من فترة قريبة، انتشر نوع جديد من المحتوى المرئي يُسمى reels أو shorts، ويختلف الاسم طبقاً للمنصّة المعروض عليها، وهي فيديوهات قصيرة، تمتد من أربعين ثانية لحوالي دقيقة، وعلى بعض المنصات تصل المدة لثلاث دقائق.
لا أستبعد أنك على دراية تامة بها وأنك قضيت كل يوم لمدة ساعات تقسم لنفسك بأن هذا هو المقطع الأخير، ولكن يستمر الواحد تلو الآخر، وهذا شيء طبيعي لما تقدمه تلك المقاطع بما يُعرف باللذة الفورية، التي يستمتع بها عقلك ويجبرك على الاستمرار. لست هنا لأحدثك عما تفعله تلك المقاطع بصحتك النفسية أو إنتاجيتك، أنا هنا لنتحدث عن مستقبل الكتابة أمام هذا النوع من المحتوى، ولكن قبل أن نخوض في حديثنا، اسمح لي أن أعرف بنفسي:
أنا حالي كحال تاجر مخدرات، يبيع المخدر ولكن لا يتعاطاه، و أعمل بالمجال فقط اقتضاء لظروف الحياة، أما ما دفعني للكتابة في موضوعي هذا، فهو التزامي بأخلاق التجارة.
للتسهيل عليك زبوني المتعاطي، فأنا أعمل في كتابة المحتوى المرئي المسموع مع عدد من المؤثرين أو البلوغرز (Bloggers)، وأكثر أصناف المحتوى طلباً حالياً هو صنفك المحبب، الـ reels، لأنها أكثر وأسهل أنواع المحتوى انتشاراً، وما دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع، كما أخبرتك مسبقاً، التزام بأخلاق المهنة، والخوف على زملائي في نفس الكار، فلا أرى مستقبلاً مشرقاً مع انتشار مثل هذا النوع من المحتوى.
انتشر مؤخراً نوع جديد من المحتوى المرئي يُسمى reels أو shorts، ويختلف الاسم طبقاً للمنصّة المعروض عليها: فيديوهات قصيرة، تمتد من أربعين ثانية لحوالي دقيقة، وعلى بعض المنصات تصل المدة لثلاث دقائق
لا خلاف أن هذا النوع من الفيديوهات هو مطلب من متطلبات العصر، ولكن ما نحن أمامه هو مؤشر خطر لمستقبل الكتابة، و أداة مشوهة لجمالها. بالطبع لن تختفي الكتابة، فلن يتوقف الناس عن استعمالها في قضاء شؤونهم اليومية، لكنها ستقتصر على قضاء أساسيات واحتياجات البشر، وتتوقف عن كونها ممتعة لهم، تتوقف عن التعبير عما عجزوا هم التعبير عنه. سينتهي سحر الكتابة، وجمال التشبيهات الغريبة، والمجازات المبهرة، التي تدفع القارئ إلى الانبهار، فيقف متسائلاً كيف توصل الكاتب لمثل هذا التعبير، من أين جاءته فكرة كتلك، وكيف طُوعت اللغة في يديه فأخرجها بمثل هذا الشكل؟ ولا يعلم أن في الضفة الأخرى يقف الكاتب يطرح نفس الأسئلة، فهو لا يعلم كيف أنتج مثل هذا الكلام، ربما هي الموهبة، وربما الخبرة وكثرة القراءة، أو ربما لم تكن يداه هي التي كتبت بل إنها يد الإله، أو على الأقل كانت ممسكة بيده.
ولكن رُفعت يد الإله، وتوقفت يد الكاتب، فمن يُخاطِب والكل مشغول بلذته الفورية.
تخيل معي أن يُطلب منك وصف موقف أو توضيح معلومة في عدد من الكلمات لا يتجاوز المائة، فرغماً عنك ستتخلى عن أساليبك الإبداعية، وعن التفاصيل التي من شأنها أن تجمّل طريقة سردك، و تسمح لك بنقل الجمهور إلى عالمك الخاص.
