"موطني، موطني/ الجلال والجمال والسناء والبهاء/ في رباك، في رباك"... ترددها الألسنة بلا وعي، وبإحساس يفوق كل التعابير، ومشاعر جياشة كانت وحدها الحاضرة بين مقاعد مشجعي المنتخب العراقي، في نهائي كأس الخليج العربي المقامة على ملعب جذع النخلة في محافظة البصرة.
بقي التوتر سيد الموقف لنحو ساعتين، فالتعادل يحسم الموقف بين العراق وسلطنة عُمان، وفجأةً، وفي الدقيقة الـ122، سُجّل هدف، وجُنّ جنون الجمهور، إذ تمكن اللاعب العراقي رقم 2، مناف يونس، من حسم المباراة بالهدف الثالث معلناً فوز بلده، بكأس الخليج للمرة الرابعة منذ انطلاقتها الأولى في عام 1970.
لم تقتصر هذه المشاعر على حاضري المباراة، بل اخترق سحرها شاشات التلفزيون وعَبَر القارات والدول، وجمع العراقيون بأسرهم من مشجعي كرة القدم وغير متابعيها، في بوتقة وطنية، فمنتخبهم يضم مختلف الأطياف والمذاهب العراقية، وهو عراق مصغر، يريد الجميع الاعتزاز والافتخار به.
في السرّاء والضرّاء
نادراً ما يجتمع العراقيون على فكرة توحّد صفوفهم، وغالباً ما تصِم الانقسامات علاقات أبنائه، ولكن أحداث كأس الخليج العربي المقامة منذ 6 كانون الثاني/ يناير حتى الـ19 من الشهر ذاته، كانت من هذه النوادر، التي تأتي مرةً "كل كم سنة"، أو أكثر من "كم سنة".
آخر مرة اجتمع فيها الشعب رياضياً ووطنياً كانت في عام 2007، بعد أن حصل العراق على بطولة كأس آسيا لكرة القدم
خلال الدورة الرياضية، لم يعد للطائفة والقومية وجود، كما لم تعد تفرّقهم السياسة، فأتباع الإطار التنسيقي الحاكم جلسوا إلى جانب التيار الصدري المعارض لهم، وذهب السنّي برفقة الشيعي لحضور أو مشاهدة المباريات، وفرح الكردي بفوز الفريق الاتحادي، وهذا وضع غير معتاد في العراق.
قلما ترسخ مثل هذه المشاعر في العراق. آخر مرة اجتمع فيها الشعب رياضياً ووطنياً كانت في عام 2007، بعد أن حصل العراق على بطولة كأس آسيا لكرة القدم. حينها، نسي الناس عمليات القتل الممنهجة والتهجير الطائفي الذي كان سائداً.
البطولتان أتتا كحمامة سلام للناس، في وقت كانوا فيه أشد حاجةً إلى الفرحة، ولكن الوحدة لم تقتصر على السرّاء، وشملت الضرّاء أيضاً، إذ توحّد البلد في موقف وطني إبان حادثة جسر الأئمة، الفاصل بين مدينتي الأعظمية السُنّية والكاظمية الشيعية في عام 2005.
سقط العديد من الضحايا وقتها، بعد أن تدافع الزائرون لإحياء ذكرى استشهاد موسى الكاظم، في نهر دجلة بين المدينتين. هبّ أهالي الأعظمية فوراً لإنقاذهم، كما هبّت بقية مناطق بغداد وقتها.
وفي حادثة مشابهة، على إثر التفجيرات التي شهدتها بغداد في عام 2009، شارك الكثير من الناس فرق الإنقاذ في البحث عن الضحايا، وكذلك بالنسبة للموقف العراقي في أثناء تفجيرات الكرادة عام 2016، وفرحهم بانتهاء عمليات تحرير المحافظات المحتلة من تنظيم داعش في عام 2017، ولكن لطالما وُصفت هذه المشاعر بالوقتية، وسرعان ما عاد الشعب إلى انقساماته المعتادة.
وحدة مؤقتة وانقسام دائم
فهْم أسباب الانقسام يستوجب العودة إلى محددات الوحدة المؤقتة، بحسب الطبيب النفسي، عبد الأمير الربيعي، الذي يقول إن "مشاعر الوحدة التي اجتاحت العراقيين خلال هذه الفترة، وبالتزامن مع مباريات كأس الخليج، ترجع إلى حاجة الناس إلى الهرب من واقعهم المأساوي تحت غطاء النزعة الوطنية، ولكن بشكل غير إرادي".
توحدت غالبية الأطياف خلف شعارات وطنية ومنتخب وطني، ولكنها سرعان ما ستتفرق وتنقلب ضد بعضها البعض، لأن العراقيين بحاجة للتلاؤم مجدداً مع ولاءات محيطهم
ويصنّف في حديثه إلى رصيف22، هذه السلوكيات، كـ"تعبير عن عقلهم اللا واعي، الذي يرغب في تفريع الضغوط النفسية المتراكمة، فالعراق شهد خلال الفترة القصيرة الماضية اضطرابات كثيرةً سياسياً واقتصادياً، لذا عمد الناس وبشكل غير مقصود، إلى التعبير عن حاجتهم إلى التغيير، من خلال تناسيهم المشكلات السائدة والتركيز على النزعة الوطنية، مستغلين إقامة مباريات كأس الخليج على أرضهم".
ويضيف: "مثل هذه الحالة ظهرت كذلك في أثناء تظاهرات تشرين وعلى نطاق اجتماعي واسع، وتوحدت غالبية الأطياف تحت مفهوم وطني، ولكنها سرعان ما تفرقت وانقلبت ضد بعضها البعض، نتيجة الصراع السياسي بين زعماء وقادة هذه التوجهات السياسية، التي يواليها الناس ويتبعونها".
وبرأيه أيضاً، فإن "الضغوط النفسية، هي السبب الرئيسي في عودتهم إلى انقساماتهم، وحاجتهم إلى التلاؤم مرةً أخرى مع الولاءات المنتشرة داخل محيطهم"، ويدرج هذا الأمر كـ"نتاج طبيعي لانتشار عقلية القطيع داخل المجتمع العراقي، والذي يحاول إثبات وجوده من خلال الانسياق خلف الرأي السائد فيه، وغالباً ما يرجع سبب ذلك إلى ضعف قدرة الناس على الوصول إلى الحقائق، نتيجة غياب الأدوات أمامهم وأهمها على سبيل المثال وسائل الإعلام المحايدة".
إثارة الانقسام
يتفق مع هذا الاتجاه، الباحث في علم النفس في منظمة الهلال الأحمر، عمر الدليمي، ويرى أن "الإعلام هو من الأسباب الرئيسية في عودة العراقيين إلى انقساماتهم، إذ تعمد الوسائل الإعلامية إلى بث رسائل إيجابية خلال فترات معيّنة لأغراض تتماشى مع سياسة مموّليها".
ويلفت في حديثه لرصيف22، إلى أن "رسائلهم تبدو إيجابيةً وتدعو إلى الوحدة في أوقات معيّنة، مثل إحاطة كأس الخليج بأخبار إيجابية، ينساق خلفها المواطنون بصورة طبيعية بسبب كثافة رسائلها، فيما تُستبدل هذه الرسائل لاحقاً، بأخبار وتحليلات سياسية ذات نزعة انقسامية".
أثير خلاف يتعلق بتسمية الخليج العربي أو الفارسي، وذهب آخرون إلى تسميته بخليج البصرة أو خليج العراقي الفارسي
ويبرر رأيه، من خلال "مديح وسائل الإعلام عند انطلاق هذه المباريات، لذا تلقّف الشارع هذه الرسائل الإيجابية كتعبير عن رغبته في لفت الانتباه إلى بلده ومحاولته الخروج من العزلة التي يعيش فيها، ولكن هذه الرسائل انقلبت خلال الأسبوع الماضي إلى رسائل سلبية داخل العراق، ركزت على سوء التنظيم، وتالياً عاكست رسالتها الأولى، وتسببت في إرباك اجتماعي سلبي".
وتجمهر مواطنون في محيط ملعب جذع النخلة، منذ مساء 18 كانون الثاني/ يناير، لحضور المباراة الختامية بين العراق وعُمان، وتوفي مواطن، وأصيب آخرون بجروح متنوعة، نتيجةً للتدافع والاختناق.
وكان قد أثير خلاف يتعلق بتسمية الخليج العربي أو الفارسي، وذهب آخرون إلى تسميته بخليج البصرة أو خليج العراقي الفارسي، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل بسبب قوة رسائل الوحدة الموجهة إلى الشعب، والحماسة المصاحبة للكأس والتي تُعدّ سابقةً من خلال استضافة العراق لجيرانه من الدول العربية، للمرة الأولى، ورغبتهم في إكمال هذه التجربة.
تأثير سياسي
يلعب العامل السياسي دوراً بارزاً في عودة مشتتات الوحدة الوطنية، فحالما تنتهي عوامل الوحدة المؤقتة، سرعان ما يعود الشارع إلى انقسامه وهو انقسام مستند غالباً إلى التقاطعات السياسية، بحسب الباحثة الاجتماعية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، سجى خالد.
