شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
آلاف من قناني الخمر وألف كيلو كافيار...  أشهر احتفالات القرن العشرين لذكرى الإمبراطورية الفارسية

آلاف من قناني الخمر وألف كيلو كافيار... أشهر احتفالات القرن العشرين لذكرى الإمبراطورية الفارسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 3 يونيو 202302:52 م

تندرج هذه المادة ضمن ملف الطريق إلى إيران، في رصيف22.


كانت تفصلهم أيام عن 12 تشرين الأول/أكتوبر 1971 حين قيل لطاقم مطعم "مَكسيم" الفرنسي الشهير في باريس، إنه عليهم السفر إلى إيران لمهمة حساسة. كان حماسهم لا يوصف، إذ لم يركب بعضهم الطائرة في حياته قبل ذلك. وحين أعلن الطيّار أنهم دخلوا الأجواء الإيرانية قال أحدهم لمن كان جالساً بجانبه: "يا إلهي، تحت أقدامنا الكثير من النفط!.".

كانوا في طريقهم نحو مدينة شيراز جنوب البلاد لتقديم خدمات في واحدة من أعظم استضافات العالم، هو الاحتفال بمرور ألفي وخمسمئة عام على تأسيس الإمبراطورية الإيرانية (الدولة الإخمينية) على يد كوريش (قورش) الكبير، والتي باتت تعرف بـ"احتفالات 2500 عام من الملكية".

قرر الشاه محمد رضا بَهْلَوي أن يستضيف قادة العالم إلى جوار بقايا قصر "تخت جمشيد"، العاصمة الملكية الإخمينية، بالقرب من مدينة شيراز (موقع "بِرسبوليس) لفترة 5 أيام في سنة 1971، ولكن الإعداد لذلك جاء قبل حوالى 12 عاماً حينما تم إنشاء "الهيئة العليا لتنظيم الاحتفالات الملكية".

وبعد الاجتماعات توصلت اللجنة المنظمة لفكرة إبداعية تنص على استقبال الضيوف في خيام ملكية بالقرب من المعالم الأثرية للدولة الإخمينية. ولإتمام هذه المهمة، زيّن الفنان الفرنسي جانسون التصميمَ الداخلي لسبعين خيمة بالكريستال والزجاج والحرير والمخمل الأحمر، فكانت الخيام وسط الصحراء أشبه بالقصور الفخمة منها بالفنادق؛ موقع يشبه مشهداً من أفلام جيمس بوند أو مشهداً من القصص الخرافية.

قرر الشاه محمد رضا بَهْلَوي أن يستضيف قادة العالم إلى جوار بقايا قصر "تخت جمشيد"، العاصمة الملكية الإخمينية، بالقرب من مدينة شيراز، لفترة 5 أيام في سنة 1971

وحملت مئة طائرة من الجيش، إضافة إلى عشرات الشاحنات، كلَّ أثاث ومعدات الحفل الملكي طوال تسعة أشهر، منها: 47 كيلومتراً من الحرير، 18 طناً من الطعام، 180 نادلاً، 12 ألف قنينة ويسكي، ألف كيلو كافيار، 2500 قنينة شامباين، 25 ألف قنينة نبيذ، أطنان من اللحم، 360 ألف بيضة، 250 سيارة ليموزين ضد الرصاص، 60 ألف جندي، و6 آلاف من الجنود بثياب تاريخية لأداء الاستعراض العسكري التراثي.

وأنتجت شركة إليزابيث أردن الكندية الأمريكية، ماركةَ كريم للبشرة باسم الملكة "فرَح دِيبا"، زوجة الشاه، ليقدم إلى ضيوف الاحتفال كهدية، وحطّ في مجموعة تخت جمشيد الأثرية أفضل مصففي الشعر من صالات كاريتا وأليكساندر باريس، لتنفيذ أعمال تجميل الحاضرات من السيدات.

ملوك العالم في صحراء شيراز

شارك في الحفل: عشرون ملكاً، وخمس ملكات، وواحد وعشرون أميراً وستة عشر رئيس جمهورية، وثلاث رؤساء وزراء، وأربع نواب رؤساء جمهوريات، من 69 دولة. ومن الحضور ملوك الأردن وعمان والكويت والبحرين وقطر والإمارات، وأحد أفراد الأسرة المالكة في المغرب، ورؤساء تركيا ولبنان.

