شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الحب في زمن الشاحن

الحب في زمن الشاحن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 25 يناير 202312:37 م

دخل الشاحن إلى حياتي في أواسط عام 1995، أي بعد سنة من تأسيس شركة الاتصالات الخليوية "سيلكوم". في يوم من أيام ذلك العام، كلّفتُ صديقاً من القدس أن يشتري لي هاتفاً نقالاً، ففعل، وأحضره إلى رام الله في كرتونة كبيرة. فتحت الكرتونة وتفحصت الجهاز، ثم سحبت الأنتين اللاقط، والذي كان طوله بحدود الثلاثين سنتمتراً، وابتسمت فرحاً بأنني دخلت عالم التكنولوجيا الحديثة.

داخل الكرتونة كان هناك سلك طويل ينتهي في أحد طرفيه بقاعدة غريبة عليها خطوط متوازية من المعدن النحاسي، فسألت صديقي: "ما هذا؟". أجابني وابتسامة العارف تعلو وجهه: "هذا هو الشاحن".
لا داعي للقول إن لا أحد من أصدقائي المقربين كان يملك هاتفاً خليوياً في ذلك الوقت، وأن هذا الهاتف كان للوجاهة لا أكثر.
كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها هذه الكلمة كمُسمّى لشيء محدّد وموجود أمامي. تظاهرت بالفهم، وسألت صديقي: "كيف يعمل؟"، فتناوله من الكرتونة ووضعه في قابس الكهرباء، ثم أوقف جهاز الهاتف فوق قاعدته من الطرف الآخر. مع قليل من الشرح عن الهاتف والإشارات التي تعني قوة الإرسال، وتلك التي تعني قوة البطارية، دخلت عالم الاتصالات الخليوية، ودخل الشاحن حياتي.
لا داعي للقول إن لا أحد من أصدقائي المقربين كان يملك هاتفاً خليوياً في ذلك الوقت، وأن هذا الهاتف كان للوجاهة لا أكثر. لقد أمضى أول ستة أشهر من حياته إما على حافة النافذة أو على قاعدة الشاحن. كنت أضعه على النافذة وأنتظر بفارغ الصبر أن يظهر على شاشته الصغيرة خط واحد من الخطوط المفترضة لإشارة البث. خط واحد يعني أن هاتفي قابل، في هذه اللحظة، لاستقبال مكالمة ما.
في المقابل، وعلى الجهة الثانية من الشاشة، كانت خطوط قوة البطارية كاملة الحضور دائماً. فلأنني انتزعت هذا الجهاز من بيئته الطبيعية، وأتيت به إلى مدينة لا يوجد فيها لا شبكة اتصال ولا محطة تقوية، كان علي أن أقوم باحترامه بالشحن على أقل تقدير. كنت أقول، وكأنني أوجه كلامي لكائن عاقل: "أنت أيها المسكين، ستظل مشحوناً. ستظل في كامل لياقتك".
صار الشاحن، إذن، جزءاً من حياتي وأحد محتويات شنطة كتفي. فيما بعد اقتنيت جهاز هاتف أصغر بشاحن ليس له قاعدة. وفي سنوات لاحقة صار عندي شاحنان لنفس الهاتف، واحد في البيت وآخر في مكان العمل.
صار عندي شاحن للابتوب في عمان وآخر في رام الله، وشاحن للموبايل هنا وآخر هناك، ثم هاتف لشريحة أردنية بشاحنين إضافيين... وامتلأت حياتي بالشواحن

مع شرائي لأول لابتوب صار عندي شاحن ثالث، وبعد ذلك اشتريت شاحن احتياطياً خوفاً من نسيان الأول، أو للدقة؛ بعد تكرار نسياني للشاحن في سفراتي القصيرة. تمر السنوات وأغيّر مكان إقامتي من رام الله إلى عمان، ويزداد تنقلي بين المدينتين. صار عندي شاحن للابتوب في عمان وآخر في رام الله، وشاحن للموبايل هنا وآخر هناك، ثم هاتف لشريحة أردنية بشاحنين إضافيين... وامتلأت حياتي بالشواحن.

في فترة لاحقة أقنعني صديق بشراء جهاز "كندل" للقراءة، فاشتريته مع شاحنه. مؤخراً أقلعت عن تدخين السجائر العادية واشتريت جهاز "أيكوس" مع علبة شحن وشاحن عادي. يا لكثرة الشواحن التي امتلأ بها بيتي ومكتبي وسيارتي، يا لخربشة الأسلاك، والضياع اليومي بين الشاحن العريض وشاحن الإبرة، بين شاحن الأيفون وشاحن السي تايب.

أنا الآن أكتب بفضل الشاحن، وأقرأ الكتب التي أحبها بمساعدة الشاحن. أتحدث مع أصدقائي عبر الهاتف وأعرف أن الشاحن هو من ينقذني إن قارب الكلام على النفاذ. أدخن سجائري وأضرب تحية للشاحن بين كل سيجارة وأخرى. لا أخرج من بيتي دون أن أتأكد أن شواحني كاملة في شنطة الكتف، ولا أسافر قبل أن أرتب شواحني في شنطة السفر.
هل دخلتُ فعلاً إلى عالم التكنولوجيا الحديثة، حين اشتريت هاتفي الأول في 1995، أم أنني وضعت أولى خطواتي على طريق الشواحن والأسلاك القصيرة؟ هل أنا ابن الحداثة أم ابن الكهرباء والمحولات الصغيرة؟ لا أعرف. كل ما أعرفه أنني أستطيع إكمال نهاري، ولو ببعض الخجل، لو خرجت من البيت دون أن أرتدي قميصي. سأستطيع الكتابة والقراءة، سأتمكن من الحديث مع الأصدقاء البعيدين، وسأدخن سيجارتي مع فنجان القهوة أو بدونه، لكنني لن أستطيع فعل أي شيء دون هذه الشواحن.
الحياة، إذن، شواحن مختلفة المداخل. وهذه الشواحن تفعل فعلها فينا دون أن ننتبه. هي التي تجعل يومنا قابلاً للعيش، وهي التي ترتب إيقاعه وأولوياته، وحين ننام، هي من تقوم بمهمة التحضير لنهارنا القادم. هي التي تجهّز لنا اللابتوب والموبايل والتاب، كما تفعل الأم مع أطفالها حين تجهزهم لباص المدرسة.

كل ما أعرفه أنني أستطيع إكمال نهاري، ولو ببعض الخجل، لو خرجت من البيت دون أن أرتدي قميصي. سأستطيع الكتابة والقراءة، سأتمكن من الحديث مع الأصدقاء البعيدين، وسأدخن سيجارتي مع فنجان القهوة أو بدونه، لكنني لن أستطيع فعل أي شيء دون هذه الشواحن

لكن هل ستكتفي هذه الشواحن بما تفعله الآن؟ القليل من الخيال يبشرنا بالمزيد في قادم الأعوام؛ ستمتد يد الشاحن... أقصد سلكه، ليعبث بسياراتنا جميعاً. كلنا سنقود سيارات مشحونة ليلاً. سوف يغزو الشاحن أجهزة التدفئة، والثلاجات، والأفران، والحنفيات. لن نستخدم طاولة الطعام دون أن نشحنها، ولن نستطيع إلقاء كيس النفايات في الحاوية إن لم يكن مشحوناً، وربما لن نستطيع الخلود إلى النوم إن نسينا السرير دون شحن.
قبل هاتفي اللعين في عام 1995 كنت مشحوناً بالأمل بغد أفضل، وكنت مشحوناً بطاقة كافية لأذهب إلى بيت حبيبتي مشياً، وكنت مشحوناً بالحب لأكتب قصيدة في مديح الأرصفة، أما الآن فحياتي مليئة بالأسلاك الكهربائية متعددة الألوان والأطوال.
من الصعب أن تشرح لشخص من مواليد تسعينيات القرن الماضي أو ما بعد، عن حياة كانت تخلو من كل هذه الشواحن.
من الصعب أن تشرح لشخص من مواليد تسعينيات القرن الماضي أو ما بعد، عن حياة كانت تخلو من كل هذه الشواحن. عن حياة خالية من الأجهزة والأسلاك المحمولة. حياة عناصرها الشارع والحقل وبيت الجدة. حياة تقدم لك المتعة برؤية الأشياء وجهاً لوجه، بلمسها وبالحديث معها.
لكن الأكثر صعوبة هو أن نتخيل شكل الحياة لو اختفت هذه الشواحن فجأة. ما الذي سيحدث لو صحونا صباحاً ولم نجد أي شاحن، لا في البيت ولا في مكان العمل، ولا في شنطة الكتف؟ سنفقد أصدقاءنا أولاً، وسننتظر الصدفة التي ستجمعنا مع أحدهم في السوق أو في الشارع. سيفقد الكثيرون حبيباتهم؛ حبيبتك ستضيع بلا رجعة، وأنت أيضاً ستضيع عنها. أنت لم تتعرّف على حبيبتك على طريق المدرسة أو أمام عتبة الجيران، ولذلك لن تذهب للبحث عنها هناك، كما كان يفعل أجدادك. هل ستطرق باب حسابها على فيسبوك أو تيك توك؟ لن يرد عليك أحد.
حافظ، إذن، على شاحنك كما تحافظ على أعز أقربائك. لا تنسه، ولا تهمله، ولا تتركه يضيع منك، فهو بمثابة الحبل السُّري الذي يربطك بالعالم. الشاحن، وليس الجهاز، هو الأهم في عصر التكنولوجيا الذي اخترته بكامل قواك العقلية. الشاحن هو القطعة السحرية التي تجعلك كائناً قابلاً للحداثة... وللحب.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image