وكر الجواسيس، أو عش الجواسيس، أو مركز الجاسوسية؛ بهذه النعوت وُسم مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية في بلدة شملان في قضاء عاليه-جبل لبنان، والذي كان يُعرف بميكاس MECAS، وظلّت هذه الصفة تلاحقه حتى إقفاله، فما حقيقة هذا المركز، وهل كان فعلاً مركزاً لإعداد الجواسيس؟
ما هو معهد ميكاس؟
في أثناء مرورك على طريق عام شملان، ستشاهد بين بيوتها القديمة والمميزة بالحجر الصخري والقرميد الأحمر، مبنى كبيراً بالمواصفات عينها. إنه مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية سابقاً، المركز الذي كان قد تأسس في القدس عام 1944، وانتقل بعدها إلى شملان بعد نكبة عام 1948، ليتحول هذا المبنى إلى نقطة جذب وحالة فريدة في المنطقة، حيث ضم مئات الطلاب الأجانب من عام 1948 حتى عام 1977، ولتلتصق به تهمة صناعة الجواسيس.
يشير المدير الأول للمعهد ليزلي ماكلوكاين، في كتاب أصدره عام 1993، تحت اسم "وكر الجواسيس؟"، إلى ظروف نشأة المعهد والغاية المنشودة منه ليصل بالمحصلّة إلى التأكيد بأن "الغرض منه لم يكن التجسس أو صناعة الجواسيس، وإنما تقديم خدمة للراغبين في دراسة اللغة العربية من بريطانيين وغيرهم وليزيد من معارفهم حول وضع العالم العربي ومشكلاته".
يقع مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية في بلدة شملان في قضاء عاليه-جبل لبنان، والذي كان يُعرف بميكاس MECAS
يروي الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، صقر أبو فخر، في حديثه إلى رصيف22، أن "المعهد أسسته بريطانيا في القدس لتعليم اللغة العربية وتأهيل ضباط من الجيش البريطاني وبعض الموظفين في السلك الدبلوماسي البريطاني، ليتعرفوا على المجتمعات العربية التي سوف يخدمون فيها، ولكي يتحدثوا اللغة العربية بما فيها اللغة المحكية، لذا ترى الذين سكنوا في لبنان مثلاً يتحدثون اللهجة اللبنانية، وبعدها أصبح يضم رجال الأعمال المهتمين بالعمل في العالم العربي، كرجال المصارف الذين استثمروا في العالم العربي ويهمهم أن يتقنوا اللغة العربية".
كانت مدة الدورة التعليمية داخل المعهد 18 شهراً، والعرب لم يكونوا طلّاباً وإنما أساتذة، فالعربي يعرف اللغة العربية وليس بحاجة إلى أن يتعلمها في مركز، أما الأساتذة فكانوا في معظمهم من لبنان وفلسطين. من لبنان درّس في المعهد كلّ من الياس سابا الذي كان وزيراً للمالية، وشارل مالك الذي كان وزيراً للخارجية وغسان تويني، أما من الوسط الفلسطيني فدرّس المؤرخ زين نور الدين زين ونقولا زيادة ووليد الخالدي.
هل ضم جواسيس؟
يؤكد أبو فخر أن "المعهد لم يكن يصنع الجواسيس أو يدرّبهم، لكن من بين مئات الطلبة الذين مرّوا عبره، كان بعضهم جواسيس من خريجي الاستخبارات الإنكليزية، والتي كان يهمّها أن يكتسبوا اللغة العربية لذا كانوا يرسلونهم إلى شملان، لتعلّم اللغة العربية ودراسة المجتمعات العربية، فهنالك الكثير من الجواسيس المعروفين مرّوا بالمركز، وقد مرّوا كطلاب لغة عربية".
ويذكر أنه "في البدايات درس في هذا المعهد أبا إيبان، وهو يهودي من جنوب إفريقيا، وهو الذي ترجم يوميات نائب في الأرياف، لتوفيق الحكيم، من اللغة العربية إلى اللغة العبرية، وبعدها أصبح وزير خارجية العدو الإسرائيلي".
كذلك، مرّ على هذا المعهد طلاب تبيّن لاحقاً أنهم جواسيس يعملون لصالح الاتحاد السوفياتي، ككيم فيلبي ودونالد ماكلين وغيي بورغس وكيل جيلبرت، ما يعني أنهم في الأساس جواسيس جاؤوا إلى شملان ليدرسوا العربية وليس ليتدربوا، فالتدرب على الجاسوسية وتقنيات التجسس بحاجة إلى مراكز متخصصة وضمن حماية معيّنة غالباً ما تكون ضمن السفارات، بحسب أبو فخر.
من أين أتى اللقب؟
يشير أبو فخر إلى أن أول من أطلق على المركز لقب وكر الجواسيس، كان كمال جنبلاط، واستعار كثر منه هذه الكلمة، مثل سعيد أبو الريش الصحافي الفلسطيني الذي كان يقيم في بيروت، وقد كتب كتاباً مشهوراً صدر في اللغة العربية بعنوان "بار السان جورج وكر الجواسيس في بيروت".