تقول لرصيف22، إنه "وبحسب الدلائل البحثية الحالية، فإن التدهور السياسي هو السبب الأبرز في تقلّب مواقف العراقيين، ليس من حيث تأثيراته على الواقعين الاجتماعي والاقتصادي فحسب، ولكن لما أدى إليه هذا التدهور من انسلاخ المواطنين عن هويتهم الوطنية، فالإنسان بطبعه مدفوع للولاء، وما أن يبتعد عن ولائه لوطنه حتى يبحث بشكل فطري عن ولاءات أخرى، تناسب المحيط الذي يعيش فيه، وغالباً ما تنبع هذه الولاءات من جذور دينية أو عرقية".
برأيها، الوحدة التي عاشها العراقيون خلال الفترة الماضية، ستنتهي في غضون أيام قليلة قادمة، نتيجةً لكل هذه المسببات، في حين ستبقى آثارها بشكل طبيعي في ذاكرتهم، فهم مجبولون على الوطنية بشكل عفوي، كذلك فإن هذا الواقع ليس مستجداً، و"يرجع إلى سنوات طويلة سابقة، تسبق تأسيس الدولة العراقية، حيث تسيطر الأزمات والخيبات السياسية على تاريخ هذه البلاد، وهو ما أنتج أجيالاً مُصمّمةً نفسياً على الازدواجية".
ازدواجية الشخصية
يُعّد عالم الاجتماع العراقي الشهير، علي الوردي، أبرز من تطرق إلى مسألة ازدواجية الشخصية العراقية، في كتابه "شخصية الفرد العراقي"، وهو عبارة عن محاضرة جامعية ألقاها في خمسينيات القرن الماضي، علّل فيها رأيه في ازدواجية الفرد العراقي، من خلال "وجود هيام بالمثل العليا، فهو بحاجة إلى إعلان ولائه لمثل أعلى، قد يكون شيخ العشيرة أو شخصيةً دينيةً، رغم تضارب المفهوم الاجتماعي للشخصيتين"، وهو بذلك يصف الشخصية العراقية بالحائرة أو المتقلبة.
يعيش العراقي عدة شخصيات في آن واحد، فيعتنق فكرة معيّنة بقوة وسرعان ما يغادرها وينساها حال إعجابه بفكرة أكثر ملاءمةً لبيئتهِ، ولكن آثار الفكرة السابقة تبقى داخله، فيضطرب في مواقفه الوطنية والانقسامية
ومثال على ذلك، يقول إن "المسلم العراقي من أشدّ الناس غضباً على من يفطر علناً وهو من أكثرهم إفطاراً، والعراقي أكثر من غيره هياماً بالمثل العليا ودعوةً لها، ولكنه في الوقت نفسه، من أكثر الناس انحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته، وهو أقل الناس تمسكاً بالدين، وأكثرهم انغماساً في النزاع بين المذاهب الدينية، فتراه ملحداً من ناحية وطائفياً من ناحية أخرى، وهو يلتهب حماسةً إذا انتقد غيره المبادئ السامية أو رعاية العدل والعفو والرحمة، ولكننا نراه من أسرع الناس إلى الاعتداء على غيره ضرباً".
ولكن الوردي يؤكد في الوقت ذاته، أن "ذلك لا يلصق صفة النفاق بالعراقي، ولكنه يعيش بالفعل عدة شخصيات في آن واحد، فيعتنق فكرة معيّنة بقوة وسرعان ما يغادرها وينساها حال إعجابه بفكرة أخرى، أكثر ملاءمةً لبيئتهِ بحسب اعتقاده، ولكن آثار الفكرة السابقة تبقى داخله، وتسبب هذا التضارب والتقلب في مواقفه سواء الوطنية أو الانقسامية".
ولكن هل من الممكن إزالة هذه التأثيرات؟ يعتقد الطبيب النفسي الربيعي، بـ"صعوبة مثل هذه الخطوات في الوقت الراهن، لا سيما أن تأثيرات اضطراب الهوية الوطنية والطائفية متأصل في النفسية العراقية، وهو بحاجة إلى سنوات طويلة من أجل إبعاده عن هذا التضارب، وتالياً عدم نقله إلى الأجيال القادمة".
ويؤكد أن العراق بحاجة ماسة إلى بلورة ثقافة جديدة عبر إجراء تغييرات في طبيعة المجتمع، وإثارة صحوة فكرية تبعده عن اللجوء إلى الولاءات من أجل الحفاظ على تماسك وحدته.
في المحصلة، فاز العراق بكأس الخليج العربي، واجتمع العراقيون على أرضية موحدة، وحالما تخفت الحماسة لهذا النصر الوطني، سيعودون إلى واقع بلادهم المزري، وتالياً إلى انقساماتهم بين الأطياف السياسية والأركان الدينية، بعيداً عن النزعة الوطنية الظرفية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع