"اسمي هيرانوش، ولدتُ في قرية هاباب الأرمنية. في العاشرة من عمري، خلال مسيرات التهجير، اُختطفت من أمي، كانت تشدني من يدي، وقائد الدرك يُدمي جسدها بالسوط، وأخي هيراير على ظهرها يموت". هذه هي بطاقة هوية هيرانوش، الجدة الأرمنية للكاتبة والناشطة الحقوقية التركية فتحية جتين، وهي أيضاً صورة أصلية ومفزغة من صور الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في حق الأرمن في عهد الدولة العثمانية عام 1915.
بعد وفاة جدتها بأربع سنوات، رأت فتحية جتين أنه قد حان الوقت، لكسر حدة الصمت، التي تحيط بالمجازر التي ارتُكبت في حق الأرمن، وكذلك لتردّ الدين لجدتها التي قضت طفولتها بجوار المذابح، وفي مسيرات التهجير، حتى اختُطفت من أهلها، لتُطمس هويتها الأرمنية، ولغتها ودياناتها المسيحية، ومن ثم أصدرت جتين، مذكرات جدتها الأرمنية، في عام 2004، وقد حققت نجاحاً كبيراً، وتأثيراً واسعاً في الأوساط الثقافية والسياسية التركية والعالمية، وتُرجمت إلى 13 لغة حية، من بينها اللغة العربية، حيث صدرت الترجمة العربية للكتاب عن دار الفارابي للنشر ببيروت.
قبل المحطة الأخيرة
في عام 1975 انقلب العالم رأساً على عقب في عيني الشابة العشرينية فتحية؛ كانت تخرج إلى الشارع، تصرخ، وتبكي، فالعبء كان ثقيلاً عليها، عبء حكاية الجدة؛ ففي ذلك العام، وبعد أن شعرت جدتها أن العمر يتجه بها إلى المحطة الأخيرة، قررت أن تحكي، أن تسرد مسيرات العذاب والتهجير لحفيدتها.
أرادت أن تُفشي لها بالسرّ الدفين، فالجدة ذات الذكاء الحاد، الحيوية، المرحة، التي تعشق الغناء والموسيقى، وتعيش وسط أبنائها وأحفادها، حياة طبيعية وبسيطة، ويُنادونها بـ"سهر"، تحتفظ في ركن بعيد وخفي من ذاكرتها، بحكاية سوداء، عاشت فصولها وهي طفلة صغيرة لم تتجاوز العشر سنوات، حتى أحكم القدر مصيره القاسي على عنق هيرانوش، لتعيش بعيدة عن أهلها حتى وفاتها عن 95 عاماً، وصوت أمها وهي تنادي عليها وسط المذابح، كان لا يزال يدق على جدار روحها.
اسمي "هيرانوش" وليس "سهر"
كان ثمة رابط روحي قوي بين الجدة هيرانوش، والحفيدة فتحية؛ فالجدة كانت تشعر أن هذه الحفيدة بالتحديد يجري في عروقها الدم الأرميني أكثر من غيرها من الأحفاد، ومن ثم اختارتها لتقص عليها الحكاية: "اسمي هيرانوش وليس سهر، وأبي هوفانيس، وأمي إسكوهي، وليس العريف حسين وأسمى. عشت طفولة سعيدة في قرية هاباب بالقرب من بالو، حتى الصف الثالث الابتدائي. أنتمي إلى عائلة أرمنية كبيرة هي عائلة غاداريان، وكان لنا بيت كبير، وأمامه حديقة مزهرة. في يوم ربيعي دافئ من أيام عام 1915، بدأت مسيرة الموت الطويلة الأليمة، حين داهم رجال الدرك قريتنا".
"اسمي هيرانوش، ولدتُ في قرية هاباب الأرمنية. في العاشرة من عمري، خلال مسيرات التهجير، اختُطفتُ من أمي، كانت تشدّني من يدي، وقائد الدرك يُدمي جسدها بالسوط، وأخي هيراير على ظهرها يموت"
وتواصل: "في ذلك اليوم اقتحم العساكر القرية، ساقوا الرجال بعيداً، كان بينهم جديّ هيرانوش، وخالها، واثنين من أعمامها، ثم ذبحوا مختار القرية نيغوروس آغا أمام الجميع، وبعد ذلك أفضوا القرية من الرجال". وهكذا لم يبق سوى النساء والأطفال. أصيبت النساء بالهلع، وظللن يبحثن عن مخرج. قبل عشرين عاماً من هذا اليوم،
كانت جدة هيرانوش، شاهدة على اقتحام مماثل لما حدث، ولذلك كان تطمئن النساء: "لا تقلقن، الرجال سيعودون، لقد حدث ذلك من قبل. لكنهم عادوا. بل عدنا جميعاً، حيث تم ترحيلنا بالكامل، نساء ورجال وأطفال، وحين عدنا وجدنا قريتنا منهوبة، وكنائسنا محترقة، وقد قمنا بتشييد كل شيء من جديد. لكنني لن أنسى أبداً الرجال الذين ذبحوا وتُركت أجسادهم على الطرقات". كانت الجدة الكبيرة تحاول تهدئة النساء، وتُصبرهن على المصير القاسي، لكن النساء كن يعرفن أن ما يحدث اليوم، ليس كما حدث من قبل، "هناك شيء مخيف يُدبر".
