"بعد أن كبُر أولادي وصار لدي أحفاد، جاءتني فرصة لأعود إلى مقاعد الدراسة، فدرستُ الثالث الثانوي، ورسبتُ في السنة الأولى، لأنجح في السنة الثانية، وأكملت ودخلت الجامعة وأنا اليوم على أبواب التخرج"؛ هكذا بدأت وردة حجازي (45 عاماً)، روايتها لرصيف22، حول عودتها إلى مقاعد الدراسة بعد قرابة 18 سنةً من الانقطاع. وردة مهجرة من مدينة تل رفعت التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية "قسد" منذ قرابة ست سنوات، كما أنها أم لسبعة أولاد، وهي جدّة أيضاً، قررت أن تتحدى ظروف الحياة ونظرة المجتمع السلبية إلى المرأة الكبيرة التي تريد أن تُكمل تحصيلها العلمي.
دخلت المرأة الأربعينية إلى فرع كلية التربية، قسم علم النفس، في الجامعة الدولية للعلوم والنهضة، وهي جامعة خاصة تتبع للحكومة السورية المؤقتة في مدينة أعزاز شمال حلب، وهي حالياً في السنة الرابعة، سنة التخرج، وتأمل بأن تكمل دراسة الماجستير فالدكتوراه، وبصوت خفيض حنون مرفق بابتسامة، تقول: "أنا بعشق هالفرع، وكلّي أمل بمساعدة الناس لإعادة الأمل الّي فقدوه بسنين الحرب".
تروي وردة بفرح: "أصبحنا برغم صعوبة التعلم محفّزين ومشجعين لكل من حولنا، فهناك نسبة كبيرة من كبار السن ضمن طلاب الجامعة، وخصوصاً النساء"، وتقول: "في مجتمعنا، الفتاة تتزوج في سن مبكرة وتجلس في بيت زوجها ولا تستطيع الدراسة بسبب مشاغل المنزل وتربية الأولاد، كما أن طبيعة المجتمع غير مشجعة على دراسة الفتاة، أما اليوم، فالنظرة بدأت تتغيّر، لذلك نشاهد أعداداً كبيرةً من النساء يكملن تعليمهن".
بلغ عدد الجامعات في الشمال السوري حتى اليوم، 15 جامعةً بين عامة وخاصة، أبرزها جامعة حلب الحرة وجامعة إدلب
تحديات التعلّم
واجهت وردة صعوبات عدة في مشوارها التعليمي بحكم انقطاعها الطويل عن الدراسة، إذ "كان كلُّ شيء صعباً عليّ، وخصوصاً المنهج التعليمي، لكن سرعان ما تأقلمت وتجاوزت هذه الصعوبة، بالإضافة إلى أن المجتمع المحيط بي، لم يتقبل بدايةً فكرة إكمال امرأة كبيرة في السن تعليمها وخصوصاً في الجامعة، وفي كثير من الأحيان تعرضت للاستهزاء والتنمر، لكني لم أكترث، فحولت التنمر إلى حافز لأكون أقوى، وقطعت عليهم وعداً بأن أدرس البكالوريا والجامعة وأكمل الماجستير والدكتوراه، لأنني كامرأة استحق أن أكون في أعلى المستويات".
لا يخفي أساتذة الجامعات في الشمال السوري وإداريوها، إعجابهم المتكرر بوجود طلاب يفوقون زملاءهم عمراً، في أثناء جولاتهم على القاعات التعليمية، ولا يوفرون مناسبةً إلا ويثنون على جهودهم وإصرارهم على التعلّم برغم تقدمهم في العمر، ووجودهم في القاعات التعليمية بات مألوفاً، ويحفّز بقية الطلاب على إكمال تعليمهم بجد ومثابرة.
وبعد أن شهدت مناطق شمال غرب سوريا هدوءاً نسبياً، بعد مضي قرابة 12 سنةً على الحرب، بات تواجد من يفوق عمرهم الـ40 و50 عاماً، جنباً إلى جنب مع الطلاب على مقاعد الدراسة، في إقبال ملحوظ على التعليم، خصوصاً في المرحلة الجامعية، بالرغم من قساوة ظروف الحرب، وتردّي الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع رسوم الجامعات، وذلك أملاً بتطوير أنفسهم وتحسين واقعهم.