غاب عن هذه الضيافة ضيوفٌ مهمون لدى الشاه، فلم تحضر ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، فوجه الشاه اعتراضه في رسالة للسفير البريطاني لدى طهران، كما لم يشارك رئيس الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون، برغم علاقته الحسنة مع الشاه، وغاب عن الاحتفال من جاءت معظم معدات الضيافة من بلده، جورج بومبيدو رئيس فرنسا، وذلك اعتراضاً على المكان المخصص له في الاحتفال، وقيل إن بوميبدو قال ساخراً: "لو ذهبت لأصبحت نادلاً".


ووصف كتاب "نظرة على الشاه" للمؤرخ والباحث عباس ميلاني، الاحتفالات بأنها "احتفال في الصحراء"، وشرح: "حظي ضيوف الملك بتغطية إعلامية كانت بمثابة إعلان دعم للنظام الملكي الإيراني، ولذلك استضافت طهران 600 صحافي ومصور. كما كان من المقرر إخراج فيلم وثائقي برواية المخرج الأمريكي أورسون ويلز، عن الحفل، ليعرض في صالات السينما حول العالم".

نشر الكتاب تقريراً من وكالة المخابرات المركزية (CIA) ينص: "في فترة قليلة صُرفت عشرات ملايين الدولارات لبناء مطار في شيراز يتناسب مع طائرات 707. وحسب أحد المهندسين، كان العمال يعملون ليل نهار لإنهاء المهمة ومدرجات المطار قبل الموعد المقرر".

كما افتتحت طهران بهذه المناسبة، برج "آزادي" (الحرية) والذي بقى رمز البلد حتى اليوم، وكذلك دشنت ملعب "آزادي" الذي يسع لمئة ألف متفرج، إضافة إلى الكثير من المرافق العامة والبنى التحتية في طهران وشيراز ومدن أخرى.

حاول الشاه محمد رضا بَهْلَوي أن يروي 2500 عام من الملكية في إيران مؤكداً على شخصية وعظمة كوروش والوجود الملكي في البلاد على مدى قرون مديدة، وأراد لنفسه أن ينظر له من هذه الزاوية، كوريث لذلك الجلال والجبروت الأسطوري، فجاء في تأكيد خطابه التاريخي أن إيران دولة قوية لا بد أن ينظر لها وله كمَلِكِها، بمثابة قوة مهمة في المنطقة.

"نمْ قرير العين؛ فإننا مستيقظون"

جاءت كلمة الافتتاح الحماسية من أمام مقبرة كوروش؛ افتتاحية أبهرت الجميع لنظمها وعظمتها: "كورش! أيها الملك الكبير! ملك الملوك! الرجل الحر وبطل تاريخ إيران والعالم! نمْ قرير العين؛ فإننا مستيقظون، وسنبقى".

ثم أدى زعماء العالم التحية والتقدير لأحد أشهر ملوك إيران، وبعدها بدأت الاستعراضات العسكرية لجنود إيران في الحقب التاريخية المختلفة، وثمة برامج أخرى كانت قد شدت انتباه قادة 69 دولة وأرضت الشاه.

وجاء في التقارير أن إيران أحضرت 5 آلاف كيلو من القطن والشعر الصناعي من الخارج لزي الجنود؛ كمية كانت تكفي مسارح أوروبا لعام كامل، والهدف كان إبراز عظمة الجيش الإيراني منذ العصر الغابر وحتى الوقت الراهن.

بعد يوم على نهاية الاحتفال الذي شاهده نحو 10 ملايين على شاشات التلفزيون، عاد الشاه إلى العاصمة وشارك في مؤتمر صحافي حضره 130 صحافياً أجنبياً، فسأل مراسل سويدي الشاهَ: "هل يمكن للملك أن يطلعنا على تكاليف الاحتفال؟ لقد سمعنا أرقاماً مختلفة من مئتي مليون دولار إلى ملياري دولار؟". فأجابه الشاه: "لا أعتقد أن تكلفة الاحتفال كان أكثر من ضیافتین قدمناهما لضيوفنا. وإن كنتم تعتقدون أن هاتين الضیافتین كلفتا ملياري دولار، لذا عليك أن تخبرني كم هو سعر كيلو الخبز وكيلو اللحم؟".