درس في المعهد أبا إيبان، وهو يهودي من جنوب إفريقيا، وأصبح وزير خارجية العدو الإسرائيلي، وجواسيس سوفيات، وبريطانيين، كانوا يأتوا لتعلّم العربية، فماذا نعرف عنهم وعن المعهد؟
وبعدها، أصدر ليزلي ماكلوكاين، كتاباً باللغة الإنكليزية دافع فيه عن المعهد وأعاد إصداره باللغة العربية تحت اسم "وكر للجواسيس؟"، مع علامات الاستفهام، كنوع من السخرية حول التهم التي وُجّهت إلى المركز، مؤكّداً أن المركز لم يقدّم أي خدمة أخرى غير تعليم اللغة العربية ودراسة المجتمعات العربية.
ويسأل أبو فخر: "الدولة اللبنانية أعطت المعهد رخصةً، فهل يمكن أن تعطي رخصةً لمركز تجسس؟ هذا مستحيل"، يجيب.
يروي مختار شملان غسّان حتّي، الذي وُلد عام 1942، وعايش تفاصيل حقبة المعهد، لرصيف22، أن "الوضع الاجتماعي والمعيشي تتطور بسرعة في شملان بعد افتتاح المركز، لأنه ليس سهلاً أن يأتي عشرات الأشخاص الأجانب ونصفهم كانوا متزوّجين وبحاجة إلى بيوت للسكن، وحتى من كان يقطن داخل المعهد منهم بعد فترة قصيرة ترك السكن وخرج ليستأجر في البلدة".
ويضيف: "كانوا يستأجرون غرفةً أو غرفتين من بيوت الأهالي، وفي ذلك الوقت كان المردود الاقتصادي لتأجير البيوت ممتازاً، هذا فضلاً عن ازدهار المحال التجارية نتيجة بيع السلع لهؤلاء الطلبة وعائلاتهم، وكانت غاية الطلاب من هذا الاختلاط أن يكونوا على تماس أكبر مع الأهالي، بهدف تطوير اللغة العربية لديهم والتعرف على طبيعة المجتمعات العربية".
العلاقة بالأهالي
لم يستفد فقط طلبة المعهد من أهالي شملان لتطوير إمكاناتهم في اللغة العربية، وإنما أهالي البلدة تعلّموا اللغة الإنكليزية منهم من خلال التواصل والعلاقات الاجتماعية المميزة التي نشأت بين عائلات شملان وعائلاتهم، فبحسب المختار حتّي، السكان المحليّون تعلموا من طلبة المعهد اللغة الإنكليزية، وهو واحد من هؤلاء الأهالي.
ويقول: "الأحاديث كانت اجتماعيةً، وليست سياسيةً إطلاقاً. كنا نتحدث عن تاريخ لبنان ونسيجه الاجتماعي وجغرافيته وعادات أهله وتقاليدهم، والغاية من ذلك أن يتدربوا على اللغة العربية واللغة المحكية كذلك".
أصدر ليزلي ماكلوكاين، كتاباً دافع فيه عن المعهد، مع علامات الاستفهام، كنوع من السخرية حول التهم التي وُجّهت إلى المركز
بنى أهالي شملان علاقات مميزةً مع ضيوفهم، فهم قطنوا في غرف ضمن منازل أهل البلدة، أو في بيوت مستقلة مجاورة لمنازلهم، فنشأت علاقات وطيدة بينهم، وعاشوا حياةً اجتماعيةً واحدةً، بحسب مختار البلدة، الذي يضيف: "لدينا صداقات كبيرة مع الطلاب الذين كانوا هنا، وبنينا أفضل العلاقات معهم، وبعد إغلاق المركز وعودتهم إلى بلدانهم، قلّ التواصل معهم وذلك بسبب ظروف الحرب اللبنانية التي استمرت بعد رحيلهم، ونظراً إلى صعوبة الاتصال والتواصل في ذلك الوقت".
ويشير إلى أنه منذ "أكثر من عشر سنوات أقيمت الذكرى الخمسون لإنشاء المركز في شملان، باحتفال أقيم في أحد مطاعم البلدة، حضره عدد كبير من الدبلوماسيين الذين كانوا طلاباً حينها في شملان، بحضور شخصيات سياسية لبنانية، والتقينا بأصدقاء لنا من هؤلاء الطلبة الذين كانوا هنا ومنهم من كان مع أسرته هنا ووُلد له أبناء في شملان، وكنا نسترجع الذكريات معهم بعد كل هذه السنوات".
ويؤكّد حتّي أن الشبهات التي أطلقها السياسيّون والصحافيّون حول طبيعة المركز لم تؤثّر على العلاقات بين الأهالي وبين الطلاب، لأن الأهالي كانوا على صلة وثيقة بهم ملؤها الثقة ويسهرون معاً ويجتمعون بشكل دوري.
بفعل الحرب الأهلية اللبنانية، أُغلق مركز ميكاس، وتحوّل المبنى إلى ثكنة عسكرية، ومع انتهاء الحرب اشترت جمعية دار الأيتام الإسلامية المبنى الذي يقع على مساحة 8،000 متر مربع، وحوّلته إلى دار للأيتام، وهو اليوم يضم عشرات الطلاب والأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة، لتُسدل الستارة على حقبة غنيّة ومميّزة عاشها أهالي شملان مع ذلك المركز الذي دارت حوله الشبهات والتي كانت أقرب إلى الشائعات منها إلى الواقع، بحسب الأهالي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع