شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أنظر إلى جبل سراييفو متذكراً لبنان

أنظر إلى جبل سراييفو متذكراً لبنان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الأربعاء 11 مايو 202202:16 م

مثلما يؤمن الشاعر والكاتب العُماني سيف الرحبي بأن "قحالة البشر من العاطفة والحب، أكثر فظاعة وقسوة من قحالة الأرض العطشى"، فإنه يُثبت في أحدث إصداراته أن ثراء الأرض وخصوبة جغرافيتها وتاريخها ودفء محتواها الجمالي والحضاري، أكثر عذوبة وإنسانية وبكارة وصدقاً من الإبداعات المصنوعة التي ينسجها البشر: "الإقامة والسكنى في قمم الجبال، وتحت ظلال أشجارها، وهوائها النقي الصافي، تعطيك تلك الحيوية والنشوة الجمالية التي تهبك إياها معاشرة قمم الشعر والأدب والفكر".

في كتابه الجديد "رحلة إلى جبال سراييفو" (دار العين، القاهرة، 2022)، يتخطى سيف الرحبي (66 عاماً) حدود التصنيف المثبت على الغلاف (أدب رحلات)، ليقدّم توليفة شعرية سرديّة خاصة، يتفاعل فيها مع المعنى الأعمق والجوهر الخالص للأمكنة التي يزورها ويقضي فيها أوقاتاً تأملية طويلة، بهدف استنطاقها من داخلها، لتقصّ عن ذاتها بذاتها، وتكشف أسرارها بحميمية له، وللمتطلعين إلى سبر أغوارها.

في "جبال سراييفو"، ينتهج صاحب "الجبل الأخضر" و"رأس المسافر" و"حوار الأمكنة والوجوه" و"صالة استقبال الضواري – رحلات وأسفار"، وغيرها من كتب الشعر والمقالات المعنية دائماً بالسفر والرحلة، ما يمكن تسميته بتبادل الأدوار مع المكان. فالمكان يقرأ الذات الشاعرة وخلفياتها المجتمعية والتراثية والبيئية والثقافية والمعرفية والجمالية، مثلما أن الذات الشاعرة تقرأ المكان بكل ما يتضمنه من هذه الحمولات والشحنات الزاخمة والمتنوعة نفسها عبر الأزمنة.

"أنظر إلى جبل سراييفو... متذكراً لبنان ومدنه المسوّرة بالجبال من الجهات كلها. ومثل لبنان البوسنة، خارجة من حروب دينية وإثنية طاحنة... تحلم بمستقبل واعد ومختلف"

هو لا يكتب عن سراييفو لكي يصفها ظاهريّاً أو يترصد معطياتها الاعتيادية المتاحة، وإنما يلتحم بها، متماهياً معها، ومازجاً مآسيها بمآسيه، وقتلاها بالموت المدفون حيّاً في أعماقه. وحين يكتب تجربته في العاصمة البوسنية، فإنه لا يستدعي الكلمات، وإنما "يستل العبارة من الأحشاء، كما يُستلّ النصل الحاد من اللحم الحي".

في زيارته الأولى للبوسنة، بعد سنوات طويلة من زيارته يوغسلافيا في أواخر العهد الشيوعي، قبل أن تنقسم إلى دول عدة، منها البوسنة، يذيب سيف الرحبي العام في الخاص على نحو فريد، والخاص في العام، باعثاً نشيده الهادر ونشيجه المحبوس في صدره الضيّق إلى خريطة العالم المعاصر، الأكثر ضيقاً، والتي لابد أن سكانها هم أناس متشابهون في اختناقهم ومتاهتهم. وكيف لا يكونون كذلك، و"الأمواج تتلاطم على سور الأزل وتتناسل، كأنما ألعاب صبية يعبثون"، و"الرعود تُهَمْهِمُ في سماء بعيدة، كما في أعماقي"؟!

في إقامته في أحضان جبال "سراييفو" وأشجارها الخضراء وأسراب طيورها البيضاء وطبيعتها النقية التي لا تقتضي استعمال أجهزة التكييف، وفي تطوافه بتاريخها المفتوح على الإمبراطوريتين النمساوية والعثمانية كواحدة من أكثر المدن تميزاً، سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، وأغناها في التنوع البشري والحضاري والديني، يطوف سيف الرحبي في الوقت نفسه في بلاده التي أتى منها، وفي صحرائه التي يعرف مرارة أصفرها، وفي منطقة الشرق الأوسط التي ينتمي إليها:

"أنظر إلى جبل سراييفو، متناسلاً إلى ذرى وجبال مكللة بالضباب، متذكراً لبنان ومدنه المسوّرة بالجبال من الجهات كلها. ومثل لبنان البوسنة، خارجة من حروب دينية وإثنية طاحنة بعد انفراط عصر الاتحاد اليوغسلافي، تحلم بمستقبل واعد ومختلف".

يبحر سيف الرحبي كذلك في ذاكرته الفردية، كمواطن عُماني عربي، مشحون بالكثير من الأوجاع والتمزقات والانهيارات التي يراها في مرايا سراييفو المتهشمة "ذلك الإعصار الغامض بين التضاريس والأرجاء، هو مرآة تلك الروح المتشظية في الأكوان". وهو في كتابته المزاجية هذه، يزهد في الحبر المحايد، الذي يجف على الورق، ويبقى بلا رائحة ولا تأثير.

في معايناته اليومية بسراييفو، لا ينفصل الرحّالة المتجوّل أبداً عن واقعه وماضيه

هو يرى أن الكتابة عن جراح الذات ونزيف الأمكنة لا تكون سوى بالدم والدموع. وحين يطل من نافذة فندقه في الطابق الخامس عشر على فضاء سراييفو، يجثم تاريخ الجبال والرعاة والدم والأعراف على رأسه، يشاركه السرير والطاولة والنهوض: "يجثم ويتمدد كمقابر مفتوحة، تذرو جماجمها ورميمها العواصفُ على مر الأجيال والأزمان".

وإذا جفّت الخلايا الدمعية، فلا مجال للإنسانية في قلب هذا المشهد، ذلك أنه "حين يفقد الإنسان القدرة على البكاء، وعلى سفح الدموع كما يهطل المطر على سفوح ووهاد، أمام الملمّات والمآسي، يموت الكائن على الفور، أو يدخل فصلاً آخر أكثر قسوة، من فصول جهنمه الخاص".

لقد تكوّمت الأزمات، واحدة فوق الأخرى، في أجواء سراييفو، منذ جحيم الحرب والمذابح، وصولاً إلى جائحة كورونا، لكن الجمال يغطي كل شيء، والاخضرار يحجب السواد الذي كان، والهواء الطلق يفتح النوافذ كلها إلى الانطلاق والحرية. هكذا، بهذه الروح الوثّابة المنتعشة رغم الآلام، يصوّر سيف الرحبي القمر من الحديقة الصغيرة المجاورة، "التي كان يحلّق في أجوائها غراب سراييفو من غير نعيق، وكان هناك أطفال يلعبون من الظهيرة المنعشة".

في رحلته الشعرية، السردية، السيرية، الاستعادية، ينتمي سيف الرحبي دائماً إلى فكرة الضوء الباقي، والشرارات الكامنة، القادرة على ابتلاع العدم، ذات يوم تتطاير فيه بجسارة، وتنحاز إلى التمرد والانفلات. هو يؤمن بأن الاحتجاج، وحده ولا شيء غيره، هو الذي "يُؤرَّخ كفضيلة وعلامة إزاء الاستسلام والإذعان".

يبحر سيف الرحبي كذلك في ذاكرته الفردية، كمواطن عُماني عربي، مشحون بالكثير من الأوجاع والتمزقات والانهيارات التي يراها في مرايا سراييفو المتهشمة

في معايناته اليومية بسراييفو، لا ينفصل الرحّالة المتجوّل أبداً عن واقعه وماضيه، وهو يتشوق إلى التحرر من الصخور الجاثمة على الصدور، وامتلاك الضوء، ولو في الخيال "آه، كل شيء يذكّر بك يا شام، يا بيروت، يا قاهرة، يا قلبي المكلوم على هذا الفضاء الشاسع/المطاعم الأليفة بين العمارات، المقاهي، النساء والحانات، الساحات بالأصص، والأشجار، بالباعة المتجولين/كل شيء يذكّر بك، حتى النجوم التي شبعتْ موتاً وانطفاءً، لكن ما زال ضوؤها ينير الأكوان والذاكرة".

وتتسق هذه النزعة القوية إلى التحرر، مع تحرر كتابة سيف الرحبي ذاتها، سواء على مستوى عدم التقيد بالجنس الأدبي الواضح المحدد، وطبيعة اللغة والتعبير والصور التشكيلية في النصوص، التي تختلط فيها المشاهدات القريبة المباشرة، والأفكار التأملية والفلسفية، والثقافة المعرفية، والإشارات الإخبارية والإعلامية، واللقطات المستدعاة من رحلات سابقة إلى دول وشعوب أخرى، وذكريات الطفولة والصبا، والآراء والمواقف السياسية، والعلاقات بالأهل والأصدقاء؛ بل بالطيور والكائنات الأليفة، إلى آخر هذه الروافد المتشعبة، التي تتخلل السرد السيري والتخييلي، وتغذي أيضاً النصوص الشعرية المفتوحة في الكتاب:

"العبارة التي تحرر الجسد من أعباء التاريخ/ملقاة خلف عشبة أو صخرة في الوادي العتيق/لقد عثر عليها حطّاب أو شاعر ذات دهر، وأودعها في ذاكرة الظبي السارح في السيوح".

"رحلة إلى جبال سراييفو"، إبحارٌ متوّغلٌ في وعورة الذات ونتوءاتها، وَغَوصٌ متعمّقٌ في تضاريس المكان وخباياه الأسطورية، وهديّة أبديّة إلى الطائر الطيّب الذي يعبر الحياة في لمح البصر، ورسالة إلى قلب العالم الحي قبل أن يتوقف عن الخفقان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image