كنت جالساً برفقة أصدقاء في أحد المقاهي، نشاهد مباراة في الدوري الإنكليزي، فلفتت انتباهنا مجموعة مراهقين يجلسون على طاولة قريبة منّا، ويتفاعلون مع المباراة بطريقة غريبة: كانوا ينقّلون أنظارهم بين شاشة التلفاز وبين هواتفهم النقالة، فترى أحدهم يفرح لأن الحكم احتسب خطأً غير مؤثّر في وسط الملعب، أو لأن تسديدة ما تحوّلت إلى ركلة ركنية.
سألنا الشاب الفرِح بلقطة غير ذات أهمية في المباراة عن سبب فرحه، فأخبرنا أن الركلة الركنية التي احتسبها الحكم هي السادسة، وهو بحاجة إلى ثلاث ركلات أخرى وبطاقتين صفراوين لكي "تربح ورقته".
المراهنات على نتائج المسابقات الرياضية ظاهرة قديمة جداً. لطالما ألهبت فكرة توقّع النتائج مخيلة الإنسان، وتطورت هذه الفكرة مع الوقت وتنوّعت أشكالها وصولاً إلى المراهنات عبر الإنترنت، والتي تتيح للمراهن مجموعة واسعة وغير محدودة من الخيارات، كما تتيح له الرهان في أي وقت تقريباً، بما يشبع نهمه للمراهنة، ويدفعه لإعادة الكرّة مرة بعد مرة، غالباً لتعويض خسائره وقليلاً لكسب المزيد من المال.
مراهنات في مقاهي لبنان
خلال السنوات الأخيرة، انتشرت عمليات المراهنة بشكل كبير في لبنان، خاصةً على مباريات كرة القدم الأوروبية. جمهور هذه المراهنات يتألف في العادة من مراهقين، وبالأخص من طلبة المدارس، دون أن يسلم منها كبار السن. وهي لا تنتشر فقط بين محبي كرة القدم ومتابعيها، بل بين أشخاص لا يتابعون اللعبة حتى. ومؤخراً، صارت تُلحظ في المقاهي فئة تشاهد كرة القدم فقط لأجل المراهنات.
مصطفى (18 عاماً)، طالب ثانوية عامة يُعتبر من المتمرسين في عالم المراهنات. بدأ بالمراهنة عبر الإنترنت منذ ثلاث سنوات، بناءً على نصيحة صديق له علّمه كيفية المراهنة، وكان يمني نفسه بالحصول على أموال طائلة بطريقة سهلة.
يروي مصطفى لرصيف22 أنه بدأ بالرهان على مباريات الدوريين الإنكليزي والإسباني، مستفيداً من معرفته المسبقة وثقافته الكروية، خاصةً أنه من مشجعي ريال مدريد وتشيلسي، ولديه إلمام كافٍ بالدوريين المذكورين.
ومع الوقت، تطور الأمر، يضيف مصطفى، حتى بات يراهن على مباريات كرة قدم من مختلف أنحاء العالم، وعلى كرة القدم النسائية، ومباريات الفئات العمرية. "عندما تبدأ بالأمر يصير من الصعب أن تتوقف عنه. في بعض الأيام لا تجد أمامك سوى مباريات في الدرجة الثانية للدوري الياباني، أو في كأس إفريقيا للسيدات دون 21 سنة. نشعر وكأن الرهانات تجري في دمنا"، يقول.
مروحة واسعة من الخيارات
هناك أنواع مختلفة من المراهنات، يشرح مصطفى. يمكن اختيار مجموعة من المباريات التي تُلعب في الوقت نفسه، كما هو الحال في دوري أبطال أوروبا، عندما تُلعب ست مباريات معاً، فيكون متاحاً للمراهن توقع نتائج المباريات الست (فوز، خسارة أو تعادل)، و"تكون عادة ليرتها مرتفعة"، بحسب تعبير مصطفى، قاصداً أن مَن يصيب سيجني أرباحاً كبيرة.
كما يمكن للمراهن اختيار مباراة واحدة أو اثنتين، ومحاولة توقّع مجموعة معيّنة من الأمور، كعدد الركلات الركنية، الأخطاء، البطاقات، عدد الأهداف وما إلى ذلك. هذا ما كان يفعله أعضاء المجموعة التي كانت في المقهى وتحدثنا عنها. ويُطلق على هذا النوع تسمية "كومبو".
ويمكن أيضاً للمراهن اختيار تفاصيل محددة، كأن يسجّل لاعب محدد هدفاً أو أكثر، أو أن يحتسب الحكم ركلة جزاء أو يطرد أحد اللاعبين، أو أن يتمّ تسجيل هدف من خارج منطقة الجزاء. ويسمّى هذا النوع "فريستايل". وفي كأس العالم الأخيرة أضيفت خاصية الرهان على إذا كان الحكم سيعود لمشاهدة الـ VAR في المباراة أم لا.
"عندما تبدأ بالأمر يصير من الصعب أن تتوقف عنه. في بعض الأيام لا تجد أمامك سوى مباريات في الدرجة الثانية للدوري الياباني... نشعر وكأن الرهانات تجري في دمنا"
ولدى المراهنين طرق خاصة ومختلفة لاختيار أوراقهم. فبعضهم يلجأ إلى الإحصاءات ونتائج الفرق في المباريات الأخيرة، فيما يكتفي آخرون بالحدس، ولا يخلو الأمر من المخاطرة واختيار نتائج غير متوقعة يكون حاصل الربح فيها أكبر. فكلما كانت النتيجة صعبة التحقق، كلما كانت العائدات على المراهنة عليها أعلى.
في الصورة رقم 1 أدناه، توقّع مراهن هوية الفائز في خمس مباريات كانت ستلعب في اليوم نفسه، وبحال تحقّق الأمر، سيحصل على أكثر من سبعة أضعاف ونصف ضعف ما دفعه. وطبعاً، دائماً يجب حسم نسبة الوكيل أو الوسيط، وتراوح بين 10 و15%.
كذلك، يمكن للمراهن أن يجني عشرة أضعاف ما دفعه (صورة 2) في حال أصاب خمسة توقّعات في المباراة نفسها، مثل أن يسجّل كلا الفريقين هدفاً واحداً على الأقل، وأن يشهر الحكم أكثر من ثلاث بطاقات صفراء...
أما في "الفريستايل" (صورة 3)، كان يمكن للمراهن على مباريات كأس العالم الأخيرة مثلاً توقّع أن يسجّل كلّ من اللاعب الأمريكي كريستيان بوليزيتش والإنكليزي ماركوس راشفورد في مباراتي منتخبي بلديهما ضد إيران وويلز خلال كأس العالم الأخيرة. وهذا ما قام به مراهن تحدث لرصيف22، وبالفعل سجّل اللاعبان واستعاد المراهن المبلغ الذي دفعه مضاعفاً 11 مرة.
وقد يلجأ بعض المراهنين إلى اختيار رهان سهل نسبياً كفوز فريق قوي في مباراته، وبطبيعة الحال يكون هامش الربح صغيراً. لذلك يغامر المراهن بمبلغ كبير. فمثلاً، توقّع أحدهم فوز تشيلسي على فولهام (صورة 4)، وهو أمر مرجح نظرياً، وراهن بخمسمئة ألف ليرة لبنانية طمعاً باستردادها مليون ليرة، لكن لسوء حظه خسر تشيلسي.
الانخراط في المراهنات يغيّر كل ديناميات متابعة مباريات كرة القدم. يشاهدها المراهنون بشكل مختلف عن عشاق الكرة التقليديين. فالمراهن يتخلّى مع الوقت عن التشجيع والانحياز لفرق معينة، ويصير كل تركيزه مع الورقة التي وضعها. بالنسبة إليه الهدف المسجّل هو مجرد هدف، سواء أتى من تسديدة رائعة أو من مراوغة من منتصف الملعب، أو دخل عن طريق الخطأ. كل ما يهمه هو تأثير هذا الهدف على ورقته.
ماذا يقول القانون؟
لا وجود لنصّ في القانون اللبناني يجرّم المراهنات بالاسم، حسبما يقول المحامي حسام الجواد لرصيف22، لكنها تقع تحت خانة ألعاب القمار التي يحدّدها القانون بعبارة "الألعاب التي يتسلّط فيها الحظ على المهارة والفطنة".
ويعاقب قانون العقوبات اللبناني كل مَن يقوم بإدارة وتنظيم هذه النشاطات بموجب المادة 633، بالسجن لفترة تتراوح بين ثلاثة أشهر وسنتين، وبغرامة مالية. كما يعاقب المشتركين باللعب بغرامة مالية، بموجب المادة 634.
يخبرنا وكيل مكتب المراهنات غير الشرعي أن نسبة الربح بين المراهنين لا تتجاوز الـ30% من مجموع ما يضعونه كرهانات، "في أسوأ الأحوال". وأسوأ الأحوال بالنسبة إليه هي أفضل الأحوال بالنسبة إلى المراهنين
وعن تقاعس السلطات عن ملاحقة هذه المكاتب التي من شأنها تدمير حياة بعض الشبّان، يقول المدير التنفيذي لمنظمة "سمكس" المتخصصة بالحقوق والحريات الرقمية محمد نجم إن السلطات لا تتحرك إلا في حال بلغتها شكوى من أحد ما عن وجود نشاطات مراهنة، فتوعز النيابة العامة إلى "أوجيرو" (الهيئة المشرفة على قطاع الاتصالات والإنترنت) بإغلاق التطبيق المستخدَم للمراهنة، "لكن هذه الأمور تأخذ الكثير من الوقت كما هي عادة كل شيء في لبنان، في الوقت الذي يكون المكتب قد قام بتغيير التطبيق وانتقل إلى تطبيق آخر وهكذا".
عمل شبه سرّي وأرباح طائلة
عن كيفية إتمام عملية المراهنات وطرق دفع الأموال للمكاتب غير القانونية والحصول على الأرباح في حال أصابت، تواصل رصيف22 مع شاب يعمل وكيلاً لأحد مكاتب المراهنات غير الشرعية الموجودة في بيروت.
يقول الشاب الذي طلب عدم الكشف عن اسمه خوفاً من الملاحقة القانونية، إنه يعمل وسيطاً بين مكتب المراهنات والمراهنين منذ سنتين، بعدما كان مراهناً مع المكتب لعدة سنوات، وإن العمولات التي يحصل عليها اليوم هي مصدر دخله الوحيد.
يقوم هذا الشاب بفتح حسابات للراغبين في المراهنة عبر أحد التطبيقات، بطريقة تشبه طريقة عمل بطاقات الهواتف المسبقة الدفع، إذ يشتري المراهن عدداً معيّناً من وحدات تسمى "تراي"، ويكون الحد الأدنى للرهان هو 10 تراي أو ما يعادل خمسين ألف ليرة لبنانية (حوالي دولار أمريكي واحد).
ينشط الشاب في أحد أقضية جنوب لبنان، ويتعامل حالياً مع أكثر من ثلاثين مراهناً، ويقوم بشحن حساباتهم، أو بسحب أرباحهم في حال طلبوا ذلك. والتواصل غالباً ما يتم عبر تطبيق واتساب.
هذا الشاب هو واحد مما يقارب 25 وكيلاً للمكتب نفسه، ينشطون على كافة الأراضي اللبنانية، يختارون المراهنين بعناية لكي يبقوا قدر الإمكان بعيدين عن الملاحقة، فيكوّنون شبكات منغلقة على نفسها. وبحال أراد مراهن جديد دخول هذا العالم، يقوم في العادة أحد المراهنين بتزكيته لدى الوكيل.
بعض الوكلاء يديرون أعمالهم من داخل مقاهٍ أو صالونات للحلاقة الرجالية ومحال الهواتف وغيرها، إذ يستخدمون هذه المحال كواجهة لعملهم السرّي، بينما يدير آخرون عملهم من منازلهم.
ومن غير المعروف عدد مكاتب المراهنات غير الشرعية في لبنان، ويتركّز معظمها في ضاحية بيروت الجنوبية، وينتشر وكلاؤها على كافة الأراضي اللبنانية، مع العلم أن بعض المقاهي لا تزال تنظّم مراهنات بشكل يدوي: يملأ المراهن ورقة لدى دخول المقهى يتوقع عبرها نتائج مباريات اليوم، وعند نهاية السهرة يحصل الفائزون وهم القلة على أموالهم، ويكون صاحب المقهى هو الرابح الأكبر.
وبالنسبة إلى طريقة عمل مكتب المراهنات، يشرح الشاب أن مواقع وتطبيقات المراهنات العالمية مثل Bet365 محجوبة عن لبنان، وفي البدء كان أصحاب المكاتب يلجأون إلى تقنية الـVPN للاحتيال على الحجب، أما اليوم فصارت هناك تطبيقات للمراهنة يتمّ إنشاؤها في لبنان، مثل yalla bet، و500 lira، وغيرها، وتستخدم هذه التطبيقات المحلية برامج عالمية تحدّد آلية ربح كل رهان، فيما يبقى للمكاتب في لبنان تحديد سعر التراي الواحدة، وهو سعر يتأثر بسعر صرف الدولار في السوق السوداء.
عمليات المراهنات تتم أحياناً في المقاهي، وفي وضح النهار وأمام الجميع، ومع ذلك لا تداهم السلطات المختصة هذه الأماكن
ولا يقتصر عمل هذه المكاتب على مباريات الرياضة، بل يتعداه إلى ألعاب البوكر والقمار، وتقوم هذه المكاتب، بحسب الشاب، بتغيير اسم وبيانات التطبيقات بشكل دوري خوفاً من الملاحقة القانونية.
مع نهاية كل شهر، يصفّي الوكيل حسابه مع المكتب الرئيسي. يوصل المال إليهم يدوياً ويبتعد عن استخدام شركات تحويل الأموال لعدم لفت النظر، خاصة وأن المبالغ تكون أحياناً كبيرة (أكثر من 100 مليون ليرة في بعض الأشهر)، وهي صافي ما خسره المراهنون الذين يراهنون عبره ناقص ما يقتطعه الوكيل لنفسه (30%). وهذه الـ30% تضاف إليها نسبة تتراوح بين 10 و15% مما يربحه المراهنون.
ويروي الشاب أنه عندما يكون العمل مزدهراً، كما كان الحال خلال المونديال، كان يجني أحياناً أكثر من 100 دولار في اليوم، وهو مبلغ يفوق الراتب الشهري لأستاذ ثانوي في لبنان.
ويخبرنا أن نسبة الربح بين المراهنين لا تتجاوز الـ30% من مجموع ما يضعونه كرهانات، "في أسوأ الأحوال". وأسوأ الأحوال بالنسبة إليه هي أفضل الأحوال بالنسبة إلى المراهنين. وعليه، يكون الربح المادي مضموناً لمكاتب المراهنات، حتى وإنْ أصاب المراهنون بعض "الورقات الكبيرة".
وهذا طبيعي. فالمراهنون يواجهون برامج ذكاء اصطناعي تعرف كل شيء عن اللاعبين والفرق والحكام وكل ما يتعلّق بالمباراة، وتقوم بتحديد حاصل فوز كل رهان، بشكل يضمن مصالح المكاتب ومواقع المراهنات بنسب عالية، وبالتالي يخسر معظم المراهنين أكثر مما يكسبون. وتبدأ الدوّامة: الخسارة كما الفوز يحفزّان المراهن على إعادة الكرّة، إما للانتقام وتعويض الخسارة، أو لمضاعفة الربح، ما يجعل الأمر أقرب إلى الإدمان، فلا يستطيع الداخلون إلى هذا العالم الإفلات منه بسهولة، فيما يكدّس أصحاب المكاتب الأرباح بلا حسيب أو رقيب.
على عينك يا تاجر
أحياناً، تكون العلاقة بين المراهن ومكتب المراهنات مباشرة. علي شاب يبلغ من العمر 34 عاماً ويراهن منذ أكثر من سبع سنوات. يمتلك حساباً يشغله مكتب للمراهنات (هو مقهى في الأساس) قريب من منزله في منطقة برج البراجنة، في ضواحي بيروت الجنوبية، ويذهب بنفسه إلى المكتب لوضع أموال في حسابه أو لسحب أرباحه، وبالتالي فإنه يوفّر على نفسه العمولة التي يأخذها الوكلاء من معظم المراهنين.
يروي علي أن العمليات تتم داخل مكتب المراهنات/ المقهى في وضح النهار وأمام الجميع، ومع ذلك لم تقم السلطات بأية مداهمة للمقر، ويحكي قصصاً عن شبّان يقرضون المراهنين المال لقاء فوائد عالية، ما يتيح لهم الاستمرار بالمراهنة، ويلجأ هؤلاء المقرضون إلى كل الطرق لاستعادة أموالهم بحال تأخر المراهن عن الدفع، من بينها العنف والتهديد والابتزاز.
يراهن علي بمبالغ كبيرة لا تقل عن 50 دولاراً للرهان الواحد. برأيه، "المراهنات ليست للجبناء". في الصيف الماضي، حقّق أكبر أرباحه عندما راهن بمبلغ كبير على فوز ريال مدريد بدوري أبطال أوروبا وروما بكأس المؤتمرات. فاز يومها بـ90 مليون ليرة.
مع الوقت بدأ يدرك أن احتمالات الخسارة تكون أكبر، ومع ذلك يستمر في المراهنة، "على أمل أن تصيب ورقة كبيرة تغيّر مسار حياتي"، حسبما يقول لرصيف22 مضيفاً: "الأمر أشبه ربما باللوتو، لكن هنا الخبرة و‘المعلمية’ تلعب دورها، وليس الحظ فقط".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع