702 هـ رجع البحر مقدار فرسخين. وأدّى نفس الزلزال الذي حدث في عكا إلى هيجان البحر في الإسكندرية، وتهدّمت أبراجها. وقد سجل العرب في تأريخهم للزلازل الهزاتِ الارتدادية. ويذكر السيوطي عن زلزال بغداد الموافق 551 هـ/1157 م بالحرف: "وتلا ذلك ردفات متوالية أخفّ من غيرها".
المنازل والديار
لم يكتف التراث العربي بالتأريخ للزلازل ووصف ما تحدثه من دمار كبير، وموت عميم، وتعليل أسباب حدوثها، بل كان الأدب مرآة تعكس هول الكارثة. ولربما يكون الأمير أسامة بن منقذ الذي دمر الزلزال قلعته شيزر، وأفنى أهله، خيرَ من عبّر عن عمق المصاب وقسوته. يقول ابن العديم: "ووقعت الزلازل في شهر رجب في سنة 552 الهجرية، بالشام، فخربت حماة، وشيزر، وكفر طاب، وأفامية، ومعرة النعمان، وحمص، وحصن الشميمس عند سلمية، وغير ذلك من بلاد الفرنج وتهدمت أسوار هذه البلاد".
وأمّا شيزر، فانقلبت القلعة على صاحبها وأهله، فهلكوا كلهم... وقد هلك تاج الدولة ابن منقذ وأولاده، ولم يسلم منهم إلّا الخاتون أخت شمس الملوك زوجة تاج الدولة، ونبشت من تحت الردم سالمة، وسلم أسامة إذ كان يومئذ بعيداً عن شيزر.
كتب الأمير أسامة بن منقذ ديوانه "المنازل والديار"، حنيناً للوطن والأهل والأحباب ووتخليداً لذكرهم الذي طواه الزلزال. ويقول في سبب تأليفه هذا الكتاب: "إنّي دعاني إلى جمع هذا الكتاب، ما نال بلادي وأوطاني من الخراب، فإنّ الزمان جرّ عليها ذيله، فأصبحت، كأن لم تغن بالأمس، موحشة العرصات بعد الأنس، قد دثر عمرانها، وهلك سكانها، فعادت مغانيها رسوماً، والمسرات بها حسرات وهموماً، ولقد وقفت عليها بعدما أصابها من الزلزال ما أصابها، وهي أول أرض مسّ جلدي ترابها، فما عرفت داري، ولا دور والدي وإخوتي، ولا دور أعمامي وبني عمي وأسرتي، فبهت متحيراً مستعيذاً من عظيم بلائه، وانتزاع ما خوله من نعمائه".
ربط العلماء العرب القدامى بين الزلازل وانحسار البحر؛ ففي العام 460 هـ انحسر البحر عن ساحل الشام مسافة يوم، فنزل الناس يلتقطون ثمار البحر، وما كشف عن سفن غارقة، فرجع البحر عليهم وأغرق خلقاً كثيراً
يقول أسامة بن منقذ باكياً، ومتأسياً، ومعتبراً، وشاهداً على ما فعله الزلزال: "ويحَ الزّلازِلِ أفنَت مَعشَري فإذا/ذكَرتُهُم خِلتُني في القوم سَكرانا/ بَنِي أبي إن تَبيدوا أن عَدا زَمنٌ/ عليكُمُ دون هَذا الخلقِ عُدوانا/ فلن يَبيدَ جَوى قَلبي ولا كَمَدي/ عليكُمُ أو يُبيدَ الدَّهرُ ثَهلانا".
ويقول أيضاً: "نِمنا عن الموتِ والمعادِ فأصْ/ بَحنا نَظُنُّ اليقينَ أحْلاما/فحرّكَتْنا هذي الزّلازلُ أنْ/ تيقَّظوا كَم يَنامُ من ناما".
ويشير ابن منقذ إلى إحدى الاحترازات التي لجأ إليها الناس هرباً من الزلزال، بأن يسكنوا بيوتاً من خشب، فيقول: تعوّضوا من مشيدات المنازل بالـ/ أكواخ فهي قبور سقفها خشبُ/
كأنّها سفن قد أقبلت وهمُ/ فيها، فلا ملجأ منها ولا هربُ".
وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" قول أحدهم في الزلزال الذي أصاب الحجاز، وما رافقه من تفجّر بعض البراكين: "يا كاشف الضرِّ صفحاً عن جرائمنا/ لقد أحاطت بنا يا ربُّ بأساءُ/ نشكو إليك خطوباً لا نطيق لها/حملاً ونحن بها حقاً أحقّاءُ/ زلزال تخشع الصمُّ الصلابُ لها/ وكيف يقوى على الزلزال شمّاءُ/ أقام سبعاً يرجّ الأرض فانصدعت/ عن منظر منه عينُ الشمس عشواءُ/بحرٌ من النار تجري فوقه سفنٌ/ من الهضاب لها في الأرض أرساءُ/ كأنما فوقه الأجبال طافيةٌ/ موجٌ عليه لفرطِ اليهج وعثاءُ/ ترمي لها شرراً كالقصرِ طائشةً/ كأنّها ديمةٌ تنصب هطلاءُ".
ونختم هذا المقال ببيت يُنسب للمتنبي، مادحاً كافور الأخشيدي بعد زلزال ضرب مصر، ونعلمُ ما يضمره المتنبي من تهكّمٍ صارخ في بيته الشعري، ونحن نرى زلزال السياسة يفوق زلزال الأرض تدميراً: "ما زلزلت مصر من كيدٍ ألمَّ بها /لكنّها رقصت من عدلِكم طرباً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 13 ساعةبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون