هذا هو الجزء الأول من التقرير، سينشر الجزء الثاني بعنوان "الكوميديانة المصرية... خفة وحلاوة"
منذ ظهورها أوائل القرن العشرين مرت الكوميديا في مصر بتحولات عديدة بين الصعود والهبوط، والتفوق والإخفاق. وقد ساهم بعض الفنانين في تقدمها ونضجها وهيمنتها على الساحة الفنية في فترات معينة، بينما تراجعت في فترات أخرى وابتعد عنها الجمهور، إما بسبب عدم التعبير الصادق عن الشارع، أو لجوئها إلى الإسفاف والابتذال.
على الرغم من الدور الذي قامت به في الماضي من إيقاظ الوعي وتناول للقضايا الاجتماعية؛ أصبحت الآن تقدم الضحك فحسب ولو بالابتذال والتسطيح. فلا نجد العمل سواء أكان مسرحياً أم سينمائياً يحمل أي رسالة أو بعد اجتماعي أو سياسي، وتعتبر فرقة "مسرح مصر" خير دليل على ذلك.
ترجع بداية ظهور المسرح الكوميدي إلى فرقة "الكوميدي فرانسيز" التي تكونت إبان الحملة الفرنسية (1798- 1801)، وقد شيّد الخديوي إسماعيل المسرح الكوميدي الفرنسي ودار الأوبرا وأعدهما للمشاركة في احتفالات افتتاح قناة السويس نوفمبر/ تشرين الثاني 1869، وفي العام التالي قرر يعقوب صنّوع تأسيس مسرح مصري يقدم مسرحيات كوميدية باللغة العربية.
الخديوي ينفي الكوميدي الأول
شهدت الكوميديا تنوعاً كبيراً على أيدي رموز البدايات أمثال أمين وسليم عطا الله، ونجيب الريحاني، وعلي الكسار، وفوزي الجزايرلي في أوائل القرن العشرين، حيث انتشرت في القاهرة والإسكندرية فرقهم المسرحية التي مزجت في عروضها بين القضايا الاجتماعية والبُعد السياسي، وهو ما تسبب في إيقاف بعض المسرحيات للريحاني.
يذكر الناقد المسرحي د. عمرو دوارة في كتابه "فرقة المسرح الكوميدي"، أن تجربة يعقوب صنوع التي وئدت مبكراً بنفيه إلى باريس عام 1872 لتوجيهه انتقادات لاذعة إلى الخديوي، لم تذهب هباءً، بل كان لها الفضل الأول في غرس أصول الفن المسرحي العربي في التربة المصرية، وتنبيه الخديوي نفسه إلى الفراغ الذي تركه صنوع.
شهدت الكوميديا نهضة في أوائل القرن العشرين، الفرق المسرحية مزجت في عروضها بين الاجتماعي والسياسي، وهو ما تسبب في إيقاف مسرحيات للريحاني، ونفي الخديوي ليعقوب صنّوع إلى باريس
ما دفع الخديوي إلى محاولة استكمال مظاهر النهضة التي ينشدها وتعويض غياب الفن المسرحي بالموافقة على دعم واستقبال فرقة سليم النقاش لتقدم عروضها في مصر. وهي أول فرقة مسرحية عربية تزور مصر، وذلك عام 1876.
شخصيات محفورة في نفوس محبي السينما
في مرحلة لاحقة ظهر إسماعيل ياسين، والنابلسي، وبشارة واكيم، وإلياس المؤدب، وحسن أتلة، وعبد المنعم إبراهيم. حيث اعتمدت الكوميديا معهم على حركات الجسد وتعبيرات الوجه، وقد ساعد ظهور السينما في تحقيق المزيد من الانتشار لنجوم الكوميديا، وعبّر ظهور فؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي بتفرد كل منهما عن مرحلة جديدة لفن الكوميديا.
بعد تراجع الفرق المسرحية، سعت الدولة إلى رعاية المسرح الكوميدي من خلال تأسيس "فرقة المسرح الكوميدي" 1962، وقدمت الفرقة العديد من النجوم، وعشرات العروض المسرحية الجيدة التي حققت نجاحاً كبيراً. ويذكر د. دوارة أن هذه المسرحيات "شهدت جماهيرية ناجحة، وأكدت موهبة ونجومية جيل جديد من الفنانين، منهم: عبدالمنعم مدبولي، فؤاد المهندس، محمد عوض، أمين الهنيدي، حسن مصطفى، وأبو بكر عزت"
في مرحلة لاحقة ظهر إسماعيل ياسين، والنابلسي، وبشارة واكيم، حيث اعتمدت الكوميديا على حركات الوجه والجسد
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي برز جيل جديد من الكوميديانات مثل عادل إمام، وسمير غانم، ووحيد سيف، وسعيد صالح، ومحمد صبحي، وسيد زيّان، ويونس شلبي. وقد تنوع إنتاجهم الفني بين المسرح والسينما والتلفزيون، فعبروا عن روح العصر بتقلباته وتموجاته المختلفة.
أثرت البيئة السياسية بشكل إيجابي في تطور الإنتاج الفني الكوميدي، كما حدث في مراحل زمنية وسياسية مختلفة بدءاً من يعقوب صنوع ونجيب الريحاني، حتى أعمال عادل إمام في المسرح والسينما التي تطرقت إلى كثير من القضايا السياسية والاجتماعية
واستطاع محمد صبحي أن يقدم مع الكاتب لينين الرملي عدداً من أنجح المسرحيات في الثمانينيات، قامت على النقد بأسلوب مميز يعتمد على المزج بين الكوميديا والقضايا التي يعالجها، وتجلى ذلك في مسرحيات "الهمجي"، و"تخاريف"، و"وجهة نظر"، وغيرها.
دور حيوي في إفساح المجال للكوميديا
يوضح أستاذ الدراسات العربية بجامعة يورك بكندا الدكتور وليد الخشاب لرصيف22 قائلًا: "كان للبيئة السياسية بلا شك دور حيوي في إفساح المجال للكوميديا عالية الجودة، أو -على العكس- في تراجعها. كلما زادت المحظورات الرقابية كلما ضاقت مساحة التجديد، بل والمغامرة"
أعلن ظهور فؤاد المهندس ومدبولي عن دخول مرحلة جديدة من فن الكوميديا، وفي السبعينيات والثمانينيات برز جيل عادل إمام، وسمير غانم، ووحيد سيف، وسعيد صالح، ومحمد صبحي، وسيد زيّان، ويونس شلبي، ممن عبروا عن المرحلة وتقلباتها
في الستينيات، كانت الرقابة نشيطة، لكن مساحات الحرية كانت كافية لإنتاج كوميديا ناقدة لأوضاع ما قبل الاستقلال أو محتفية بالتغيرات الاجتماعية التي صاحبت يوليو 1952، بحيث ازدهرت الكوميديا رغم ابتعادها عن السياسة إلا بمقدار ما تنتقد عصر ما قبل الثورة. ويضيف الخشاب: "بعد ثورة يناير 2011، ظهر إنتاج كوميدي له جمهوره من خلال "مسرح مصر"، وإن فشل في أن يحظى بالإجماع، لأنه يحاول تكرار تجربة فرقة "ساعة لقلبك" من حيث البعد عن السياسة، والاستغراق في تأمل حياة الطبقة الوسطى".
المضحكون الجدد
يوضح الناقد الفني رامي المتولي لرصيف22 أن "البيئة السياسية في الغالب تكون حافزاً لزيادة الإنتاج، لأنها تفرض حراكاً يدفع إلى اشتباك الفنانين معه، لكن بشكل عام البيئة السياسية في المسرح والسينما لا تؤثر بشكل مباشر على الأعمال الفنية بقدر ما تؤثر التغيرات الاقتصادية".
المسرح لم يتراجع، حتى الآن هناك العديد من النصوص الهامة التي تُعرض بشكل دوري لكن بصورة أقل إذا ما قورنت بفترات سابقة كان المسرح فيها في أوج قوته في حقب الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، هناك نصوص جادة وكوميدية لكن بعدد أقل.
في الستينات، كانت الرقابة نشيطة، لكن مساحات الحرية كانت كافية لإنتاج كوميديا ناقدة لأوضاع ما قبل الاستقلال أو محتفية بالتغيرات الاجتماعية التي صاحبت "يوليو 1952"
جيل الكوميديانات المتعارف على تسميته بالمضحكين الجدد الذين برزوا من نهاية تسعينيات القرن الماضي بنجاح مدوٍ وعلى رأسهم هنيدي وعلاء ولي الدين ومحمد سعد حققوا نجاحاً كبيراً، لكن بصورة مؤقتة، لم يكن ليعيش أو يترك أثراً مقارنة بالأجيال التي سبقتهم، وحققت استمرارية أكبر في الثبات على النجاح.
من أبرز هؤلاء عادل إمام، وفؤاد المهندس، ومن قبلهما نجيب الريحاني. هؤلاء حققوا نجاحات ممتدة، بينما اعتمد جيل المضحكين الجدد على السينما ذات الصبغة التجارية وكون أفلامهم مستهلكة إلا فيما ندر. وهو السبب الرئيسي في عدم استمرارية نجاحاتهم، بالإضافة إلى جمودهم وعدم تجددهم، الأمر الذي سمح بصعود كوميديانات مثل شيكو وماجد وأحمد مكي واحتلالهم مكانة جيدة في وقت قصير.
يختار د. وليد الخشاب،أحمد حلمي وأحمد مكي كعلمين من نجوم الكوميديا الذين تأكدت نجوميتهما مع بداية القرن الحادي والعشرين ويعتبرهما في المكانة نفسها التي احتلها المهندس ومدبولي وإمام وصالح كلُ في زمن نجوميته. فمثل المهندس وإمام، التزم حلمي ومكي الحرفية العالية والإعداد الدقيق لأدوارهما، وطوّرا الشخصيات التي يقدمانها بحيث تأتي بجديد.
إذا اتخذنا نقطة بدايتنا في التأريخ للكوميديا المصرية من لحظة تصاعد الإنتاج الثقافي المركزي على يد دولة التحرر الوطني ابتداء من يوليو 1952، لصحَ أن نعتبر فؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي وزملائهما جيل الرواد "الوطنيين" من الكوميديانات.
وأضاف الخشاب: "هؤلاء هم نجوم المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون في مجال الكوميديا بعد الاستقلال. يليهم جيل السبعينيات وما بعدها ونجماه الكبيران عادل إمام وسعيد صالح بطلا المسرحية الفارقة "مدرسة المشاغبين". وقد أوضحت تصوري التاريخي هذا في كتابي الصادر منذ أسابيع: "مهندس البهجة" عن فن فؤاد المهندس".
بعد ذلك الجيل الذي تصدر ساحة الكوميديا حتى التسعينيات، ظهر جيل تفاوتت بصمته في تاريخ الكوميديا منذ نهاية التسعينيات، أحمد آدم ومحمد هنيدي وعلاء ولي الدين.
حرمنا الموت المبكر من موهبة علاء ولي الدين الذي كان في سبيله لأن يصبح أسطورة فن الكوميديا، لاسيما بعد فيلمه الفارق "الناظر صلاح الدين".
"مدرسة المشاغبين" وتغيّر ذائقة المتفرج العربي
في لقائه مع رصيف22 أوضح الكاتب المسرحي والسيناريست ممدوح فهمي مؤلف أفلام "العميل رقم 13"، و"حصل يا سعادة البيه"، وغيرهما من أعمال للمسرح والسينما والتلفزيون أن "الحديث عن مسرحية (مدرسة المشاغبين) لابد وأن يرادفه الحديث عن تغيّر ذائقة المشاهد المصري والعربي، مما يدعونا أن نتساءل هل كانت بداية لمسرح كوميدي جديد، أم كانت امتداداً لمحاولات سابقة لم تحظ بالقدر نفسه من الشهرة والحفاوة".
اعتمد جيل المضحكين الجدد مثل هنيدي ومحمد سعد على السينما ذات الصبغة التجارية وكون أفلامهم مستهلكة. وهو السبب الرئيسي في عدم استمرارية نجاحهم، بالإضافة إلى جمودهم وعدم تجددهم
ويضيف: "حتى نكون منصفين لابد أن نذكر ما سبق "مدرسة المشاغبين" من أعمال قدمها أمين الهنيدي، ومحمد عوض، وفؤاد المهندس، وعبد المنعم مدبولي، وغيرهم بعد 1967، فقد حملت أعمالهم لمحات وإشارات اعتمدت عليها "مدرسة المشاغبين" مثل الخروج على النص، وإبداع الممثل بإضافة ما يمكنه من مفردات خاصة لإضحاك المتفرج. وقد أتاح كل منهم الفرصة لزميله بل وساعده ليخرج العمل بهذا الأداء الجماعي".
أين النصوص الكوميدية الفارقة؟
يقول الخشاب: "نلاحظ تراجع المسرح والتلفزيون منذ مطلع القرن الحالي عن إنتاج نصوص فارقة، لقد اكتفيا بالتجديد في إطار محدد سلفاً، وهو نموذج حلقات "السيت كوم". فتتلخص بنية الأحداث في المواقف أو الحلقات المنفصلة المتصلة، التي تجمع نفس مجموعة الشخصيات في نفس المكان".
يتسيد هذا البناء الدرامي إنتاج الكوميديا في التلفزيون وفي مسرحيات شبيهة على خشبة المسرح في العقدين الأخيرين -الحديث للدكتور الخشاب-ويبدو أن نموذج كتاب الكوميديا الذين يكتبون نصوصاً عالية القيمة من ناحية اللغة وإحكام البناء، مثل بهجت قمر في الستينات والسبعينات، أو لينين الرملي في العقود التالية، ينتمي إلى عهد قد ولّى ومضى.
يبدو أن نموذج كتاب الكوميديا الذين يكتبون نصوصاً عالية القيمة من ناحية اللغة وإحكام البناء، مثل بهجت قمر أو لينين الرملي ينتمي إلى عهد قد ولّى ومضى
ولعل طغيان النموذج التلفزيوني الذي يعتمد على الكتابة بمواصفات "صناعية" أي إنتاج مألوف نسبياً ومنتظم وفقاً لجدول زمني محدد هو الذي جعل من الصعب وجود كتابة تحتاج وقتاً وتفرغاً وتجديداً تفرز نصوصاً صارت من كلاسيكيات المسرح الكوميدي، مثل نصوص قمر والرملي.
هل تراجعت النصوص المسرحية الكوميدية وبالتالي تراجع ظهور كوميديانات آخرين؟
يجيب ممدوح فهمي قائلًا "للأسف لا، فهناك كم كبير من النصوص المحلية الجيدة لا يُلتفت إليها من قبل المنفذين مع ظهور الورش المسرحية، وظهور الإعداد المسرحي لروايات محلية أو عالمية، وهذا بدوره يؤدي إلى عزوف الكاتب المسرحي عامة والكوميدي خاصة، فضلاً عن عزوف الأجيال الجديدة أيضاً".
أزمة الكتابة الكوميدية
تقول التشكيلية وسكرتير تحرير مجلة مصر المحروسة د. إنجي عبد المنعم لرصيف22: "هناك أزمة كبيرة في الكتابة الكوميدية بسبب ندرة كتاب الكوميديا، إلا أن هناك محاولات قوية من البعض، فالكتابة الكوميدية تخاطب العقل، فمن الممكن أن يملك الممثل القدرة على إبكاء الجمهور، ولكن من الصعب انتزاع الضحكة منه".
والأعمق من هذا أن يصنع ضحكة هادفة، الكتابة الكوميدية تتطلب مهارة وحنكة، وأن يكون لدى الكاتب وعي بالنص المكتوب. فالفن له دور كبير في تغيير الشعوب. من المهم إيجاد حل لأزمة الثقافة والفكر عند الكوميديانات، وذلك بالاطلاع ووضع رؤى وأفكار مختلفة لخلق نصوص قوية مواكبة لمشكلات العصر.
لكن المسرح الكوميدي، لم يعد مثل ما سبق، لاعتماده حالياً على الإيفيهات أكثر من اعتماده على كوميديا الموقف. المسرح الكوميدي يظهر الآن بصورة مختلفة كما في "مسرح مصر" فهو كوميدي هدفه الضحك من أجل الضحك بلا رسالة، ويختلف هذا عن مسرح محمد صبحي مثلاً وما قدمه من أهداف ممزوجة بالكوميديا والضحك، كما يختلف عما قدمه سمير غانم الذي كان أول ممثل كوميدي يوظف الإكسسوارات لخلق حالة من الضحك لدى المتفرج.
أما سعيد صالح ، تقول د. إنجي، فهو مختلف بما قدمه من تناول جاد لقضايا مهمة في إطار كوميدي، فهو أبرز صانعي الكوميديا وملك الارتجال على خشبة المسرح. لنرى أن المسرح الكوميدي قدم أشكالا كثيرة من الضحك في إطارات مختلفة ورسائل متعددة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...