"الفن رسالة" جملة اعتاد عدد كبير من الممثلين تكرارها في الآونة الأخيرة، وانتشرت لتصبح موضة متناقلة بين الأجيال، حتى أن السواد الأعظم من الجمهور بات يوجه الانتقاد للأعمال التلفزيونية المعروضة في حال كانت بلا رسالة، بعيدة عن الواقع، وتهدف للتسلية فقط.
مؤخراً تم عرض بعض من هذه الأعمال، أي التي تعرضت للانتقاد إلى الحد الذي أطلق عليها الجمهور لقب "الأعمال المسكّنة" بمعنى ذات النهاية السعيدة بصورة لا تُصدق وبعيدة عن المنطق.
من بين هذه الأعمال الدرامية "إيجار قديم" للفنان شريف منير، "أعمل إيه" للفنان خالد الصاوي وصابرين، ومسلسل "
أبو العروسة" لسوسن بدر وسيد رجب. فهل على الإنتاج الفني التلفزيوني أو السينمائي أن يحمل رسالة بالضرورة؟
الفن لأجل المتعة
إذا نظرنا إلى بعض أفلام الأبيض والأسود التي أنتجت في الخمسينيات والستينيات كمثال على فترة زمنية؛ سنجد أن عدداً منها لم يحمل رسالة محددة، لا سيما الأعمال الاستعراضية، مثل فيلم "ليلة العيد"، والذي تحدث عنه الناقد السينمائي محمود عبد الشكور لرصيف22، يقول: "فيلم مثل (ليلة العيد) بطولة شادية واسماعيل ياسين وشكوكو عمل مسلي وممتع بالأساس، ويقوم على حكاية بسيطة وقصة حب وأغنيات، بالطبع يمكننا أن نعتبره عملاً في مديح الصداقة والأخوة لو أردنا أن نضع له رسالة، ولكنه بهدف التسلية أولاً". تم عرض الفيلم في العام 1949، وأخرجه حلمي رفلة.
مؤخراً تم عرض بعض الأعمال التي تقدم المتعة دون رسالة سامية، وقد تعرضت للانتقاد إلى الحد الذي أطلق عليها البعض لقب "الأعمال المسكّنة" بمعنى ذات النهاية السعيدة بصورة لا تُصدق
ويضيف عبد الشكور: "المتعة والتسلية أمران عظيمان، والرسالة المباشرة للفن تفسده، لكن الشرط الأساسي لكل عمل فني هو أن يكون ممتعاً.. لا أستوعب فكرة الرسائل المباشرة أبداً، هذه مهمة التعليم، ثم إن الفن منبعه داخلي في الأصل. فكرة الرسالة هذه جاءت من التعليم والتوجيهات الدينية والسياسية أما الفن فأمر آخر، وحتى عندما يطرح الفنان وجهة نظره في قضية ما فهو لا يرغب سوى بالتعبير عن نفسه، ولا يُلزم أحداً بتبنيها، فلا الجمهور ملزم برأيه وفي المقابل هو ليس ملزماً برأي الجمهور، كل حر في القبول أو الرفض".
الفن الذي يحمل رسالة هو فن مستبد
ما الرسالة من وراء الأفلام الرومانسية؟ ولماذا لم نزل نستمتع بالشعر والمسرحيات والموشحات التي مرّت عليها مئات السنوات رغم أن الزمن اختلف واختلفت معه القيم والعادات؟
الرسالة المباشرة هي مهمة التعليم والتوجيهات الدينية والسياسية، أما الفن فعليه أن يكون ممتعاً بالأساس، الفن بمعناه التربوي هو فن مستبد
السيناريست حاتم حافظ يحلل الأمر لرصيف22؛ ويقول: "التسلية هي جزء من طبيعة فن الدراما، فإن غابت عنه المتعة والتسلية أصبحت الدراما مقالاً طويلاً ومملاً. هنالك قصص تُحكى بغرض التسلية فقط، وهنالك ما يُحكى للترويح عن النفس، وهنالك قصص تُحكى لمساعدة الناس في تمضية الوقت، وبالطبع سنجد قصصاً تُحكى لتحريض الناس على التفكير أو تحريضهم على الفعل. كل هذه خيارات متاحة أمام صانع الدراما، وبالتالي فهي خيارات متاحة لمتلقي الدراما، ومن الطبيعي أن تتواجد كل هذه الألوان وتتجاور، الجمهور هو من يحدد اختياراته، أما فكرة الرسالة الفنية بمعناها التربوي فقد انتهت من العالم، لأن الفن الذي يدّعي أنه صاحب رسالة هو فن مستبد".
ويضيف حافظ الذي يعمل كأستاذ في أكاديمية الفنون: "تتحدد قيمة الأعمال الفنية بتقنياتها أولاً، وبملامستها للناس ثانياً، وهذا لا علاقة له بإنتاج دراما مشبعة بالواقع، بدليل أن مسرحيات شكسبير مثلاً لم تزل تمس الناس في كل مكان رغم مرور 400 عام على إنتاجها، وبدليل أننا لم نزل نشاهد الأفلام والمسلسلات التي تم إنتاجها في عقود ماضية بنفس الشغف. أو فلنقل إن المسلسل الذي تجري أحداثه في كمباوند مثلاً لن يكون له صلة بواقع سكان القاهرة القديمة، والمسلسل الذي تجري أحداثه في العشوائيات لن يكون له صلة بواقع سكان منطقة الشيخ زايد. ما يربط المتفرج بالعمل هو إيجاد الرابط بينه وبين العمل، وهي رابطة إنسانية وليست اجتماعية بالضرورة.
ثم يعطي مثالاً أكثر دقة فقصة عن الظلم يمكنها أن تمس قطاعاً كبيراً حتى لو حدثت في بيئة لم يعرفها المتفرج أبداً، لأن الدراما الاجتماعية هي لون من ألوان الدراما ولا يمكن مطالبة كل الأعمال التي تُنتج أن تكون من قالب واحد.
ويختم: "الاهتمام تصاعد في السنوات الأخيرة بالدراما الاجتماعية، وهذه ظاهرة جيدة لكن على صناع الدراما أن يصنعوا ألواناً متعددة، فمهما كان اللون المقدم مرغوباً سيمل منه الناس بعد فترة؛ يجب أن ندعم توفر كل أشكال الدراما التلفزيونية، وألا نشترط فيها أي شيء باستثناء أن تُصنع بجدية وبحرفية عالية".
الرسائل انتهت بانتهاء الرسالات السماوية
أما الممثل الشاب محمود شبراوي فهو يرى أن الرسائل انتهت بانتهاء الرسائل السماوية، ويضيف: "لست مقتنعاً أن الفن له رسالة، فالممثل يقدم الدور لأن هذه مهنته وليس لأنه صاحب رسالة، من الممكن أن نقوم بإعلاء قيمة ما بالطبع لكن لا بأس إن لم تتواجد في العمل، مثلاً الناس تعلم أن الكذب حرام، ولكن لا يمكن أن نقول للناس من خلال عمل فني أن الكذب حرام، إنما يمكننا أن نعلي قيمة الصدق دون أن يكون العمل كله قائماً على ذلك".
ويضيف في تصريحة لرصيف22: "لا يجدر بالفنان أن يتخلى عن القيمة الدرامية من أجل القيمة الأخلاقية، ما القيمة في العري؟ ما القيمة في المخدرات التي قدمتْها الأعمال كثيراً؟ أو ما الرسالة التي تكلف ملايين الدولارات لإنتاجها في فيلم؟ الفن متعة مجردة، وهدف الفنان الأول هو إمتاع المشاهد، مثلاً المسرح والروايات القديمة التي تتناول الآلهة الإغريقية والرومانية لا علاقة لها بالواقع ولا رسالة تستمد منها، لماذا تهم المشاهد؟ لأن الإبداع في الفنيات هو الذي يجذبه للعرض".
