يعرف المعجم الوجيز الرهبة بأنها شعور الخوف والفزع، وأصله رَهَبَ، ومن أصله يأتي راهب وهو المتعبد الخاشع.
تجمع "الرهبة" إذن بين الخوف والخشوع المرتبط بالتبجيل، وإذا تحرينا شعور المصريين نحو من يتولون إعداد أجسادهم للدار الآخرة فسنجد أن وصفهم يمكن جمعه كله تحت مظلة "الرهبة"، بين خوف مستمد من الخوف من الموت والمجهول وراءه، حتى للمؤمنين الذين لا يدرون إن كان مصيرهم نعيماً أم جحيماً، هو خوف ينعكس في سلوك يميل لتجنب مغسلي الموتى والابتعاد عنهم وكأنه فرار من الموت والتذكير به. وتبجيل مستمد أيضاً من جلال الموت نفسه.
ولكن هذا التفسير المغرق في "فلسفة" عملية التلقي الاجتماعي لتلك الوظيفة التي لا يقدر المجتمع نفسه على الاستغناء عنها، يبدو بعيداً عن الواقع، إذ لا يفكر الكثير من ممارسي تغسيل الموتى، سواء على سبيل التطوع أو المهنة، في ذلك التفسير، ويؤلمهم تجنب الناس لهم ويفسرونه بأنه "وصم"، ويساعد على هذا أن من يرهبونهم أنفسهم – أي الناس- لا يلتفتون أصلاً لهذا التفسير، فكلما ذهب أحد مغسلي الموتى للصلاة بالمساجد ينفر منه الناس، ويعتبرونه رؤيته نذيراً باقتراب الموت منهم.
مع جائحة كورونا تراجع كثيرون من ممارسي تغسيل الموتى، خاصة المتطوعين منهم، عن العمل، خشية العدوى. ولكن رغم متاعب المهنة وصعوبتها لا يزال الكثيرون يتطوعون للقيام بها من دون أجر.
بعض المتطوعين يتجاوزون شرط الحصول على ترخيص من وزارة الصحة للقيام بتلك المهمة الصعبة، لكن من يمارسون غسل الموتى مقابل أجر، يتعين عليهم الحصول على تصريح للعمل من الوزارة.
ولا يجوز للمغسل تغسيل الجثامين إلا بعد الحصول على تصريح الدفن الذي تصدره وزارة الصحة عن طريق أحد أطبائها المُعيّنين.
إذا تحرينا شعور المصريين نحو من يتولون إعداد أجسادهم للدار الآخرة، فسنجد أن وصفهم يمكن جمعه كله تحت مظلة "الرهبة"، بين خوف مستمد من الخوف من الموت والمجهول وراءه، حتى للمؤمنين الذين لا يدرون إن كان مصيرهم نعيماً أم جحيماً
ورثة الكهنة
غسل أجساد الموتى كخطوة أولى في إعدادهم للحياة الأخرى لا يرتبط بالأديان السارية الآن، فهذه الخطوة التي كانت تحتم التطهر بماء النيل قبل التحنيط للنبلاء وقبل الدفن لعامة الشعب، هو ممارسة مصرية قديمة ترتبط بالإيمان بحياة أخرى بعد الموت، حياة أكثر قداسة لا بد أن يتطهر فيها المصري كي يستعد ويكون لائقاً لملاقاة الآلهة.
مهنة عائلية
في سن الـ19 عاماً اقتحم العربي حسن، من مواليد محافظة دمياط شمال مصر، مهنة مغسل الأموات بعد أن تعلم أصولها على يد والده، فبات أشهر مغسل محترف في المحافظة الساحلية. وعلى مدار 39 عاماً منذ بدئه تعلمها غسلت يداه مئات وربما آلاف من رجال دمياط.
يُعرف العربي بين أبناء محافظته بـ"العربي المشرحة". علَّم زوجته السيدة سعدية أصول المهنة، وتعمل هي الأخرى منذ 20 عاماً مغسلة النساء المتوفيات في دمياط وقراها.
توجد شروط قليلة لمنح تراخيص العمل لممارسي مهنة المغسل. وهي: أن يكون المغسِّل على علم بالضوابط الشرعية للديانة سواء الإسلامية أو المسيحية لتغسيل المتوفى، وعلى درجة عالية من الأمانة، لا يخرج أسرار المتوفى. والأصل في المهنة عدم الحصول على مقابل مادي
يحدد العربي لرصيف22 القواعد المنظمة لعمله، يقول: "لو وجدت حرقاً أو جرحاً ظاهرياً أو علامات خنق أبلغ الجهات المعنية بوجود شبهة جنائية لاتخاذ الإجراءات اللازمة". مؤكداً "الأمانة هي أهم صفة يجب أن يتمتع بها المغسِّل، فلا يجوز له بأي شكل من الأشكال أن يكشف أسرار جثة ما قام بتغسيلها ذات يوم".
الدكتور عطية منصور وكيل إدارة الطب الوقائي بمديرية الصحة في محافظة دمياط، يرأس الإدارة المسؤولة عن منح تراخيص العمل لمغسلي الموتى. يقول لرصيف22: "لا توجد سوى شروط قليلة لمنح تراخيص العمل لممارسي مهنة المغسل. وهي: أن يكون المغسِّل على علم بالضوابط الشرعية للديانة سواء الإسلامية أو المسيحية لتغسيل المتوفى، وعلى درجة عالية من الأمانة، لا يخرج أسرار المتوفى. والأصل في المهنة عدم الحصول على مقابل مادي".
التحنيط المصري القديم كان يتضمن نزع الملابس عن المتوفى والغسل بماء النيل كأولى خطوات التحنيط، ولم يتنازل المصريون طوال تاريخهم عن شرط التغسيل قبل الدفن، وعلّموا تلك الممارسة للحضارات المحيطة
أما العمدة مجدي حطب، الذي ترأس مجالس عدة مدن في المحافظة نفسها من قبل، فيحدد لرصيف22 دور المحليات في منح التراخيص لمغسلي الموتى، يقول: "يقوم الراغب في العمل كمغسل بتقديم طلب للعمل تطوعاً لمديرية الصحة، التي تطلب بدورها تحريات مجلس المدينة والجهة الأمنية التابع لها مسكن الراغب في الحصول على الترخيص. وبعد الحصول على الموافقة يقوم مجلس المدينة بالإشراف عليه باعتباره الجهة المنوط بها إصدار التراخيص لهم".
وعن تاريخ مهنة تغسيل الموتى تقول الدكتورة غادة درويش، إخصائية الأنثروبولوجيا البيولوجية بوزارة الآثار المصرية: "إن حفظ الجثامين في مصر القديمة كان يبدأ من غسل الجسد بماء النيل لتطهيره، ثم تجفيفه جيداً مع وضعه في منطقة جافة بعيداً عن مصادر الرطوبة لحفظه، سواء كان سيخضع للتحنيط الذي كان يقوم به الكهنة لصالح النبلاء والأُرياء، أو دفنه مباشرة من دون تحنيط إن كان من عامة الشعب البسطاء. اهتمت الديانة المصرية القديمة بحفظ الجسد جيداً إلى جانب تطهيره".
تشرح درويش لرصيف22: "التحنيط المصري القديم كان يتضمن نزع الملابس عن المتوفى والغسل بماء النيل كأولى خطوات التحنيط، أما الحضارات الأخري فلا توجد معلومات دقيقة حول تغسيل جثمان المتوفى قبل دفنه أو حرقه، لكن الثابت أن المصريين لم يتنازلوا طوال تاريخهم عن شرط التغسيل قبل الدفن، وعلّموا تلك الممارسة للحضارات المحيطة".
الوصم بات يطارد أحمد عشماوي، الذي قام بتغسيل جثمان الرجل الذي فصلت رقبته على يد سفاح بأحد شوارع المحافظة، يقول: "كلما ذهبت للصلاة بالمسجد، يفر من جواري المصليين وكأنهم هيخلدوا في الدنيا"
الوصم
لم يفلت مغسل عمل بتلك المهنة من وصمه مجتمعياً، إذ يقابلهم كثيرون بالخوف والتجنب، يقول العربي: "لو مشيت من شارع وواحد توفي فيه يقولوا: «ما وش الشؤم العربي مشي من هنا يبقى لازم حد يموت»، علاوة على أنهم لا يخفون ما في قلوبهم، وكثيرا ما قالوا لي في وجهي «يا شؤم»".
الوصم بات يطارد أحمد عشماوي أشهر مغسل أموات في محافظة الإسماعيلية، والذي قام بتغسيل جثمان الرجل الذي فصلت رقبته على يد سفاح بأحد شوارع المحافظة، تلك الجريمة التي هزت الرأي العام. يقول: "كلما ذهبت للصلاة بالمسجد، يفر من جواري المصليين وكأنهم هيخلدوا في الدنيا. علاوة على فرار الناس مني أول ما يقابلوني في مستشفى الجامعة محل عملي".
أصحاب المهام الصعبة
قبل 12 عاماً قرر أحمد عشماوي، أشهر مغسل أموات بمحافظة الإسماعيلية، أن يجمع بين مهنته الأساسية كمشرف أمن في المستشفى الجامعي، حيث يتولى خياطة الجثامين عقب انتهاء عملية التشريح، وبين مهنة مغسل الموتى، التي تعلمها على يد أحد المشايخ.
كان هدف عشماوي عندما قرر تعلم الغسل الشرعي أن يساعد ذوي المتوفين الذين تعرضوا للتشريح على إعداد جثامين أحبابهم، ليقيهم عناء البحث عن مُغسلون وإطالة الوقت الفاصل بين الوفاة والدفن والذي يؤرق الكثير من الأُسر، لكنه بات يقدم خدماته حتى لمن قضوا بوفاة طبيعية.