وبرغم الغطاء الأمني القوي للاستخبارت، إلا أن بعض الصحافيين الأجانب المشاركين في الحفل، استطاعوا الحصول على معلومات، ليظهروا الوجه الآخر من الاحتفال، فذهب بعضهم إلى تصوير المناطق النائية والمساكن العشوائية، وقاموا بتغطية شاملة من الاحتفالات الفاخرة ومن الفقر الذي يسود البلاد.

وبث التلفزيون السويدي والدنماركي برامج من الحفل الملكي في شيراز، إلى جانب مشاهد من تناول المواطنين البلوشيين نواة التمر، وعمل الأطفال بين النفايات، وحياة الناس التعيسة في جنوب طهران.

ورد وزير البلاط ورئيس الحفل أسد الله علم على الانتقادات الموجهه من الصحافة الأجنبية: "نعم لدينا ذلك؛ وحتى لو لم يكن لدينا ما يكفي لكان على شعب إيران بيع بطانياتهم وأفرشتهم لكي نقيم هذا الحفل".

لم يتصور أحد قادة العالم الذين شاركوا في الحفل ولا حتى الشاه نفسه أن تاريخ 2500 سنة من الملكية سينتهي بعد سنوات قليلة من إقامة الاحتفال، ويهرب الملك من البلاد مهزوماً في مطلع عام 1979

كان الاحتفال بمثابة رمز للسياسات القومية الإيرانية، فحظي باهتمام بارز من النظام الملكي برغم معاناة الشعب الاقتصادية، وقد ازداد الحس القومي وخاصة الكره الشديد للإسلام والفتح الإسلامي لفارس، الذي يطلق عليه "هجوم الأعراب" في عهد الدولة البهلوية، حتى قامت بعدة نشاطات وأعمال لتظهر تاريخها القومي بعيداً عن الإسلام الذي كان قد استحوذ على كل شيء وفق نظرهم.

كما عملت وزارة الثقافة والمؤسسات العلمية والثقافية على نشر كتب ومجلات وبرامج إذاعية وتلفزيونية ومؤتمرات حول تاريخ إيران ما قبل الإسلام، تزامناً مع أيام الحفل.

ولكن خلافاً لما كان يتصوره الشاه وأعوانه، فإن الإمبراطورية الإيرانية لم تبدأ بعهد الملك كوروش الكبير، حيث كان الأخير سابع ملوك الدولة الإخمينية، كما أن بعد أسلمة إيران، لم تُدر البلاد بشكل ملكي لمئات السنين، ولا يمكن اعتبارها بأنها استكمال للإمبراطورية الفارسية، ولكن الحس القومي كان يحتاج للكثير من البروباغاندا.

"لا نريد احتفالاً، نحن جياع"

ووجهه الزعيم المستقبلي للثورة الإيرانية ضد النظام الملكي، المرجع الديني روح الله الخميني، رسالة شديدة اللهجة جاء فيها: "لا نريد حفل 2500 عام. نحن جياع. لقد صرفت مدخرات الناس والمسلمين المساكين على مثل هذه الأمور ومن ميزانية الدولة، لقد صرفت عشرات الملايين من أجل هذه المهزلة. لماذا؟".

ورافقت الاحتفالات، اعتقال الكثير من معارضي الحكومة، وإغلاق الجامعات تحسباً لأي احتجاجات طلابية، ولكن قام "اتحاد الطلاب الإيرانيين في خارج البلاد"، بمظاهرات ضدّ فكرة إقامة الحفل وما صُرف عليه في دول أوروبية.

لم يتصور أحد قادة العالم الذين شاركوا في الحفل ولا حتى الشاه نفسه أن تاريخ 2500 سنة من الملكية سينتهي بعد سنوات قليلة من إقامة الاحتفال ويهرب الملك من البلاد مهزوماً في مطلع عام 1979.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image