ليس من السهل أن يتحدث رجل في مجتمعاتنا العربية عن تعرضه للعنف الأسري، لما قد يواجهه من سخرية تنتقص من "رجولته" التي يعتز بها ويعتبرها مساوية لكرامته ومكانته وصورته الاجتماعية. لذلك يفضل الرجال الصمت عن تعرضهم للتعنيف خاصة إذا كان ذلك التعنيف على أيدي نساء.
لم يصدق كثيرون رواية الممثل الأمريكي جوني ديب عندما ادعى أن زوجته السابقة الممثلة أمبر هيرد كانت هي الطرف القائم بالتعنيف في علاقتهما القصيرة، وحتى بعد صدور حكم من المحكمة يجعل روايته أميل للتصديق، ظل لدى نسويات كثيرات في العالم العربي بالذات شكوك واسعة وميل لتصديق أن الزوجة كانت هي الطرف الذي وقع عليه العنف في العلاقة، رافضات تصديق احتمالات تعرض رجل للعنف على يد امرأة.
لكن هذا الميل لتكذيب رواية ديب، تدحضه دراسات عربية عدة، وإن كانت لم تخضع للتحكيم العلمي ولا يمكن التاكد من دقة منهجيتها.
وزعمت مواقع صحافية تصدر باللغة العربية، أن إحصائية قام بها مكتب رصد الجرائم والمخدرات التابع للأمم المتحدة، وضعت مصر في المرتبة الأولى بين الدول التي يتعرض فيها الرجال للعنف الأسري، لكن هذه الدراسة المشار إليها لا وجود لها على الموقع الرسمي للمنظمة، التي تهتم برصد العنف المنزلي الموجه ضد النساء.
زعمت مواقع صحافية تصدر باللغة العربية، أن إحصائية لمكتب رصد الجرائم والمخدرات التابع للأمم المتحدة، وضعت مصر في المرتبة الأولى بين الدول التي يتعرض فيها الرجال للعنف الأسري، لكن هذه الدراسة لا وجود لها على الموقع الرسمي للمنظمة
العراق أيضاً يشهد معدلات صادمة من العنف الأسري ضد الرجال بحسب تقارير محلية عراقية. ويتصدر إقليم كردستان - وفقاً للتقديرات الرسمية- تلك المعدلات، إذ سجلت المحاكم نحو 14 ألف حالة تعنيف أسري تعرض لها الرجال حتى نهاية عام 2021، فيما رصدت تقارير ارتفاع المؤشرات ارتفاعاً غير مسبوق خلال العام 2022، اعتماداً على نسب الشكوى المقدمة من المواطنين المترددين على المستشفيات إثر تعرضهم للعنف على أيدي الزوجات.
وبالتزامن سجلت معدلات العنف ضد النساء في المغرب أيضاً أرقاماً صادمة، إذ سجلت النيابة العامة 23 ألفاً و879 قضية عام 2021، وفق ما ذكره رئيسها الحسن الداكي، في أيلول/ سبتمبر الماضي الذي قال إن "هذا العدد يظل مقلقاً رغم الجهود المتواصلة".
وتُعرف الأمم المتحدة العنف الأسري بأنه "نمط سلوك في علاقة ما يمارس لإحراز السلطة والسيطرة على شريك حميم أو لمواصلة إخضاعه." وتصف المنظمة الأممية الإساءة أو العنف بأنها "مجموعة أفعال جسدية أو جنسية أو عاطفية أو اقتصادية أو نفسية تؤثر في شخص آخر، أو هي التهديد بارتكاب هذه الأفعال".
وبالرغم من تصدر الزوجات قائمة التعنيف، وخاصة ذوات المستويات التعليمة المرتفعة، وكذلك العاملات، وفق معايير مشتركة أوردتها التقارير والدراسات السابق ذكرها، إلا أن الأمهات كان لهن نصيب أيضاً من تعنيف أولادهن.
فشل حمدي في محاولاته للإصلاح بينه وبين زوجته، فأقدم على تصرف غريب، إذ رفع إلى المحكمة دعوى تطليق للضرر، وهو إجراء تلجأ له النساء في مصر، ومن النادر أن يقدم عليه الرجال
طلاق للضرر
بعد صمت طويل وحزين أعقب خروجه من جلسة استماع بإحدى محاكم الأسرة المصرية، التي تنظر دعوى طلاقه من زوجته، تحدث حمدي السيد* 32 عاماً، عن معاناة استمرت مع زوجته خمس سنوات، تعرض فيها لأشكال من التعنيف -حسب شهادته-.يقول حمدي لرصيف22 إنه حاول إنهاء العلاقة بينه وبين زوجته في هدوء حتى لا تعرف أسرته أسباب رغبته في الانفصال.
تزوج حمدي الذي تعود أصوله إلى إحدى محافظات الصعيد زواجاً تقليدياً من زوجته، (بطريقة اختيار الاسرة للعروس) ودام زواجهما خمس سنوات. وكانت قد سبقتها فترة تعارف بين الزوجين اللذين لم يلتقيا سوى مرتين فقط طوال فترة الخطبة. يقول: "فوجئت عندما رأيت العروس، كانت تبدو أضخم مني في الحجم، لكنها هادئة ولم تثر أية مشكلات قبل الزواج، ثم تزوجنا وكانت الصدمة، إذ لا تستطيع الحديث دون صراخ، في البداية توقف الأمر عند الصراخ والسباب أحياناً، دون سبب يذكر، ثم تحول الوضع إلى التعنيف الجسدي، في البداية كانت تضربني بأدوات المطبخ والأشياء الصغيرة في المنزل، ثم تجاوز الأمر ذلك، وكنت أعتقد وقتها أن السبب هو تغير مزاجها بسبب حملها الأول، وتجنبت الاشتباك معها نهائياً وكنت أحاول تهدئتها بشكل مستمر، لكنها كانت عنيفة للغاية".
يقول الزوج إنه فشل في محاولاته كلها للإصلاح بينه وبين زوجته كما لم توفق الأسرتان في حل المشكلة كونه امتنع عن الإفصاح عن السبب الحقيقي للخلافات بينهما، أقدم حمدي على تصرف غريب، إذ رفع إلى المحكمة دعوى تطليق للضرر، وهو إجراء تلجأ له النساء عادة، وبرر قراره بأنه "الحل الوحيد حتى لا أضطر لدفع مبالغ مالية طائلة مقابل الطلاق"، وأيضاً للحفاظ على سرية الأمر دون علم عائلتي التي قد تعتبر مسألة ضربي عاراً لا يغتفر".
يحكي سعد إنه يتعرض للعنف من زوجته وأمه على حد سواء لكن "الأمر لا يتجاوز حدود الانفعال اللفظي"، لكن هذا "الانفعال" يتسبب بضغط نفسي كبير عليه ويدفعه في بعض الأحيان لترك المنزل
أخ قاس
محمد إمام* يحكي لرصيف22 تجربة مختلفة مع التعنيف الأسري، فهو يتيم الأب منذ عمر الرابعة، تولى أخوه الأكبر شؤون الأسرة، "لكنه كان قاسياً إلى أبعد الحدود".
محمد الذي صار أباً لأربعة أطفال في الوقت الحالي، يقول: "لا أنسى أبداً الرعب الذي عانيته بسبب العنف الذي كان أخي يمارسه ضدنا عندما كنا صغاراً، ولا أعرف ما السبب حتى الآن، أذكر أنني سألته مرة عندما كبرنا، فقال «كنت أحسن تربيتكم»، هو يظن ذلك، لكن الحقيقة أنه تسبب في تشوه كبير لنفسيتنا".
امتنع إمام عن ممارسة العنف ضد أبنائه لكنه لا يزال يعاني من الأثر النفسي الباقي لما تعرض له من عنف، أثر كثيراً على علاقته بأخيه "الأثر النفسي داخلي لا يزال حاضراً بقوة، ولا أبالغ اليوم إذا قلت أنني ما زلت أعاني اضطرابات نفسية. أشعر أحياناً أني خائف أو حزين دون سبب، ولا أملك حين أتذكر تلك المعاناة إلا أن أدخل في اكتئاب قد يستمر لبضعة أيام".