لا ينسى عشماوي توجس زوجته منه حينما بدأ العمل بتلك المهنة، "لكنها تأقلمت مع الوضع بعدين".
قضى عشماوي أربع سنوات في تعلم تفاصيل المهنة إذ كانت بداية رحلته مع الطب الشرعي. يعتبر "عشماوي الجثث" كما يلقبه أبناء محافظته أن تغسيل جثمان ذبيح الإسماعيلية الذي قضى على يد سفاح، هي المهمة الأصعب منذ احترف تغسيل الموتى.
لكنه يتنبه جيداً للمخاطر الصحية للمهنة؛ "95% من المغسلين بطلوا يشتغلوا أيام الكورونا. دا غير الالتهاب السحائي اللي بيحصل فيه وباء من وقت للتاني وهو مرض فتاك وسريع العدوى وبيحتاج مستوى تعقيم عالي جداً. أنا شخصياً غسلت سبعة متوفين بالالتهاب السحائي وكان كل الناس بتهرب منهم".
ويعرّف الإلتهاب السحائي وفقاً لموقع ويب طب بأنه مرض يصيب الأغشية المخاطية التي تُغطي الدماغ والنخاع الشوكي، كما قد يُصيب السائل المحيط بهذه الأغشية.
لن تنسى داليا أن أول جثمان غسَّلته كان لسيدة لقت حتفها قتلاً. ورغم صعوبة الموقف إلا أنه مر بسلام وقررت أن تستكمل مسيرتها في تغسيل المتوفيات
ربع قرن من التطوع في تغسيل الأموات
قبل 25 عاماً قررت أمل أن تتطوع لتغسيل المتوفيات بعد أن عانت هي وأقاربها حينما توفيت إحدى قريباتها ولم تجد من يغسلها، حينذاك قررت أن تتطوع لغسل المتوفيات.
خلال تلك السنوات واجهت أمل الوصم، فبات الكثيرون يخشونها ويتجنبون التعامل معها، إلا أن ذلك لم يثنِها عن مواصلة عملها "الخالص لوجه الله"، إذ ترفض أمل الحصول على مقابل مادي لخدماتها بل توفر الكفن لغير القادرات من مالها الخاص.
قرر أبناؤها أن يصحبوها هي ورفيقاتها اللاتي عملن معها في التغسيل. "ماما أمل" صار هو لقبها الذي عرفت به في محافظات القاهرة والإسماعيلية ودمياط والشرقية وغيرها من المحافظات التي لا تتردد في الارتحال إليها لتقديم خدماتها. تقول أمل: "في بعض الأيام أغسل وفريقي سبعة حالات في اليوم، وجمعيات خيرية تتبرع لنا بصفة مستمرة بأطقم التغسيل والكفن لغير القادرات".
فريقها يضم داليا محمود، وهي أم وربة منزل في الـ41 من العمر. ولن تنسى داليا أن أول جثمان غسلته كان لسيدة لقت حتفها قتلاً. ورغم صعوبة الموقف إلا أنه مر بسلام وقررت أن تستكمل مسيرتها في تغسيل المتوفيات، ولم تتعرض لانهيار عصبي إلا خلال تغسيل سيدة أربعينية توفيت وتحلل جثمانها في شقتها لمدة 15 يوماً، من دون أن يعلم أحد بوفاتها.
تستعيد أمل تلك الخبرة وتحكي لرصيف22: "حاولت تمالك نفسي قدر الإمكان، وقمت وزميلاتي بتيممها بالتراب"، وفقاً لها فإن حالات الغرق والحرق والتحلل، تُيمَّم بالتراب ولا تغتسل بالماء. تضيف: "شعرت حينها بحزن شديد عليها، لا يوجد بالدنيا ما يدعو للصراع، يمَّمت جثمانها وكفنتها وعيناي لم تفارقهما الدموع، وظللت على هذا الوضع لأيام أنصح أبنائي بحسن العمل وعدم تحري الضغينة مع أي أحد".
مخاطر صحية واجتماعية
مخاطر صحية عدة يتعرض لها المغسل. فقد يقوم بتغسيل ميت بمرض فيروسي من دون أن يخطره ذوو المتوفى بذلك، وهو ما حدث مع أمل وفريقها.
تحكي لرصيف22: "قمت بتغسيل متوفين بفيروسات معدية كفيروسات الكبد الوبائي سي وبي، والإيدز (HIV). لذا أحرص على ارتداء الملابس الواقية والكمامات، وأقوم وفريقي بتعقيم أنفسنا، ونرتدي قفازات في القدمين حرصاً على سلامتنا الشخصية، ونتخلص أولاً بأول من تلك الأطقم بعد كل وفاة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع