وأنا أتصفّح ما أظنّه أفضل مشترياتي من معرض القاهرة الدولي للكتاب، الأعمال الشعرية الكاملة لإميلي ديكنسون، ترجمة عابد إسماعيل والصادر عن دار التكوين (سوريا)، فكرت أن الكاتبات النساء استحوذن على أغلب قراءاتي العام الماضي ومطلع العام الحالي، لكن بنظرة بسيطة على ما قرأت عبر موقع غودريدز، اكتشفت أن ذلك الاستحواذ الرقمي ليس دقيقاً، ولا يمثل النسبة الغالبة لما قرأته، لكنه وهم صحيح في الآن نفسه.
تلك الكتب، على قلتها، هي أكثر الكتب التي هزّتني وأحدثت فيّ تغييراً دفعني للتفكير باتجاه أعمق وجذري نحو الأدب، كـ "أقفاص فارغة" لفاطمة قنديل، و"صلاة تشيرنوبل" لسفيتلانا ألكسيفتش، التي لا أحفظ أبداً اسمها، وكتابَي جون ديدون "عام التفكير السحري" و"كيفما اتفق"، و"رحالة" للكاتبة البولندية أولغا توكارتشوك، و"المثقفون" لسيمون دي بوفوار، ويمكنني أن أضيف للقائمة، "في أثر عنايات الزيات" لإيمان مرسال، و"وراء الفردوس" لمنصورة عز الدين، والكتابين الأخيرين، سبقا ذلك الانتباه، ولكنهما أسّستا له، بعد إدراكي أني، على مدار أعوام، أتعلم من الكاتبتين، كل واحدة بطريقتها التي لا تشبه الأخرى.
أفكر أيضاً أن نجيب محفوظ ودوستوفسكي، على عظمتها، لم ينجحا في وصف صوت أنثى من الداخل، لم يرياها أبداً إلا من خلال وجهة نظر أو نظرية أو مثال، فجعلا منها إما قديسة أو عاهرة، أو الاثنتين معاً، حتى أمينة في سي السيد، هي خارجة من صورة المرأة التي نفهمها ونتعاطف معها بغض النظر عن موقفنا من العالم، ونود لو في حياة أخرى (وهل هناك أفضل من الأدب لفعل ذلك)، أن نمنحهن حياة أفضل مما حصلن عليه: أمهاتنا.
أفكر أيضاً أن نجيب محفوظ ودوستوفسكي، على عظمتها، لم ينجحا في وصف صوت أنثى من الداخل، لم يرياها أبداً إلا من خلال وجهة نظر أو نظرية أو مثال، فجعلا منها إما قديسة أو عاهرة، أو الاثنتين معاً
والمحصلة: لم ينجحا في رؤية المرأة، بينما تتمكن المرأة حقاً من رؤية الرجل، كأن صوته من الأساس محتوى داخل صوتها، مجرّد إضافة عادية. ربما ذلك مثال تبسيطي أكثر مما يجب، ويمكن دحضه بسهولة. لا أعرف، لكنه يسهل شرح فكرتي.
ما الشيء المشترك بين أولئك الكاتبات؟ وهل الأمر فقط أني تغيّرت؟ أم أن ما أبحث عنه لا أجده إلا عندهن، فتميل يدي دون قصد لالتقاط أول كتاب لامرأة؟ لم أشعر بذلك التغيّر أو الهزة التي تصنع إدراكاً مختلفاً عندما قرأت لإيزابيل الليندي أو مارجريت أتوود، رغم إعجابي ببعض أعمالهما، لكن دون أن تثيرا فيّ ذلك الشغف المحفور في الذاكرة والروح والوعي.
لكني أتذكر شيئاً آخر، قبل أربعة أعوام أو أكثر، حاولت مشاهدة The Handmaid's Tale، المأخوذ عن رواية لأتوود، ولم أصمد لإنهاء الموسم الأول، شعرت باكتئاب وقرف شديد، وصرت في حالة مزاجية سوداوية، كارهة لكل شيء، لم أربطها في البداية بالمسلسل، لكني حالتي النفسية تحسنت سريعاً بمجرّد أن أخذت قراراً بعدم إكمال المسلسل، فأدركت أنه المسؤول عن تلك الحالة.
في البداية لمت نفسي، وفكرت أني لست إنساناً جيداً وشجاعاً بما يكفي لتفهّم أوجاع النساء، وهن يحكين عن أنفسهن، وعما يتعرضن له من مظالم، قبل أن أفهم لاحقاً أن المسلسل (بالطبع كنت أجبن من أفتح الرواية) قد ارتكب خطأ لا يمت للجندر بصلة، خطأ فنياً في الواقع، يكاد من وجهة نظري التي لا أثق في صحتها إلا في الجانب الذي أرى منه الكتابة والعالم، يخرجه بالنسبة لي من دائرة الفن، هو تكثيف المظالم، سواد متصل بلا نقطة نور.
لندرك أن ألف ليلة من الحكايات لم ترو لتسلية شهريار، بل لينضج
توالي المآسي، والحلقات التي لا تنتهي للجحيم، يفقدها معناها ويميت عصب استقبالها، والأسوأ قد تتحول إلى نكتة، حتى في جحيم دانتي لم يفعلها، كانت هناك نقاط لالتقاط الأنفاس والأمل والتأمل والشفقة، هناك مثلاً في قلب الجحيم، في الأنشودة الخامسة من الجحيم، قصة باولو وفرانشيسكا، العاشقين اللذين ماتا كزناة، يروى دانتي مصيرهما بشفقة لا محدودة، ونشعر أنه يحسدهما على مصيرهما، رغم أنهما عالقان في الجحيم إلى الأبد، على الرغم من أن روحه ستنقذ حظي المذنبين بالحب.
ودرس التضاد من أجل التمييز، لا نتعلمه فقط من دانتي، بل هو أساس فن السرد أيضاً، وهو درس سيرفانتيس في دون كيخوته، حيث لا يمكن لنا أن ندرك دون كيخوته دون نقيضه سانشو.
فلنذهب أبعد، من أمثلة الكاتب الذكر، لأنها ليست شروطه، بل هي شروط الفن، وليكن مثالنا الأهم هو "ألف ليلة وليلة"، حيث اختار الوعي الجمعي امرأة لتكون ساردة أهم نص في العالم.
شهرزاد، المرأة الجسور التي تضرب شهريار على كل أوتاره الهشة، ما يجعل النص ثورياً، فتخبره مثلاً بجرأة أن ممارسة النساء للخيانة حقيقة، بل ستحاكي في واحدة من القصص ما حدث مع شهريار بالضبط، الزوجة تخون رجلها الأمير الشاب مع عبد، بل ستسهب دون رحمة في وصف افتتان المرأة بعبدها واحتقارها الكبير للأمير، لكن سرعان ما ستخبره قصصاً أخرى عن رجال خائنين بلا عهد، ليكشف عن تفاهة تعميمه وحكمهن، بل ستسحبه في حكاية الحمال مع البنات، لنرى لذات معقدة، تختلط فيها المازوخية مع السادية، حيث يمكن فهم أن قاع اللذة بلا قرار، بما لا يمكن لشهريار المسكين تخيله، لكن بالإقرار بوجوده قد يفهم شيئاً عن فكرة الشهوة التي لا يسمح بها إلا لنفسه، بينما الفكرة البديهية لا تراوده: النساء أيضاً يشتهين، ولا حدود لأفكارهن في سبيل ذلك، حيث يمكن للذاتهن أيضاً – مثله تماماً- أن تتحلى بجرأة الانحراف، القاع الذي لم يجرؤ على النظر إليه إلا من زاوية نفسه.
لندرك أن ألف ليلة من الحكايات لم ترو لتسليته، بل لينضج.
الأمر لا يتعلق فقط برواية صوت الأنثى، ولا بتلك الفكرة الخائبة التي تشجّع كتابات النساء بوصفها كتابة أقلية داخل عالم هيمن الرجال على حضوره، بل بإدراك العالم والإنسان من خلال هذا الصوت، كأن العالم فجأة عبر الإنصات إليه يكتسب حضوراً مضاعفاً ومغايراً
الجامع إذن في تلك الكتب التي أعجبتني أنها تفهمت الشرط الأساسي لشروط الفن، التي أقرتها شهرزاد أولاً، لكنهن يملكن شيئاً إضافياً آخر لا يملكه الكتّاب الرجال، ببساطة وبعيداً عن أي تشنّجات تنتمي للصوابية السياسية، لأنهن نساء، لأنهن يمتلكن الأمومة، حيث العالم يولد، ليس فقط من خلال رحم، لكن أيضاً من خلال صدع، حساسية الأنثى للتفاصيل، للاحتواء، وفي المسافة بين قوسي الأمزجة المتقلبة يكمن فهم أوسع للعالم، حيث الشيء ونقيضه توأمان، بل وإدراك الحياة كعبء، ما يجعله خفيفاً أننا نراهن يحملنه بلا كلل ورغم كل ضعف ممكن.
هل السبب أن الأمر لا يتعلق فقط برواية صوت الأنثى، ولا بتلك الفكرة الخائبة التي تشجّع كتابات النساء بوصفها كتابة أقلية داخل عالم هيمن الرجال على حضوره تاريخياً، بل بإدراك العالم والإنسان من خلال هذا الصوت، كأن العالم فجأة عبر الإنصات إليه يكتسب حضوراً مضاعفاً ومغايراً.
هل علينا كرجال أن ننصت كشهريار إلى صوت شهرزاد العصرية كي ننضج؟
*****
لا أعرف لماذا علي أن أنهي المقال بهذا الاقتباس من كتاب "رحالة" لأولغا توكارتشوك، والحائزة على نوبل للآداب عام 2018، الكتاب صادر عن دار التنوير، بترجمة إيهاب عبد الحميد:
"كثيراً ما تغضب منه. كان الرجل متواكلاً عليها بالكامل، ومع ذلك يتصرف وكأن العكس هو الصحيح. فكرت في نفسها أن الرجال، أو على الأقل الأكثر مهارة بينهم، لديهم غريزة بقاء تدفعهم إلى التشبث، باستماتة تقريباً، بنساء يصغرنهم بكثير - لكن ليس للأسباب التي يصفها علماء الاجتماع البيولوجي. لا، فالأمر لا يتعلق مطلقاً بالتناسل، أو الجينات، أو حشر أحماضهم النووية داخل أنابيب المادة الصغيرة التي يسري فيها الزمن. بل هو متعلّق بالهاجس المسبق لدى الرجال في كل لحظة من حياتهم، هاجس مكتوم ومخفي بعناد - أنهم إذا تركوا لحالهم، في الرِفقة البليدة الهادئة لحركة الزمن، سوف يصيبهم الضمور على نحو أسرع. وكأنهم قد صُمّموا لدفقة قصيرة من النشاط، لسباق رهاناته عالية فوراً، يتبعه على الفور إنهاك. كأن ما يبقيهم على قيد الحياة هو الإثارة، وهي استراتيجية مكلفة لعيش الحياة؛ إذ تنضب مستودعات الطاقة في نهاية المطاف، وبعدها تصبح الحياة أشبه بالسحب على المكشوف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين