أخبرني بدوي رافقني في مدينة دهب في جنوب سيناء أنه حاول التعلم في القاهرة رفقة صديقه لكنهما تراجعا بعدما لم يتمكنا من مجاراة الأمور هناك، ويقول إنه لم يفهم "كم" الأوراق التي اضطرا للتعامل معها أو "كم" الطوابير التي اضطرا للوقوف فيها، وفوق ذلك الزحام الشديد الذي لم يألفاه من قبل.
شعر البدوي هو وصديقه أنهما ليسا في حاجة إلى ذلك، وقال لي: "ماعندناش التعقيد بتاعكم اللي في القاهرة، الحياة هنا بسيطة: جبال ومياه وهواء"، ولكن المكونات التي رآها بسيطة بالنسبة إلي فعلت فيّ الأفاعيل، وتلك في أول رحلة سفر لي وإن كنت لم أتجاوز حدود مصر.
تهذبت طباعي، وفهمت أشياء عن نفسي، وعن المكان، ولم أتوقف عن المقارنات، خاصة فيما يخص تعاملات الحياة اليومية، والعلاقات، والمناخ.
مشهد 1: يد البائع الغليظة
في وسط القاهرة، وأمام أحد الأكشاك كنت أشتري السجائر، وبينما أخرج الأموال من جيبي، سقط بعضها على الأرض أمام الكشك، ولاحظ البائع ذلك بينما أحاول استعادتها. فأصر على أنها ملكه وأنها سقطت منه.
لم يستجب لطلبي بمراجعة الكاميرات. لم يتركني سوى أمام خيارين "أتشاجر معه أو أعطيه أموالي" وفضلت الاختيار الأول مُرغماً.
البائع يده سريعة جداً حين تأخذ منك الأموال، لكنها بطيئة حين ترد إليك الباقي.
داخل مدينة دهب، الأمن والشرطة موجودون في كل مكان حولك، وتراهم بوضوح ولكنك لا تشعر بوجودهم أبداً بهذا الإزعاج الذي اعتدنا عليه، باستثناء ضابط واحد قال لنا في الكمين الأول: "جايين تعملوا إيه في المدينة النجسة دي؟"
ليست بطيئة فحسب، ربما تصبح عنيفة أيضاً، مثل بائعة الخضروات في منطقة وسط البلد بالقاهرة، إذ رمت باقي الأموال في وجهي لتسقط على الأرض، بدلاً من أن تناولها لي في يدي كما يُفترض.
حين تحدثت إليها رافضاً رمقتني بنظرات استغراب.
تولد لدي حينها شعور عميق مفاده أنه لأمر خطير أن أمد يدي إلى أي بائع أو سائق لآخذ باقي الأموال. جعلني ذلك أحرص دوماً على أن يكون لدي ثمن ما أشتريه بالضبط، حتى لا أضطر للمطالبة ببقية أموالي كي لا يرمقني بنظرة مثل نظرة البائعة، ولا يحاول الاعتداء علي كما فعل بائع الكشك.
هنا في دهب، نسيت ولاعتي في أحد المطاعم ومشيت، وبعد وقت صادفني عامل من المطعم نفسه، كان يبحث عني ليرد إلي الولاعة التي نسيتها. كنت مذهولاً، وأول ما تبادر إلى ذهني، تلك البائعة التي رمت إلي باقي الأموال.
كان ذلك أول انطباع جيد يتركه أحدهم عندي.
كأن الناس يتحولون إلى سعداء ومحبين أمامي، مثل بائع الإلكترونيات الذي قصدته لأشتري سماعة لهاتفي، وأراد أن يرشدني إلى محل آخر قد تكون لديه بضاعة أفضل مما لديه.
تبدأ في الشعور بأن المكان نفسه يجبرك على أن تكون طبيعياً، رأيت ذلك حين أجبرت نفسي على تغيير سلوكيات بسيطة ربما اعتدت عليها في القاهرة، كأن اتطلع في وجوه الناس ببلاهة أو أن ألقي بسيجارتي على الأرض. وتبدأ في إدراك أن القاهرة حولتك إلى إنسان غير طبيعي.
مثل ذلك الشخص الذي صدمني بشدة في محطة المترو في السادات حتى كدت أن أسقط، ومضى دون أن يعتذر.
مشهد 2: الرومانسية والجنس
أتردد دوماً قبل التعرف إلى فتاة في مكان عام أو أحد الكافيهات. تمنعني أشياء أقلها خوفي من ردة الفعل التي ربما في أغلب الأحيان ستكون محملة بذكريات سيئة عن التحرش، مثل تلك الفتاة التي قالت لي بينما أحاول التعرف إليها "اتلم بدل ما المك". انتابني شعور عميق بالإهانة.
ولو تجاوزت ذلك، ربما تمنعني مشكلات أخرى لم تكن في الحسبان، كالعُقد التي تكونت لدي مثل تلك الفتاة التي وافقت على التعرف علي لكنني تراجعت في اللحظة الأخيرة، ولم أدر حينها لماذا تراجعت.