"كانوا يقطعون رقاب الرجال ويرمونها في النهر"
كانت إسكوهي أم هيرانوش في التاسعة من عمرها، حين وقع الهجوم التي أشارت إليه الجدة الكبيرة، ولأن تجربتها أيام الطفولة قد مكنتها من التنبؤ بالمخاطر المقبلة، فقد جمعت أخواتها وطلبت منهن قص شعرهن، وعمل أي شيء من شأنه جعلهن يبدين قبيحات، حتى لا يُلفتن الأنظار إليهن. استمعت الأخوات إلى نصيحة إسكوهي، ما عدا أصغرهن سيرانوش. في اليوم نفسه، كانت هناك غارة جديدة على القرية، اختطف العساكر خلالها الفتيات الحسناوات وكانت سيرانوش من ضمنهن.
اكتشفت إسكوهي، التي تولت بمفردها عناية أبنائها بعد هجرة زوجها إلى أمريكا، أن ثمة قرى مجاورة آمنة ولم تتعرض لغارات، ومن بينها قرية أخت زوجها، أخذت أطفالها الثلاثة: هيرانوش، خورين، وهيراير الطفل ذا الخمس سنوات، وذهبت إلى القرية، لكنها لم تكد تلتقط أنفاسها، حتى شُنت غارة عنيفة على هذه البلدة. ساقوا أهل القرية إلى بالو، حبسوا النساء والأطفال في ساحة الكنيسة، وأبقوا على الرجال في الخارج. بعد قليل سمع الأطفال والنساء صراخاً مروعاً آتياً من الخارج، لكن أحداً لم يعرف ماذا يحدث.
بعد وفاة جدتها بأربع سنوات، رأت فتحية جتين أنه قد حان الوقت لكسر حدّة الصمت التي تحيط بالمجازر التي ارتُكبت في حق الأرمن، وكذلك لتردّ الدّين لجدتها التي قضت طفولتها بجوار المذابح وفي مسيرات التهجير، حتى اختُطفت من أهلها
تركت هيرانوش يد أمها، وذهبت إلى إحدى الفتيات التي استطاعت أن ترى ما يحدث بوقوفها على كتف صديقتها، سألتها الصغيرة هيرانوش: ماذا رأيتِ؟ لتجيب: "كانوا يقطعون رقاب الرجال ويرمونها في النهر". طوال حياتها لم تستطع هيرانوش أن تنسى هذه الكلمات الدموية المروعة.
بعد أن قضوا على الرجال، قام العساكر بفتح بوابة الساحة، وساقوا النساء والأطفال إلى قراهم الأصلية، وكانت قد نُهبت تماماً. قامت النساء بتكسير القمح على أسطح منازلهن للحصول على البرغل، وسلقه، لكي يسكتوا جوعهن. وبعد قليل، شُنت غارة جديدة على القرية، وقد صدرت الأوامر بنفي وترحيل المتبقين بما فيهم النساء طريحات الفراش. وهكذا بدأت مسيرة العذاب والجوع والموت.
"خلال مسيرة التهجير، كانت أمي حريصة على أن تكون في الأمام، حتى تُجنبنا رؤية من يموتون جوعاً، ومن يبكون ويصرخون، لكن ثمة أشياء لا يمكن تجنبها أبداً مهما حاولنا. في مساء اليوم الأول من التهجير ذبح الدرك زوجة خالي الحامل أمامنا، وألقوا بجثتها على الطريق..."
تحكي الجدة: "خلال مسيرة التهجير، كانت أمي حريصة على أن تكون في الأمام، حتى تُجنبنا رؤية من يموتون جوعاً، ومن يبكون ويصرخون، لكن ثمة أشياء لا يمكن تجنبها أبداً مهما حاولنا. في مساء اليوم الأول من التهجير ذبح الدرك زوجة خالي الحامل أمامنا، وألقوا بجثتها على الطريق. خلال المسير كان يتم قتل كبار السن والذين لا يعودون يقوون على المشي بالحراب، وتركهم هناك، تماماً في المكان الذي سقطوا فيه. لقد تركوهم في العراء على هذه الحالة في أعالي الجبال".
عند جسر مادين
الموت ذاته لن يزيح عن ذاكرة هيرانوش، ما حدث عند عبور جسر مادين، هكذا كانت تقول لحفيدتها، فبعد عبور الجسر، قامت الجدة الكبيرة برمي حفيدتين من أحفادها في الماء، وبعد أن تأكدت من موتهما، قامت برمي نفسها، تحكي هيرانوش: "رمت جدتي حفيدتين من أحفادها في الماء. هما ابنتا عمي. كان والداهما قد قُتلا، ولم تكونا قادرتين على المشي.
إحداهما غرقت مباشرة، لكن الطفلة الأخرى بقي رأسها ظاهراً فوق الماء. جدتي –والدة أبي- دفعت رأسها لتغطسها لكن رأس الطفلة طاف مرة أخرى على سطح الماء، وكانت هذه هي آخر مرة ترى فيها العالم، حيث قامت جدتها بدفع رأسها مرة أخرى حتى غرقت تماماً. بعدها رمت هي أيضاً نفسها في تيار الماء المتدفق بشكل جنوني واختفت من المشهد".
بعد وصول المسيرة إلى جيرميك، كان عدد النساء والأطفال قد تضاءل. سقطوا موتى من الجوع والتعب. تجمع حول النساء سكان جيرميك، عرضوا عليهن الطعام والماء مقابل ذهبهن وحليهن، إلا أن هؤلاء اللواتي جفت أجسادهن من شدة الجوع، قد فقدن كل شيء خلال الأيام الأولى من المسير. ومن ثم فكر أهل جيرميك في أخذ الأطفال.
كانت إسكوهي قابضة على أبنائها الثلاثة، تصرخ وتقول: لا يمكن لأحد أن يأخذ أبنائي، مني لكن قائد درك جيرميك، قد صمم على أخذ الطفلة هيرانوش من يدها، انهال بالسوط على جسد الأم، وأخذ هيرانوش على ظهر حصانه وأسرع إلى البعيد، فيما أخذ قائد درك قرية كاراموسى حيدر أفندي، خورين، ولم يرغب أحد في أخذ هيراير كونه كان طفلاً صغيراً.
البحث عن العائلة
وهكذا افترقت الطرق بين إسكوهي وهيرانوش، ولم يلتقيا ثانية أبداً، وماتت الجدة الكبيرة، وإحدى خالات هيرانوش، ولم يتحمل الطفل هيراير العذاب أكثر من ذلك فمات هو الآخر من شدة الجوع. عاشت هيرانوش في منزل العريف حسين، وزوجته أسمى، بهوية جديدة، حيث مُنحت اسماً جديداً هو "سهر"، وكذلك اعتنقت الدين الإسلامي.
تحكي لحفيدتها أن العريف حسين، كان طيب القلب يعاملها بحنان ورفق، كونه لم ينجب أطفالاً، فيما عاملتها زوجته كخادمة. وخلال تلك الفترة استطاعت هيرانوش، لقاء أخيها خورين الذي مُنح هو الآخر اسماً جديداً هو أحمد، وكان يعمل راعياً للمواشي.
"هذه الرسالة كلماتها حُفرت في قلبي. سأموت وفي عيني هيرانوش طفلة سعيدة ومبهجة كما تركتها في بيتنا البعيد"
وقد أخبرها أخوها أن أمهما لا زالت على قيد الحياة، حيث رُحّلت إلى حلب مع النساء اللواتي نجون، وأن أبيها جاء من أمريكا للقاء زوجته، والبحث عنهما، حيث أوصى أحد المهربين بالوصول إليهما. نجح خورين في عبور الحدود إلى حلب. ولم تنجح هيرانوش في ذلك أبداً، بل لم تنجح في عبور أي حدود. لم يُساعدها أحد في الوصول إلى أهلها، فعاشت بعيدة عن الجميع، لكنها لم تنس أبداً، ولم تيأس من الوصول إلى عائلتها، فعندما بدأت حفيدتها فتحية في العمل السياسي والحقوقي، رأت الجدة أن بإمكانها مساعدتها في ذلك.
بذلت الحفيدة جهوداً مضنية لتحقيق حلم جدتها، لكن الموت كان أسرع، حيث لفظت الجدة أنفاسها الأخيرة قبل لقاء باقي أفراد عائلتها الذين يعيشون في أمريكا. نشرت فتحية نعياً في جريدة آغوس، وكان يرأس تحريرها الصحافي الأرمني التركي هرانت ديك (اغتيل أمام جريدته عام 2007). قرأت مارغريت أخت هيرانوش النعي، فأخبرت ابنها ريتشارد وبدوره تواصل مع الجريدة، وتم اللقاء بين فتحية جتين، وعائلة جدتها لأمها هيرانوش في أمريكا.
وهناك أطلعتها مارغريت على رسالة من هيرانوش عمرها يصل إلى 100 عام، كانت قد أرسلتها لأبيها وهي طفلة صغيرة، حين سافر إلى أمريكا. ظل الأب محتفظاً برسالة الطفلة الرقيقة حتى موته، وكان يقول: "هذه الرسالة كلماتها حُفرت في قلبي. سأموت وفي عيني هيرانوش طفلة سعيدة ومبهجة كما تركتها في بيتنا البعيد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...