مع انطلاق تكبيرات الحجاج في الأيام الأولى من شهر ذي الحجة من كل عام، تجلس نادية عبد العظيم، السيدة السبعينية المصرية، وهي تنظر إلى شاشة التلفاز وتردد: "لبيك اللهم لبيك... لبيك لا شريك لك لبيك". تغمر عينيها الدموع اشتياقاً إلى زيارة البيت الحرام، فيربت حفيدها الأكبر محمود على كتفها ويهمس لها قائلاً: "ربنا يكتبلك الحج السنة دي إن شاء الله".
صعوبة سفر نادية عبد العظيم، لا تتوقف عند تدبير نفقات الحج الباهظة، والتي قد تصل إلى 150 ألف جنيه (ما يعادل 5،000 دولار)، وإنما تحذير الطبيب المتابع لحالتها الصحية وتخوفه من إصابتها بالإجهاد الحراري وضربات الشمس وصعوبة أداء المناسك، في الأجواء شديدة الحرارة ووسط تزاحم الملايين من الوافدين إلى المملكة العربية السعودية من مختلف أنحاء العالم، وتدافعهم.
وتشير تقارير صادرة عن منظمات معنية بالشأن البيئي والمناخي، إلى أن مواسم الحج تزداد صعوبةً كل عام، وقد تصل إلى عتبة "الخطر" على الحجّاج، خاصةً عندما تأتي في فصل الصيف، إذ باتت درجات الحرارة تسجّل درجات أعلى من معدلاتها الطبيعية بسبب تغير المناخ، ويعرّض ذلك مستقبل الحج في مكة المكرمة للخطر مع التهديد المتزايد من الإجهاد الحراري الخطير على الحجاج.
مع ارتفاع درجات الحرارة في كل أنحاء العالم، فإن الحفاظ على سلامة الحجاج في السعودية سيصبح أكثر كلفةً وصعوبةً.
وتؤكد الدراسات والآراء على ضرورة اتخاذ إجراءات أقوى من جانب الدول ذات الانبعاثات العالية، في ظل ارتفاع درجات الحرارة والتي عندما تقترن بالرطوبة يمكن أن تكون خطيرةً للغاية، لأن الهواء مليء بالفعل بالرطوبة بحيث لا يسمح للعرق بالتبخر بكفاءة، مما يتسبب في ارتفاع درجة حرارة الحجاج. ويُعدّ كبار السن من بين أكثر الفئات عرضةً للإصابة بضربة الشمس، ولكن عندما تكون الحرارة والرطوبة عاليتين بما فيه الكفاية، حتى الشباب الأصحّاء معرضون لخطر المرض أو حتى الوفاة.
ففي عام 2018 مثلاً، توفي قرابة 20 من الحجاج المصريين نتيجة أمراض تتعلق بالكلى والإجهاد الحراري والعضلي، ورصد تقرير العام الفائت أن الإجهاد الحراري هو أحد الشكاوى الرئيسية بين الحجاج، وأن أمراض الحج الشائعة هي الإصابة بضربة الشمس.
السعودية والتغير المناخي
تحدثت مجلة الإيكونوميست، في تقرير نشرته نهاية العام الفائت، عن أنه ومع ارتفاع درجات الحرارة في كل أنحاء العالم، فإن الحفاظ على سلامة الحجاج في السعودية سيصبح أكثر كلفةً وصعوبةً، عاماً بعد آخر. ويشير التقرير إلى أن منطقة شبه الجزيرة العربية تسخن بوتيرة أسرع بكثير من متوسط ارتفاع الحرارة في بقية أنحاء العالم، وحتى إذا التزمت جميع البلدان بتعهداتها الحالية بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وهو أمر لا ندري مدى إمكانية تحققه، فإن درجات الحرارة ستبقى مزعجةً ومؤذيةً بالنسبة إلى الحجاج في العقود المقبلة.
ولا تقتصر الظواهر المناخية المتطرفة في السعودية على ارتفاع الحرارة، فقد انتشرت منذ أشهر مقاطع فيديو توثق لحظات مرعبةً عند اقتحام السيول والفيضانات شوارع مدينة جدة، وحينها غمرت مياه الأمطار الغزيرة الشوارع والطرق الرئيسية، وجرفت مئات السيارات وأحدث أضراراً بالغةً في البنية التحتية. وأعلن المركز الوطني للأرصاد السعودي، يوم 24 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أن كمية الأمطار التي سقطت على جدة يومها وصلت إلى 179 ميلليمتراً وتجاوزت كمية الأمطار المسجلة في عام 2009.