أفلام مثل "تجيبها كده تجيلها كده هي كده" و"البحث عن فضيحة" و"إشاعة حب" لم تحمل قيماً كبرى، وكانت تتطرق لأفكار شديدة البساطة ومكررة، لكنها حملت كل مواصفات التسلية والمتعة، ولذلك لم تزل صالحة للفرجة حتى يومنا هذا
أما الممثلة المصرية حنان سليمان فلها رأي آخر إذ تقول في تصريحها لرصيف22 أن الفن رسالة تكمن المتعة في داخلها، تقول لرصيف22: "المشاهد لن يتلقى الرسالة إلا إذا كانت مقدمة بطريقة ممتعة، قد يكون الفن متعة خالصة ولكن يجب أن تكون غير مخلة، لأن المشاهد يصل لحالة خالية من التوتر، فتصبح الرؤية واصحة لديه مما يؤثر على قرارته وانفعالاته في الحياة".
فن يتعالى على المشاهد؟
السيناريست محمد هشام عبية استشهد بعدد من الأفلام التي قدمت في الماضي ولم يكن لها هدف أو رسالة محددة، لكنها كانت ممتعة جداً، وحتى وإن قدَّمت أفكاراً مكررة لكنها قُدمت بشكل جيد، ومن الأمثلة التي يعطيها فيلم "إشاعة حب"، والذي قدم في عام 1960، وشارك في بطولته سعاد حسني وعمر الشريف ويوسف وهبي.
يقول عبية لرصيف22: "لم تناقش أفلام مثل (تجيبها كده تجيلها كده هي كده) و(البحث عن فضيحة) و(إشاعة حب) أفكاراً كبرى، وكانت تتطرق لأفكار شديدة البساطة ومكررة، لكنها حملت كل مواصفات التسلية والمتعة، ولذلك لم تزل صالحة للفرجة حتى يومنا هذا".
ويضيف: "هدف الفن هو التسلية والإمتاع قبل أن يكون مقدمة لفكرة أو هدف، فالتسلية هدف بحد ذاتها وكذلك الإمتاع، غياب المتعة عن الفن لا يجعله فناً أصيلاً، لكن في نفس الوقت التسلية لها أسس يجب أن تتوفر في العمل حتى تتحقق، فإذا حقق العمل الفني متعة وتسلية فقد فاز مرة، أما إذا حقق متعة وتسلية وطرح نقاشاً أو رؤية لفكرة ما أيضاً فقد فاز مرتين".
الناقدة الفنية منار خالد تقول لرصيف22 : "الفن ليس مطالباً بتوجيه النصح والإرشاد، نحن قادرون على توجيه أنفسنا. الفن يعيننا فقط على الحياة كوسيلة ثرية تتضمن العديد من الأدوات وتحمل العديد من الأفكار دون البحث عن أهداف سامية وقيم نبيلة، فمن يستغل عمله الفني لتوجيه المُشاهد ونصحه وإعطاءه رسالة مباشرة هو فقير فنياً، فهو يتعالى على المتلقي ويعامله معاملة الغبي غير القادر على التفكير والتأمل والاستنتاج، وكأن الجمهور يحتاج دائماً إلى العون منه ومن أمثاله حتى ينضبط سلوكه وتنصلح أحواله".
من يستغل عمله الفني لتوجيه المُشاهد ونصحه وإعطاءه رسالة مباشرة هو فقير فنياً، فهو يتعالى على المتلقي ويعامله معاملة الغبي غير القادر على التفكير والاستنتاج
وتختم: "إذا تأملنا فيلم (الحريف) وفيلم (طائر على الطريق) وكلاهما من إخراج محمد خان، لن نجد إدانة لأي شخصية، فلكل شخصية أسبابها لأفعالها، وفي النهاية مصائر الشخصيات لا تحكم عليهم أخلاقياً.
هذه الأفلام بها متعة بصرية عالية، لأن الإخراج فيها كان جزءاً أصيلاً من تعريف الشخصيات، والتمثيل أيضاً كان مميزاً، فمن يحب يخرج برسالة سيجدها، ومن يريد أن يستمتع بالعناصر والحدوتة عموماً سيستمتع، لكن الأعمال بذاتها خالية من التوجيه أو الإدانة أو الحث والنصح على البعد عن أفعال معينة، لأنها في النهاية بصدد شخوص وليس أنماط".
فيلم الحريف تم إنتاجه عام 1983 تأليف بشير الديك بطولة عادل إمام وفردوس عبدالحميد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...