ولكن مع مثل هذا الطلب، تتحول إلى طفل تعلم لتوّه الإمساك بالقلم، فيضع جملاً ومفردات مصمتة، الواحدة بجانب الأخرى، حتى تكتمل الجملة التي من شأنها توصيل المعلومة فقط، وبسبب تلك التفاصيل المُهملة قد تختلف الرسالة، ولكن من يبالي ما الحق مادام لن يسعه الوقت ليُذكر في تلك الثواني.
من أهم شروط كتابة reels هو أن تكون الجملة الافتتاحية شاملة، وافية كافية، توضح ما يحمله الفيديو من محتوى، وتكون ملفتة، جذابة، لا تسمح بالمشاهد أن يسحب الشاشة، ولا بأس إن كانت مضللة كعناوين جريدة صفراء سيئة السمعة، مادامت ستجذب المشاهد.
وإن كان المطلوب عشر ثوان لتصل رسالتك وتحقق كل ما سبق ذكره، فكم سيكون الوقت المسموح في المستقبل الذي من شأنه أن يكون أسرع من الزمن الذي نعيش فيه؟
والآن عزيزي القارئ، لربما أطلت عليك دون أن أصل إلى نقطتي بشكل كامل، ولكن لا تقلق ها نحن الآن قد وصلنا، فاسمح لي ببعض الوقت لأريك كيف ستتحول الكتابة إلى مسخ، والتي من شأنها أن تؤثر على تجربة القراءة، والتي أخشى في يوم أن تتوقف عن كونها ممتعة، فيدفعك الـ reels ،ومثل هذا النوع من المحتوى السريع، إلى الرغبة في الوصول إلى المعلومة أو المغزى سريعاً.
هذا النوع من الفيديوهات هو مطلب من متطلبات العصر، ولكن ما نحن أمامه هو مؤشر خطر لمستقبل الكتابة، و أداة مشوهة لجمالها، فتدفعك الـ reels، والمحتوى السريع، إلى الرغبة في الوصول إلى المعلومة أو المغزى سريعاً
الآن تخيل معي من سيصبر لقراءة عشرات الصفحات لنجيب محفوظ ليهيئ فيها القارئ ويسحبه من يده ويدخل به إلى الزقاق أو الحارة أو العطفة التي تجري فيها الأحداث، ويجعلك جزءاً من هذا المكان، تنتمي له كما لو أنك ساكن قديم مُلم بكل تفاصيل المكان وتاريخه، أو من سيصبر لقراءة ما كتبه طه حسين في مقدمته، موضحاً أي منهج استخدم وكيف تحرّى معلوماته.
إما أن تصل إلى مفادك سريعاً أو لا تضيع وقتك ووقتنا. وإن كان أمثال هؤلاء من كبار الكتّاب لن يصبر الناس عليهم، فما بالك بصغار الكتّاب، فلا ملامة عليهم إن اتجهوا إلى كتابة قصص وروايات، كل صفحة فيها هي كلمات مرصوصة تحكي الموقف في إيجاز، وهكذا أصبح الكتاب مسخاً مقززاً بعد أن كان خير صديق.
و الكوميديا لها نصيب كبير من هذا التشوّه، فعلى الفيلم أن يتحول إلى عدد لا حصر له من ال reels المرصوصة بجانب بعضها البعض، لا مساحة لخلق بيئة تنمو فيها الكوميديا، فيُقدم لك وجبة دسمة، خفيفة الظل، مبنية على أسس سليمة، فإما تُسرع بإلقاء "الجزء المضحك"، أو ما يُعرف بالـ "punchline"، أو سيصدر الحكم على فكاهتك بالسخف والملل.
أخشى أن أكون قد سقطت في الفخ الذي يسقط فيه كل مُتحفّظ حين يواجه مُجدداً، فهكذا علمنا التاريخ، وتكثُر الأمثلة في مثل هذا الشأن، ولكن أعتقد أن الفارق هو أن المتحفظين قلّما استطاعوا أن يجاروا هذا التجديد، ولهذا اتجهوا إلى محاربته، أما أنا فدافعي هو الخوف على الكتابة من الاندثار، أو على الأقل فقدان الجمال والتحول إلى آلة تؤدي وظيفتها فحسب، بالأخص في وقت تطور فيه الذكاء الاصطناعي في مجال الكتابة إلى حد مبهر ومرعب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...