تحدث تقرير حديث عن أكبر تحديات التغير المناخي في السعودية، وهي استمرار الاعتماد على الوقود الأحفوري وغياب خطة مناسبة لزيادة الطاقة المتجددة، فمعظم الطاقة الكهربائية في السعودية هي من مصادر الوقود الأحفوري وخصوصاً الغاز الطبيعي والنفط الخام، مع نسبة صغيرة لا تتجاوز 1% من الطاقة الشمسية، وهي نسبة آخذة في التزايد تدريجياً.
وذكر التقرير أنه برغم مبادرة السعودية الخضراء التي أطلقها ولي العهد، قبل قرابة عامين، لزرع 10 مليارات شجرة في العقود القادمة في جميع أنحاء المملكة، إلا أنه لم يتم تقديم أي معلومات حول كيفية تنفيذ هذه الخطة، أو التحديات التي يمكن أن تواجهها مثل ظروف المناخ الجاف وارتفاع درجات الحرارة، والضغوط المحتملة التي قد تضعها على المصادر المحلية من الأراضي والمياه، إلى جانب التحدي الذي ظهر مع جائحة كورونا وانخفاض الطلب على النفط مما خلق أزمةً اقتصاديةً وقلّص من ميزانية الحكومة السعودية، الأمر الذي يمكن أن يعطّل أو يبطئ من سياسات المملكة حول المناخ.
صعوبة سفر نادية عبد العظيم، لا تتوقف عند تدبير نفقات الحج الباهظة، وإنما تحذير الطبيب وتخوفه من إصابتها بالإجهاد الحراري وضربات الشمس وصعوبة أداء المناسك، في الأجواء شديدة الحرارة ووسط تزاحم الملايين من الوافدين إلى المملكة العربية السعودية
وفي حديثها إلى رصيف22، تؤكد الدكتورة راجية الجرزاوي، الناشطة المصرية والباحثة في مجال البيئة، أن تأثير التغير المناخي يظهر بوضوح على جميع دول العالم سواء من خلال ارتفاع درجات الحرارة أو الظواهر المناخية المتطرفة مثل السيول والفيضانات التي تتعرض لها الدول، والسعودية ليست بمنأى عن هذه التأثيرات، خاصةً أنها بلاد قاحلة ولا تملك مصادر للمياه لذلك فهي من البلدان الأكثر تضرراً من التغير المناخي".
وتنبّه الجرزاوي إلى أن السعودية هي من أكثر الدول استخداماً للوقود الأحفوري، وتصدر منها انبعاثات كثيرة، وهي أحد المصادر المهمة لبيع البترول إلى جميع دول العالم خاصةً الغنية منها، لذلك تقع عليها مسؤولية كبرى في ضرورة إيجاد حلول وبدائل للاستغناء عن الوقود الأحفوري والتحول إلى مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة.
الإجهاد الحراري
من جانبه، يحذر الدكتور إيهاب قدري، استشاري الأمراض الباطنية في مصر، خلال تصريحات لرصيف22، من ارتفاع درجات الحرارة عن المعدلات الطبيعية بسبب التغيرات المناخية، ما يؤثر بشكل كبير على كبار السن، خاصةً في موسم الحج المتزامن مع فصل الصيف، لأنه يتسبب في زيادة ضربات القلب وفقدانهم السوائل والأملاح التي قد تصيبهم بالجفاف وإجهاد الكلى وتكوّن الحصوات.
وأكد قدري أن الموجات الحارة تساعد على الإصابة بضربات الشمس، التي قد تسبب الدوخة والإغماء نتيجة انخفاض تدفق الدم إلى الدماغ، والانخفاض المفاجئ في ضغط الدم، مشيراً كذلك إلى أن التعرض المستمر لأشعة الشمس قد يصيب الإنسان بسرطان الجلد خاصةً لأصحاب البشرة البيضاء.
ولفت قدري إلى اتجاه بعض الدول المتقدمة نحو منح العاملين إجازةً من العمل في أثناء الأيام الحارة، منعاً لتعرضهم للحرارة المرتفعة، مشيراً إلى أن هذا التعرض يكون أكثر خطورةً لأصحاب الأمراض المزمنة، مثل مرضى الكلى، لأنه يسبب في إحداث خلل في الجهاز المناعي لديهم، وقد يصل الأمر إلى الإصابة بالتسمم والوفاة بشكل مفاجئ.
ونصح قدري الحجاج بضرورة تناول المياه بشكل مستمر، وعلى فترات متقاربة، والعصائر لأنها تحتوي على الأملاح وتعوّض الجسم من السوائل المفقودة، وارتداء أغطية الرأس في أُثناء الطواف واستخدام المظلات واستخدام كريمات الوقاية من الشمس.
ويرى أن اتجاه السعودية إلى استخدام رذاذ المياه لكسر حرارة الجو المرتفعة في أثناء موسم الحج، يساعد على حماية الحجاج من الإصابة بضربات الشمس خاصةً في ظل الأعداد الغفيرة التي تطوف حول الكعبة، إلا أنه يجب أن تأخذ بعض الخطوات الأخرى بشأن التكيف مع التغيرات المناخية ولحماية الحجاج والمعتمرين.
تحذيرات وإجراءات
يتحدث المصري أحمد جاد، إلى رصيف22، عن تجربته في تأدية فريضة الحج عام 2018، ويشير إلى أن ارتفاع درجات الحرارة من أكثر الصعوبات التي واجهت الحجاج، خاصةً حين التعرض المباشر لأشعة الشمس وغياب أماكن الظل التي قد يحتمى بها الحجاج.
وأشار جاد، إلى إصابة الحجاج خاصةً كبار السن منهم بالإجهاد الحراري ووقوع حالات من الإغماء بينهم، وحينها حرصت السلطات السعودية على توفير سيارات الإسعاف وتوزيع زجاجات المياه، إلا أن الطبيعة الجبلية للبلاد تصعّب مهمة توفير بيئة صحية آمنة لجميع الحجاج بمختلف أعمارهم وفق رأيه.
اتجاه السعودية إلى استخدام رذاذ المياه لكسر حرارة الجو المرتفعة في أثناء موسم الحج، يساعد على حماية الحجاج من الإصابة بضربات الشمس خاصةً في ظل الأعداد الغفيرة التي تطوف حول الكعبة، إلا أنه يجب أن تأخذ بعض الخطوات الأخرى بشأن التكيف مع التغيرات المناخية ولحماية الحجاج
وعبر موقعها الإلكتروني، تحذّر وزارة الصحة السعودية، الحجاج من التواجد في الأماكن المزدحمة بشدة، لأنهم يعرّضون أنفسهم للإصابة بالأمراض المعدية، كما قد يسبب ذلك سقوط بعضهم وخاصةً المسنين منهم، وتشير إلى أن الإجهاد بسبب المشي المتواصل يعرّض الحجاج لضربات الشمس، وفي حال وجود أمراض مسبقة لديهم، فقد يؤدي الإجهاد إلى تفاقمها.
وتوصي الوزارة بضرورة الحصول على اللقاحات للوقاية من الأمراض المعدية، والابتعاد عن الأماكن المكشوفة والتي تتركز فيها أشعة الشمس بشكل مباشر، واتخاذ وسائل السلامة والوقاية من ضربات الشمس، مثل استخدام الشمسية والإكثار من شرب السوائل.
وأطلقت السعودية مبادرة تشجير ساحات المسجد الحرام لموسم الحج 2023، الذي يتزامن مع نهاية حزيران/ يونيو وبداية تموز/ يوليو، وتهدف إلى تحسين البيئة العامة في المسجد والساحات التابعة له، باستغلال المساحات الخالية والممرات وتحويل أجزاء منها إلى أحواض زراعية.
إلى جانب ذلك، توفر إدارة الحج مجموعةً من الخدمات والإجراءات لحماية الحجاج من درجات الحرارة المتزايدة، مثل خيام النوم المكيّفة، وإمكانية أداء فروض الحج ضمن مساحات يمكن تخفيض درجات الحرارة فيها، وليس في الهواء الطلق مباشرةً، مثل الممرات والمواقع المزوّدة بمراوح تضخ بخار الماء، إلى جانب زيادة التجهيزات الطبية والكوادر الإسعافية تحسباً لأي حالات طوارئ، وللحفاظ على صحة من يؤدون هذه الفريضة المقدسة، وإمكانية استمرارها بأفضل شكل ممكن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...