لم أجد أي صعوبة أو غرابة في أن أتقدم وأطلب التعرف إليها، وكانت مصرية، وأذهلني موافقتها، تحدثنا عن المراكب والنجوم، وأكلنا الآيس كريم، وافترقنا، واكتشفت أن هناك أشياء ألطف من الجنس
ولو تجاوزتها، ربما يمنعني البواب أو جاري، مثل صاحب العقار الذي كنت أسكن فيه، وقرر طردي والسطو على أشيائي واعتبارها من حقه "لأني بجيب بنات الشقة".
وقد يكون حظك سيئاً أكثر مثل الأغلبية، فيمنعنك "الفقر" من امتلاك مكان، وحينها قد يقودك الكبت للتفكير في أمور غير طبيعية، كأن تفكر في ممارسة الحب أعلى كوبري.
لم يحدث ذلك في محاولتي الأولى للتعرف على فتاة في دهب.
لم أجد أي صعوبة أو غرابة في أن أتقدم إليها وأطلب التعرف إليها، وكانت مصرية، وأذهلني موافقتها على التحدث إلي دون أي تردد أو ارتباك أو خوف.
تحدثنا عن المراكب التي أمامنا، وتحدثنا عن النجوم، ثم أكلنا الآيس كريم، وافترقنا في النهاية، ولا أعرف من هي، ولا هي تعرف من أنا.
ثم تبدأ في اكتشاف أن في العالم أشياء أكثر لطفاً من الجنس، وإن كان هناك جنس فلا حاجة إلى الاختباء.
مشهد 3: الشرطة والحواجز الأمنية
يحكي محمد، البدوي الأربعيني، الذي رافقني عن التشديدات الأمنية عبر الطريق إلى دهب، ويحمل رأياً مؤيداً لها، ويضيف: "ليس في الأمر ظلم للذين منعتهم الشرطة من الدخول وأجبرتهم على العودة، فلابد لهم أن يحافظوا على المكان هادئاً وخالياً من المشاكل".
ويدلل على ذلك بفتح شرم الشيخ أمام السياحة المحلية، وكيف تدهور وضع المدينة، التي تعتبر من أجمل المدن السياحية في مصر.
ربما في الأمر انتهاك لحرية التنقل، ففي النهاية نحن مصريون ومن حقنا ألا نسأل في الطريق عن وجهتنا وسببها كما لو كنا مسافرين لدولة أخرى، وربما تعقدت الأمور بين الناس في مصر، وبين الناس والأمن، فتداخلت المفاهيم، وتلخبطت المشاعر.
كأن الناس يتحولون إلى سعداء ومحبين أمامي
كنت أحد الذين منعتهم الشرطة من الدخول لأكثر من أربع ساعات في كمين شرطة مدينة دهب برفقة 13 آخرين، تذكرت أنه كان من بين الـ13 الذين منعتهم الشرطة من الدخول، اثنان لديهما أحكام جنائية مُسجلة.
استغرب أحدهم حينما سألته، هل أستطيع أن أترك متعلقاتي الشخصية على الشاطئ حتى أنتهي من الاستحمام في البحر، فأجابني بأن أتركها دون خوف، وتركتها وعدت لأجدها في مكانها دون عبث.
ولا خوف
الحضور الشرطي بصورته النمطية التي اعتادها كل من تعامل مع الشرطة في القاهرة، كان غائباً في دهب، وكانت تجربة "الاحتجاز"، أو البقاء لفترة في مركز شرطة الكمين، مسلية.
مثلاً، في الكمين الذي منعني من الدخول، كانت آراء القوة الأمنية منقسمة إلى نصفين حول السماح للمحتجزين باستخدام حمام الكمين أم لا، في النهاية أغلقوا الحمام، لكن أحد الرافضين لفكرة إغلاقه كان يأتي ويفتحه خلسة، ثم يأتي آخر من بعده ويغلقه خلسة، وآخر يفتحه وهكذا، طوال أربع ساعات.
كان صراعاً مسلياً، وأثار انتباهي أيضاً الضابط الذي رفض إغلاق الباب على الممنوعين من الدخول كونهم غير محتجزين قانوناً.
تسمع الجملة وتدرك أن هناك أمراً مختلفاً مع الشرطة هنا، وكأنهم من كوكب آخر، باستثناء الضابط الذي انفجر غاضباً، وقال لنا: "جايين تعملوا إيه في المدينة النجسة دي؟"
داخل المدينة، هم موجودون في كل مكان حولك، وتراهم بوضوح لكنك لا تشعر بوجودهم أبداً، بهذا الإزعاج الذي اعتدنا عليه.
والمثير أنني كنت قادراً على النظر في أعينهم دون خوف؛ في القاهرة لا يمكن أن تنظر في عين ضابط أو أمين شرطة، ستكون محل شبهة على الفور، وربما يتطور الأمر لاحتجازك "لإجراء تحريات عنك".
مثل ذلك الضابط الذي استوقفني في كمين بمنطقة البحوث بالقاهرة، لأنني تعمدت أن أطيل النظر في عينيه. هم يتطوعون لإخافتك دون سبب. تشعر بذلك حين تمر أمام كمين وتلاحظ الأسلحة وكأنها موجهة نحوك، وتتخيل كأنك في مدينة مُحتلة، وهؤلاء هم المحتلون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.