ارتفعت الطائرة أخيراً بعد وقوف عبثي مملّ في مطار القاهرة. وأعلن الطيّار اتجاهه لبيروت، فبدأ الركّاب باصطناع لكنة لبنانية في كلامهم مازحين، أو بالأحري معبّرين عن إعجاب –يشوبه الحب- بتلك اللكنة المحببة لدي المصريين، في الأغلب بسبب الغناء والسينما.
لقد انتظرت طويلاً من أجل القيام بتلك الزيارة، فقد رُبينا على لبنان المشهورة بدور النشر التي طالما نشرت الكُتب الجدلية الممنوعة في مصر؛ لبنان السينما والإعلام، وأيضاً لبنان السهر والفتّوش. تناولت جواز سفري من ضابط الجوازات العابس، وعَبرتُ الي مكاتب تأجير السيارات. فقد حذّرني الأصدقاء من مغالاة سائقي التاكسي في الأجرة –ولم أكُن أُطيق ثرثرتهم على أيةِ حال-، "فلتسرعْ أيها البطيء، بدّي فِلْ من هون".
الأزمة الاقتصادية في لبنان
غمغمتُ محدثاً نفسي وأنا اشاهد الموظف يتصبب عرقاً بسبب ضعف المكيّف المركزي. ثم أخذت مفتاح السيّارة وانطلقت صوب منطقة الأشرفية لأفاجَأ بالازدحام الذي يدعونه هنا "عجقة سير"، وهو تكدُّس صغير للسيارات لا أجرؤ على مقارنته بزحام القاهرة. فالفرق بين "العجقة" والزحمة هو أن العجقة مؤقتة ثم "يمشي الحال"، أمّا الزحام القاهري فهو أبدي، لا ينتهي. أفقد أعصابي كثيراً في الزحام، مما دعاني للمزاح مع السائق المقابل لي: "دخيلك يا شوفير فوت هيك" بلهجة ركيكة مضحكة، ففهم أنني سائح وتبادلنا الابتسام –وأظنهُ سبّني في سِرّه-. لا يهم، فقد قاربت على الوصول عل أيّةِ حال.
عرجتُ على أحد محال الصرافة لتغيير العملة وقد كان الدولار يساوي29 ألف ليرة وقتها. كان المكتب مغلقاً واقترح عليّ المارَّة تغيير الدولار عند بقالة قريبة، فالكل هنا يتاجر في الدولار. غادرت البقالة وفي جيبي ثلاثة ملايين ليرة. ستفرح أمي كثيراً لأنني صرت مليونيراً، ولن أخبرها شيئاً عن التضخّم أو الكساد.
انطلقت صوب "الأشرفية" لأفاجأ بالازدحام الذي يدعونه هنا "عجقة سير" وهو تكدُّس صغير للسيارات لا أجرؤ على مقارنته بزحام القاهرة. فالفرق بين العجقة والزحمة هو أن العجقة مؤقتة ثم "يمشي الحال". أمّا الزحام القاهري فهو أبدي، لا ينتهي
يمرُّ لبنان بأزمة اقتصادية ونقدية هي الأسوأ في تاريخه الحديث. وقد كان لانهيار الليرة الأثر الكبير في رسم الحياة الجديدة لغالبية اللبنانيين، الذين اعتمدوا على الجهود الذاتية لتوفير الكهرباء بعد أن فقدوا الثقة في السياسيين أصحاب السيجار وأصحاب العمائم على حدٍّ سواء.
كلما نظرت الي أعلى وجدت شبكة من الكابلات تكاد تحجب رؤية الشمس وتمتد من مولدات الكهرباء الخاصة لتُغذِّي شقق الحيّ. بالكاد وجدت كهرباء في شقتي لأشحن الهاتف وأشغل المكيّف قليلاً. ثم تناسيت كل ذلك بعد مقابلة حميمة مع الجارة التي تقطن الطابق الأرضي وقد كانت سيدة لطيفة ومَرِحة بالغت في الترحيب والمزاح. لاحظت أن هذه عادة لدي اللبنانيين إذ كانوا مُرحّبين وظرفاء في الحيّ السياحي "الزيتونة" حيث تنزهت على الشاطئ، وأحرقتني شمس الصيف ثم تصببت عرقاً من رطوبة حوض المتوسط؛ هي تماماً نفس الأجواء التي اعتدت عليها في الإسكندرية.
زيارة منطقة البترون
في اليوم التالي ذهبت لزيارة "البَترون"، وهي ميناء وبلدة صغيرة، لكن أهلها ما زالوا يعاملونها معاملة "الضَيْعة". فالبيوت القديمة متقاربة كثيراً بشكل يفرض على سكانها تشكيل علاقات قوية بعضهم مع بعض. بمجرد وصولي اشتهيت "ترويقة" وهي الفطور اللبناني المكوّن من بضع مناقيش بكثير من الزعتر وزيت الزيتون، وأخرى هي "لحم وعجين".
كانت البترون أصغر من استخدام السيارات فيها ، فالسكان يتنقلون بالدراجات والفيسبا والتوكتوك. فضّلتُ التمشي لأرى شوارع السوق القديم، وهي تماماً كما صوّرها چورچ خبّاز في فيلمه "غدي"، فشعرت كأنني سافرت عبر الزمن في مشهد سريالي غريب. الشوارع والمباني فينيقية، وفي الخلفية ألحان ناصيف زيتون وجو أشقر من سماعات الدكاكين والمطاعم، ترقص علىها سيدات بفساتين "جوتشي" في كوكتيل لبناني أصيل أخذت وقتاً لاستيعابه.
عرجتُ على أحد محال الصرافة وقد كان الدولار يساوي 29 ألف ليرة وقتها (اليوم يساوي 60 ألف). غادرت وفي جيبي ثلاثة ملايين ليرة، ستفرح أمي كثيراً لأنني صرت مليونيراً!
قاطعني النادل: "كل شي ع زوقك إستاذ؟"، ليطمئن على جودة اللبنة البلدية. فقد توقفت لأخذِ منقوشة سريعة من السوق. ثم أكملت وسط البيوت الكلاسيكية التي توسطها تمثال القديس "مار إلياس"، فأشعلت شمعة طالباً منه عودة الكهرباء تلك الليلة لأشحن هاتفي، ومضيت. أوقعني محشي ورق العنب البارد في غرامه، فثنائي الليمون الحامض مع دبس الرمّان هو وصفة سحرية هبطت علينا من السماء، ولن أسمح هنا بأي نقد، فعدم حبُّ ورق العنب البارد هو محضْ كفر قد يؤثر على العلاقات المصرية اللبنانية بِرمّتها! وبالطبع لن أخبر العالم عن دبس الرمّان ، حتى لا يساء استخدامه كما حدث مع الفلافل.
تشتهر البترون أيضاً بالسهر في حانات السوق القديم -نعم هو نفس السوق-، ويغلب على أغانيها الذوق التسعينياتي من أغاني عمرو دياب، وراغب علامة، وفارس كرم، واّخرين. تلك كانت أماكن وجود أعضاء نادي الثلاثين أمثالي حيث تتجاذب السيدات أطراف الحديث ويتم تناقل ترشيحات أطباء التجميل وتجار البوتوكس وتقنيات النفخ والشدّ والرفع والتكبير والترميم وفنون الخراطة الأخرى تلك التي يتقنها أطباء بيروت.
أمّا بارات الشباب فقد غلب على موسيقاها أغاني البوب الغربي، بينما فضّل روّادها الرقص في الشارع، اتّسمت بالضجة، إضافة الي كميات لانهائية من البيرة المحليّة "ألماظة". سأطلق عليهم "شعب البترون" فهم ليسوا كسائر اللبنانيين قطعاً. أحبّوا الحياة وأنكروا الواقع، لن أنسى أنهم أوقعوني في إدمان المطبخ الشامي، وقد قررت أن أضُمُ مخترع دبس الرِمّان لقائمة نوبل –جنباً إلى جنب مخترع القهوة التركية-. تَقول الحِكمة : "ابقَ حيث الغناء فالأشرار لا يغنّون"، وهي تنطبق بكل تأكيد على لبنان، ففي كل حارة وجدت الغناء، إذاً فهم ليسوا أشراراً، وبالطبع لم يستحقوا قسوة هذا العالم الصغير القاتل والذي كأنه أقسم بأن ينام الطيبون فقط من دون عشاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...