جسد مثقل بالآلام والكدمات والحروق، ملقى على سرير أبيض في المستشفى؛ هكذا تلقى اللبنانيون صور الضحية بشار عبد السعود، ووسط غضب واسع تداولوها فانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مع مطالبة بمحاسبة المتورطين، فيما وصل بعضهم إلى المطالبة بحل جهاز أمن الدولة.
في حادثة ليست الأولى من نوعها، وداخل السجون اللبنانية المظلمة ومراكز التوقيف، قُتل الموقوف السوري بشار عبد السعود، على أيدي ضابط وعناصر في جهاز أمن الدولة، وذلك بعد تعرّضه لأقسى أنواع التعذيب خلال التحقيق معه، ما أدى إلى وفاته.
جُلد جسد بشار بأشرطة كهربائية، وبأسلاك حديدية رفيعة، ونباريش مياه رفيعة، فطُبعت على جسمه كله، وكان يسمع صراخه القوي خلال الجلد في مركز تبنين حيث أوقف، وبسبب كثرة الجلد على جميع أنحاء جسمه، تفسّخ جلده وتراوح لونه بين الأزرق والأحمر، بسبب التهاب هذه الجروح بعد خروج الدم منها.
وفي أسفل ظهره حتى أخمص قدميه، طُبعت حلقات كبيرة من الكدمات الغامقة اللون لتؤكد تعرضه للضرب المبرح، أما على قدميه وظهره، فيبدو أن المحققين عمدوا إلى إطفاء سجائرهم في جسده النحيل، أو حرقه مستخدمين القداحة (الولاعة) خلال التحقيقات.
وبحسب شهادة أحد الموقوفين السابقين، والذي تعرض للتعذيب، فالحرق أو التهديد بحرق بعض أجزاء من جسم الموقوف بالقداديح، أو بالسجائر، وسيلة معتمدة خلال التحقيقات من قبل أجهزة الأمن ليعترف الموقوف بالتهم المنسوبة إليه حتى إن لم تكن صحيحةً.
جُلد جسد بشار بأشرطة كهربائية، وبأسلاك حديدية رفيعة، ونباريش مياه رفيعة، فطُبعت على جسمه كله
وتزداد الكدمات على أقدامه بحيث تظهر أنه تعرض للّكم والضرب بشكل متواصل حتى اسودّ جلده، وعلى الأقدام انشق الجلد مشكلاً دوائر صغيرة، وهي بسبب الحروق الكبيرة التي تعرض لها. ولأن جروحه لم تلتئم بعد، امتزج لون غطاء السرير الأبيض بلون دم الضحية، فتلوّن الغطاء الأبيض ببقعات حمراء من دم الضحية دلالةً على استمرار التهاب جسده.
تهمة... فقتل
وبحسب المعلومات، فإن تهمة الضحية هي تزوير 50 دولاراً، وقد أوقفته القوة الضاربة واقتادته إلى مكتب تبنين لجهاز أمن الدولة في قضاء بنت جبيل، للتحقيق معه، فتوفي هناك بعد الضرب المبرح الذي تعرّض له. ويحاول المتورطون لفلفة هذه الجريمة زاعمين بأن عبد السعود توفي بسبب أزمة قلبية، ونُقل على إثرها إلى المستشفى، وبأنه تعاطى جرعةً كبيرةً من المخدرات، الكابتاغون، فمات. إلا أن معاينة الجثة من قبل الطبيب الشرعي، أكدت أنه تعرض لتعذيب وحشي أدى إلى إصابته بأزمة قلبية، ومن ثم توفي. والصور خير دليل على ذلك.
وفي أواخر شهر آب/ أغسطس الماضي، حاول المتورطون التستر على هذه الجريمة، عبر تسريب معلومات عدّوها إنجازاً أمنياً حققته أجهزة الدولة، وهي توقيف خلية تابعة لتنظيم داعش شاركت في جرائم قتل في سوريا، عادّين أن الضحية بشار عبد السعود يحمل صفة قيادي في داعش، وأنه حاول مهاجمة المحقق في مكتب بنت جبيل، فأمسك عناصر جهاز الدولة به، فأصيب بنوبة قلبية ومات.
توثيق التعذيب
بشار عبد السعود ليس الضحية الأولى، إذ إن تقارير عدة انتشرت منذ سنوات أكدت أن الحرية تُسلب من الموقوفين لحظة التحقيق معهم.
تهمة الضحية هي تزوير 50 دولاراً، وقد أوقف واقتيد إلى مكتب تبنين لجهاز أمن الدولة وتوفي هناك بعد الضرب المبرح الذي تعرّض له. ويحاول المتورطون لفلفة هذه الجريمة زاعمين بأنه توفي بسبب أزمة قلبية
وأعلنت اللجنة الوطنية للوقاية من التعذيب، في أيار/ مايو الماضي، أنها زارت أماكن حرمان من الحرية عدة ومن بينها 5 زيارات إلى السجون اللبنانية ومراكز الاحتجاز المدنية والعسكرية، ووثقت ما يحصل فيها. وتتجلى أهمية هذا التقرير الذي سُلّم إلى لجنة الأمم المتحدة الفرعية لمنع التعذيب في أثناء زيارتها إلى لبنان حينها، في أنه يُنشر علناً، في حين حاولت الدولة اللبنانية والحكومات المتعاقبة إبقاء تقرير لجنة الأمم المتحدة سرّياً.
كما وثقت منظمة هيومان رايتس ووتش، في أكثر من مناسبة، آخرها في حزيران/ يونيو الماضي، مواصلة قوات الأمن والجيش استخدام التعذيب ضد الموقوفين والمشتبه بهم الموجودين رهن الاحتجاز، بمن فيهم الأطفال، الذين يوضعون في حبس إفرادي، ويتعرضون لأبشع أنواع الضرب، فهو الأسلوب الذي تلجأ إليه هذه الأنظمة لانتزاع الاعترافات من الموقوفين.
كما قدّمت منظمة الكرامة (مؤسسة سويسرية مستقلة للدفاع عن حقوق الإنسان)، تقريراً عن استمرار التعذيب في السجون اللبنانية، ومن بينها كانت حالة تعذيب قاصر (سوري الجنسية)، أخفته الشرطة العسكرية 23 يوماً، في محاولة منها لإخفاء آثار التعذيب والضرب، وبعد إثارة قضيته في الأمم المتحدة تُرك ثم تعرّض للتوقيف مرةً أخرى، بعد أن أعلن أمام الإعلام أنه تعرض للتعذيب، وبقي 25 يوماً من دون أسباب واضحة.
كما وثقت منظمة العفو الدولية في تقرير لها نشرته عام 2021، عمليات تعذيب في حق 26 محتجزاً من اللاجئين السوريين تم اعتقالهم تعسفياً تحت عنوان تهم الإرهاب، من قبل قوى الأمن اللبنانية. ويفيد التقرير بأنهم تعرضوا لأبشع وأقوى أنواع التعذيب والضرب بالعصي المعدنية، والكابلات الكهربائية، والأنابيب البلاستكية، والتعليق رأساً على عقب، وإرغامهم على اتخاذ وضعيات جسدية مجهدة لفترات طويلة من الوقت... ووثّق هذا التقرير عمليات انتهاكات مارستها مخابرات الجيش اللبناني خصوصاً، في حق 26 شاباً سورياً بينهم أربعة لم تتجاوز أعمارهم 16 عاماً. كما وثق التقرير نفسه إساءة معاملة امرأتين تعرضّتا للتحرش الجنسي والإساءات اللفظية في الحجز، وأُرغمت إحداهن على مشاهدة ابنها وهو يتعرض للضرب، فيما أُرغمت الأخرى على مشاهدة زوجها وهو يُضرب من قبل أجهزة الأمن.
بالرغم من إقرار الدولة قانون 65\ 2017، المتعلق يتجريم التعذيب إلا أنه ظلّ حبراً على ورق
ثغرات القانون
وبالرغم من إقرار الدولة قانون 65\ 2017، المتعلق يتجريم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة عام 2017، إلا أنه ظلّ حبراً على ورق، ولم ينفذ بالرغم من كل الضغوط التي تمارسها المنظمات الحقوقية المحلية والدولية وناشطو حقوق الإنسان.
وكانت انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، خير شاهد على التعذيب الذي تعرّض له الموقوفون الذين كانوا يتظاهرون مطالبين بحقوقهم، والذين اقتيدوا إلى مراكز التوقيف وتعرضوا للتعذيب وأفاد بعضهم بأنهم "وُضعوا في زنزانة إفرادية تحت الأرض لأيام عدة، ومُنعوا في أول أيام الاحتجاز من الأكل والشرب، وأُجبروا على استعمال مرحاض واحد مكشوف أمام الجميع، واستحمّوا بمياه المرحاض، كما تعرضوا للضرب والأذية وغُلّفت رؤوسهم بأكياس سوداء لحجب النور عنهم وجُلدوا بالأسلاك الكهربائية".
التطبيق البعيد
وتشرح المحامية لمى الأمين، الناشطة في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن ضحايا التعذيب، في حديثها إلى رصيف22، عن ضرورة استقلال السلطة القضائية وجعل القضاء هو ضابط الإيقاع ومطبّق القوانين. عادّةً أن "بيان أجهزة الأمن حول مقتل بشار عبد السعود، سيئ وغير كافٍ وغير مقنع، إذ يتكتم على جريمة التعذيب التي تعرض لها الموقوف خلال فترة الاحتجاز. جرائم التعذيب لم تتوقف منذ سنوات، وتحمل رسائل سياسيةً وعنصريةً لهوية الضحية كما حصل مع عبد السعود، والطريقة الوحيدة لتوقيف هذه الجرائم المستمرة، هي المحاسبة وتطبيق القانون 65\ 2017، الذي لا يزال موجوداً في اللجان النيابية".
وتلفت الأمين إلى ضرورة تعديل القانون وإلغاء ثغراته، فالنيابة العامة التنفيذية استغلت عدم وجود كلمة واضحة تؤكد أن الاختصاص للقضاء العدلي، وليس للعسكري. كذلك إلى "ضرورة توسيع تعريف التعذيب وتعديله واعتماد التعريف المتفق عليه دولياً. فالمواثيق الدولية أكدت على أن القضاء هو المسؤول عن التحقيق، وليس أجهزة الأمن، وهذا اللغط هو الذي أدى إلى استمرار التعذيب في السجون اللبنانية ومراكز التوقيف".
الهيئة الوطنية تتحرك
يقول فادي جرجس، رئيس الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، لرصيف22، إن "الهيئة تتلقى الكثير من الشكاوى بشكل مستمر لموقوفين يؤكدون تعرضهم للتعذيب خلال التحقيق معهم، وبدورها تقوم بمتابعة الموضوع والحصول على المعلومات الدقيقة للدفاع عن الضحية، إلا أن المشكلة الأساسية في ارتفاع حالات التعذيب هي عدم تطبيق القانون الذي يجرّم التعذيب والمعاملة المهينة، وهذا ما يشكّل رعباً لدى الموقوفين الذين يخافون من الإفصاح عن أسمائهم خوفاً من احتجازهم مرةً أخرى".
يفيد بعض الذين تعرضوا للتعذيب أنهم وُضعوا في زنزانة إفرادية تحت الأرض لأيام عدة، ومُنعوا في أول أيام الاحتجاز من الأكل والشرب، واستحمّوا بمياه المرحاض، كما تعرضوا للضرب العنيف والصعق بالكهرباء
ويضيف: "الهيئة الوطنية لحماية حقوق الإنسان تعاني منذ أكثر من 4 سنوات من عدم وجود نظام داخلي ومالي ومقرات لها لتستيطع العمل بشكل أوسع، علماً أن الملفات تنتظر إمضاء الدولة اللبنانية فقط، ولكن الدولة تتنصل من هذا الموضوع، إذ تعمل الهيئة بشكل تطوعي بسبب عدم وجود مخصصات لها".
ويلفت جرجس إلى أن 40% من مساجين السجون اللبنانية، هم سوريو الجنسية، لذا لن تقف الهيئة مكتوفة الأيدي بل ستتدخل للدفاع عن الضحية بشار عبد السعود، ولكنها مجبرة على انتظار التحقيقات، وتالياً ستطالب بالمعلومات الدقيقة كلها لتوثّقها، وترسلها بعد ذلك إلى الرئاسات الثلاث والأمم المتحدة التي تتواصل معها دوماً، وذلك لمحاسبة الفاعلين والحد من هذه الجرائم.
وعادت وطالبت الهيئة في بيان، بتجميد جميع أعمال التحقيق في جميع المكاتب الإقليمية التابعة لجهاز أمن الدولة وحصرها بمركز الاحتجاز المركزيّ في المديرية العامة في الجناح بإشراف القضاء المختص، كما طالبت مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات بإحالة هذه الجريمة إلى قاضي التحقيق العدلي وليس العسكري والالتزام بالتطبيق الصارم للقانون رقم 65 الذي ينص على تجريم التعذيب ومعاقبة مرتكبيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.