أما سعد، فيقول لرصيف22 إنه يتعرض للعنف من زوجته وأمه على حد سواء لكن الأمر لا يتجاوز حدود الانفعال اللفظي، بالرغم من أن هذا الانفعال يتسبب بضغط نفسي كبير عليه ويدفعه في بعض الأحيان لترك المنزل هرباً من الضغوط المستمرة التي لا يمكن احتمالها إضافة لضغوط العمل والحياة: "أحياناً أواجه هذا الانفعال بالغضب والرد وأحياناً أنسحب. لكن في كل الحالات، الأمر مرهق للأعصاب ولا يمكن تحمله في ظل الظروف القاسية التي نعيشها، لذلك أتمنى أن تتوقف وتيرة التعنيف في المنزل".
وأخيراً يقول أحمد حامد* لرصيف22 إنه يخضع للعلاج النفسي في الوقت الراهن نتيجة تعنيف والده له في الصغر.
يتساوى الأثر النفسي الناجم عن العنف اللفظي المتمثل في الشتائم والسباب والتنمر، مع نظيره في حالة العنف الجسدي. أما النوع الثالث الأشد خطورة فيسمى العنف النفسي، ويتمثل في التهديد والترويع والتخويف
يحكي أحمد: " في الخامسة عشرة من عمري، كنت أشعر أني إنسان ولي كرامة، وذات يوم كنت أمام منزلي مع بعض أصدقائي في المدرسة، ودون أي سبب جاء أبي من خلفي وصفعني على رأسي، صدمت، وقتها وأحسست الدموع تتجمد في عيني، وشعرت بكسر في قلبي حين نظرت إلى أصدقائي الذين يقفون بجواري، كان الأمر غاية في الإهانة ولم أنسه حتى اليوم".
تكرر الموقف بعد ذلك عشرات المرات أمام أفراد عائلة أحمد وزملائه "لدرجة أنني كرهت الدراسة والمنزل وابتعدت عن الجميع وسافرت للعمل خارج محافظتي دون أن أكمل دراستي، ولا أجد اليوم قدرة على العودة أو مصافحة أبي".
الدكتور توفيق ناروز استشاري الطب النفسي وزميل الجمعية الأمريكية للطب النفسي، يعزو أسباب زيادة العنف ضد الرجال إلى جملة عوامل بعضها نفسي والآخر اجتماعي.
معالج نفسي: الغيرة المفرطة، وما يترتب عليها من إساءات موجهة من ناحية الزوجة أحياناً، قد تمثل شكلاً من أشكال العنف ضد الرجل إذا ما تسببت في أثر نفسي سيىء
ويقول ناروز لرصيف22 إن هناك زيادة ملحوظة خلال السنوات الماضية فيما يتعلق بمعدلات العنف في المجتمعات العربية، يطال الرجال جانب منها، سواء بالاعتداء اللفظي أو الجسدي أو الجنسي، كذلك تسجل المجتمعات الغربية، ومنها الولايات المتحدة وبريطانيا "معدلات تاريخية في مستويات العنف ضد الرجال".
وبحسب ناروز، يتساوى الأثر النفسي الناجم عن العنف اللفظي المتمثل في الشتائم والسباب والإهانات اللفظية والتنمر مع نظيره في حالة العنف الجسدي بالاعتداء بالضرب أو الصفع أو غيرها، كما يشير إلى نوع ثالث أشد خطورة يسمى العنف النفسي، يتمثل في التهديد والترويع والتخويف، وعادة ما يستخدم بعض النساء هذا النوع من العنف باستغلال منظومة القوانين في بعض الدول أو الحماية الاجتماعية، أو باستغلال خوف الرجل من التعرض للوصم الاجتماعي.
ويشير ناروز إلى أن الغيرة المفرطة، وما يترتب عليها من إساءات موجهة من ناحية الزوجة أحياناً قد تمثل شكلاً من أشكال العنف ضد الرجل إذا ما تسببت في أثر نفسي سيىء.
وعن أضرار العنف الأسري ضد الرجال سواء من جانب الأهل أو الزوجات، يقول ناروز إنه قد يتسبب في إصابات نفسية خطيرة مثل اضطرابات الشخصية، والقلق، والاكتئاب المرضي، والإدمان.
--------
(*) أسماء مستعارة بناء على طلب المصادر
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...