البحث عن الذات
خالد ناصيف (46 عاماً)، شاب من قرية منغ شمال حلب، قرر بعد انقطاع دام 20 سنةً عن الدراسة، أن يعود ليكمل أو يحاول أن يعوّض ما فاته. منعته الظروف وهو في الثالث الثانوي من أن يكمل. توقف عن التعليم وبدلاً من أن يدخل إلى الجامعة بدأ بالبحث عن العمل وانشغل بالحياة وأتت الحرب وظلت الجامعة بالنسبة له حلماً يبتعد شيئاً فشيئاً.
يقول لرصيف22: "شاهدت العام الماضي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إعلاناً من جامعة العلوم والنهضة عن استحداث معهد للعلوم الجنائية، وهذا الاختصاص أنا أحبه، وعملت فيه لسنوات، ترددت في البداية بسبب انقطاعي الطويل عن الدراسة، ولكنني عزمت على تحقيق هدفي في متابعة العلم، وأنا اليوم طالب في المعهد، أدرس في المجال الذي أحبه وأهتم به".
كان من الصعب على خالد التنسيق بين العمل والدراسة، لكنّ مع الوقت اعتاد الأمر ولو بتعب أكبر. كذلك كان الأمر في ما خص إقامته، فهي تبعد عن الجامعة مسافة 50 كلم، يقطعها في كل يوم دراسة. مع الوقت صار الوقت على الطريق نحو الجامعة فرصةً ليعوّض ما فاته من درس خلال دوام عمله.
في مجتمعنا، الفتاة تتزوج في سن مبكرة وتجلس في بيت زوجها ولا تستطيع الدراسة بسبب مشاغل المنزل وتربية الأولاد، كما أن طبيعة المجتمع غير مشجعة على دراسة الفتاة، أما اليوم، فالنظرة بدأت تتغيّر
وبلغ عدد الجامعات في الشمال السوري حتى اليوم، 15 جامعةً بين عامة وخاصة، أبرزها جامعة حلب الحرة وجامعة إدلب، وتضمّان آلاف الطلاب، الذين يسعون إلى إكمال تحصيلهم العلمي برغم العقبات التي تواجههم، وأبرزها الاعتراف الدولي بالشهادات الصادرة عن تلك الجامعات، وصعوبة تسديد الأقساط الجامعية ومصاريف الدراسة من تنقلات وسكن وتدريبات عملية، نتيجة تردّي الأوضاع الاقتصادية في المنطقة.
حفاوة وتقدير
تروي وردة عن معاملة إدارة الجامعة لها، وتقول: "لا شك في أن الجامعة من إدارة وكوادر تعاملنا معاملةً خاصةً فيها احترام وتقدير، كما أنهم دفعوا لي نصف القسط الجامعي في السنة الماضية، وفي هذه السنة دفعت فقط 50 دولاراً كمصاريف إدارية للجامعة، ووعدوني إذا جاءت منحة فسوف يتم إعفائي أيضاً من المصاريف الإدارية".
من جهته، يصف خالد تعامل إدارة جامعته بـ"الحضاري، والمشجع على إكمال التعليم"، مشيراً إلى أن "استحداث معهد للعلوم الجنائية خطوة مهمة، لأهمية هذا العلم من أجل مواكبة ومكافحة الجريمة والمجرمين والكشف العلمي والعملي عنهم".
يعتقد مدير العلاقات العامة في جامعة حلب الحرة، حسن أبو قوصرة، أن "أجمل ما يُميّز جامعات الشمال السوري هم كبار السن، ووجودهم إلى جانب بقية الطلاب يعطي جماليةً للجامعة"، مضيفاً أنه "ليس هناك دافع لهم للإقبال على متابعة مشوارهم الدراسي إلا حبّ العلم الذي حرمتهم منه ظروف الحرب على مدار أكثر من عشر سنوات".
ويقول في حديثه إلى رصيف22: "بقدر ما يكون لديك أناس جامعيون في المجتمع، بقدر ما يكون هناك مجتمع متطور ومنتج، بتفكير مختلف عن الانسان غير المتعلم أو الذي تحصيله العلمي فقط للثالث الثانوي، لذا نلاحظ في أغلب جامعات العالم، أنَ هناك طلاباً من مختلف الأعمار، وربما يكون الفارق بينهم جيلين أو ثلاثةً أحياناً، وتراهم جالسين على المقعد نفسه".
يعمل عدد من الجمعيات والمنظمات الإنسانية على مساعدة الطالب الجامعي، من خلال تقديم منح لهم تساعدهم على متابعة تعليمهم
ويضيف: "الجامعة هي مجتمع مصغَّر، وبطبيعة المجتمع السوري، من عاداته وتقاليده احترام كبار السن، فسواء إدارة الجامعة أو الدكتور المحاضر أو الطلاب أنفسهم، يختلف تعاملهم مع الطلاب إذا كانوا كباراً في السن، فكبير السن له قيمته واحترامه، فهو محط أنظار الجميع، ووجوده يعطي دافعاً لبقية الطلاب للجدّ في دراستهم"، وهذا ما يؤكده إبراهيم حومد، مدير العلاقات العامة في الجامعة الدولية للعلوم والنهضة.
ويتحدث أبو قوصرة عن ضرورة معاملة الطلاب، خاصةً الذين انقطعوا لسنوات عن التعليم منهم ويعودون اليوم ليكملوا ما فاتهم، معاملةً خاصةً من قبل إدارة الجامعات، من ناحية الأقساط وتقديم كافة التسهيلات، لمكافأتهم وتشجيعهم على هذه الخطوة بعد انقطاعهم فترةً طويلةً عن التعليم، خاصةً أن أغلبهم معيلون، وأرباب أسر، وبعضهم لديه أحفاد.
منح دراسية ضئيلة
لا تبدو الأمور ميسّرةً لدى طلاب الجامعات في شمال غرب سوريا، خاصةً لجهة التكاليف من أقساط وأجور سكن وتنقلات، لذلك يعمل عدد من الجمعيات والمنظمات الإنسانية والفرق التطوعية على مساعدة الطالب الجامعي، من خلال تقديم منح لهم تساعدهم على متابعة تعليمهم، ولعل أبرز مقدمي المنح؛ مؤسسة مداد، فريق ملهم التطوعي، منظمة شفق، منظمة الإغاثة التركية، منظمة الرواد، مؤسسة مداد التعليمية، منظمة بنفسج، هيئة الزكاة، منظمة الوابل الصيب، وتبرعات من بعض التجار وميسوري الحال.
وتتصدر مؤسسة مداد التعليمية مقدّمي المنح، فهي تقدّم منحاً وتدريبات تخصصيةً لقرابة 10 في المئة من طلاب جامعة حلب الحرة بمعدل 3 آلاف طالب، وهي تقدّم بالإضافة إلى القسط الدراسي، مبلغ 400 ليرة تركية كمصروف شهري للطالب، وتشترط الحاجة المادية بالإضافة إلى التميّز في المعدل الدراسي.
كذلك، تقدم منظمة بنفسج القسط الدراسي و100 دولار كمصروف شهري للطالب بالإضافة إلى تدريب طلاب الكليات العملية في مراكزها المتواجدة في شمال سوريا، كما تمت كفالة قرابة 3،000 طالب في العام الماضي في منطقة ادلب، من قبل هيئة الزكاة التابعة لحكومة الإنقاذ ومنظمة الوابل الصيب وبعض التجار، ولكن هذه المنح لا تكفي إلا لسد جزء بسيط من الاحتياجات، نتيجة تردّي الأوضاع الاقتصادية وانتشار البطالة وقلة فرص العمل، بحسب عدد من الطلاب المستفيدين من هذه المنح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...