في بداية كتابه "المراقبة والمعاقبة" الصادر في عام 1975، يعرض علينا الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو مراحل تعذيب "دميان"، الشاب الذي حكم عليه بالسحل والتقطيع عقاباً له على قتل والده. من خلال عرض أحداث التعذيب ومراحله، يتبادر إلى أذهاننا على الفور سؤال شرعية هذه الأحكام والسيادة التي تخضع لها أجساد المحكوم عليهم، بما فيها العنف الذي يرسم شكل العقاب وغايته.
بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على صدور كتاب فوكو المذكور، يأتي فيلم المخرج الفرنسي ديفيد دوفرين Un pays qui se tient sage أو البلد المؤدب أو The Monopoly of Violence، طارحاً التساؤلات حول موضوع عنف السلطة. يصور الفيلم عبر كاميرا الهاتف المحمول، مشاهد من العنف الذي مارسته الشرطة على أصحاب السترات الصفراء خلال احتجاجاتهم، لتعيد إلينا مشروعية السؤال عن التكنولوجيا وأثرها في تحديد المصير أو تغيير الواقع.
ذات التساؤلات التي بدأت مع بداية الربيع العربي وانفجار الفيديوهات القصيرة التي كانت تحمل كل ما لا يمكن للوسائل المرئية الكلاسيكية أن تأتي به. من جانبٍ آخر، تطرح الفيديوهات، التي تشكل المادة الأساسية للفيلم، أسئلة كان قد ضمّنها كتاب فوكو المذكور آنفاً بين دفتيه، وبشكل أدق يمكن القول بأن الفيلم قد تطرق لذات الأسئلة التي تبناها فوكو، في مروره التاريخي على ممارسات وأدوار مجتمعية وسلطوية تركت أثارها على الجسد الإنساني.
كيف يصبح الجسد الإنساني ذاته، الذي تمارس السلطة على جسده كل أنواع العنف لتضبطه وتؤدبه وفق معاييرها، أداةً لاندلاع الثورة؟
الأمر الذي يدفعنا للتساؤل: "ألسنا اليوم في عصر دميان الذي مارست السلطة على جسده كل أنواع العنف في القرون الوسطى؟". هذا الجسد الذي يُعنف بغية أن يصبح منضبطاً وفق معايير الشرطة، ويُطبق عليه برنامجاً تأديباً من شأنه أن يُغير طبيعة ذلك الجسد ويحوله إلى أداة لاندلاع الثورة.
الدولة تحتكر العنف الجسدي
ينطلق الفيلم من تعريف الدولة عند المنظر الألماني ماكس فيبر، والذي يقول فيه: "الدولة هي الجهة التي تحتكر الحق المشروع بممارسة العنف". ليذهب بعدها الفيلم لمكان أبعد في تحليل هذه العبارة من قبل كتاب ومفكرين، عمال وربات بيوت، متضررين من عنف الشرطة، وذلك عبر تصوير تعليقاتهم كشهود على هذه الظاهرة، محاولين تفسير ممارسة عنف الشرطة على ضوء تعريف فيبر.
في واحد من التعريفات الواردة في الفيلم، تقول إحدى الشخصيات: "إننا نعيش فيما يشبه معركة اختلاف آراء"، وبالتالي هي رفض الخطابات المهيأة سابقاً من قبل السلطة فيما يتعلق بموضوع عنف الشرطة. يتابع المشاركون في الفيلم طرح الأسئلة حول العنف المشروع، ولماذا تحتكره الدولة، حتى تأخذ موضوعة العنف شكل لعنة غير إرادية تتمثل في الخضوع والطاعة، وبالتالي تتحول سلوكيات أفراد الشرطة من حماية الشعب إلى حماية الدولة.
هذه اللعنة التي تحلّ على مجتمعات المهمشين، وعلى وجه الخصوص في الضواحي الباريسية، لا تنفك الأفلام الروائية والوثائقية من التطرق إليها عبر تسليط الضوء على دراما حياة أهل الضواحي. هؤلاء البؤساء، كما يطلق عليهم المخرج الفرنسي الشاب لادج لي، في فيلمه Les Misérables البؤساء، حيث يعتمد ليس فقط على تسمية أهم أعمال الكاتب الفرنسي فكتور هوغو، واصفاً فقراء الشعب الفرنسي بالبؤس، إنما وعبر هذه التسمية يُحمّل الدولة ذنب بؤس الحياة في تلك الضواحي وذنب سكانها إذ أصبحوا ضحايا لعنف الشرطة، التي حولت بدورها مناطقهم السكنية إلى ملاعب عنف وتسلط.
يدور فيلم المخرج الفرنسي ديفيد دوفرين البلد المؤدب، حول عنف السلطة، ويصور عبر كاميرا الهاتف المحمول، مشاهد العنف الذي مارسته الشرطة على أصحاب السترات الصفراء خلال احتجاجاتهم، ليطرح تساؤلات عن أثر التكنولوجيا في تحديد المصير
يحلّ عنف الشرطة بكل ضراوة على ملامح وجه أحد المراهقين بعد إقباله على السرقة، فيحوله إلى قناع يغير هويته، ويجعل منه أسداً يخطط للثأر من معنفيه. تصر الشرطة على العنف كوسيلة لجعل الشعب منضبطاً يعيش في بلدٍ "مؤدب"، الأمر الذي يطرح اليوم العديد من الأسئلة على الأفراد والمؤسسات.
لماذا وصل المجتمع الفرنسي إلى كل هذا العنف؟ هل لأنه لم يكن مؤدباً أم أن قانوناً مفترضاً لحماية الأفراد بدأ بالتآكل، وصار من الضروري أن نعيد النظر فيه؟ هل يبدل هذا المجتمع بديهياته إثر انفجار العنف الذي يشهده؟ وماذا عن أسئلة الهوية التي تُطرح في أماكن غير متوقعة، كالشارع مثلاً، وعلى الأخص خلال المظاهرة؟ ما هي هوية المتمرد على السلطة والمعنف من قبلها في آن واحد؟ هل صار هناك هوية للفقير والمهمش والمرأة، وأخرى للأقوياء وأصحاب النفوذ والأغنياء؟
هل يغير التمرد هويتنا؟
تجيبنا الأفلام بالإيجاب عن هذه الأسئلة. فقد نرى بأن هوية الطفل الذي ينحدر من أصول إفريقية تتغير بحسب المركز والهامش الجغرافي بالنسبة لميتروبول مثل باريس. ففي واحد من مشاهد فيلم البؤساء يصور المخرج رحلة مجموعة من الشبان من الضاحية إلى قلب مدينة باريس، خلال مباراة نهائي كأس العالم في صيف عام 2018.
حيث نلاحظ ملامح هذه التغييرات الهوياتية بحسب تغير الأمكنة التي يتواجدون فيها: في وسط باريس نراهم سياحاً متجولين، في لحظات أخرى نجدهم قوميين يرددون النشيد الوطني الفرنسي مع المجاميع احتفالاً بالنصر، أمّا في أحيائهم، فنرى ثقل الهوية الهامشية واضطراب العلاقة مع المكان، بين مكان آمن وخطر في آنٍ معاً.
على ذات المنوال في فيلم البلد المؤدب، نلاحظ بأن تغييراً كبيراً طرأ على هوية المتمردين، حيث يجعل مخرج الفيلم من بعض ضحايا العنف مشاهدين ومعلقين على ما مروا به، واضعاً تجربتهم تحت الضوء. عند هذه النقطة بالضبط يمكننا ملاحظة هذا التغيير الذي خلقته ظروف القمع، فبعد الضرب حد العطب واستباحة الجسد ستتغير الطريقة التي ترى من خلالها تلك الضحية نفسها. هذا ما رأيناه على وجوه الشهود وما تضمنته عباراتهم التي كانت تظهر فقدان الأمل أمام كل العنف المنهال عليهم.
عدسة الكاميرا هي بانوبتيك الشعب
البانوبتيك الذي يأتي على ذكره فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة" هو التعبير الذي يصف به شكل أبنية السجن المؤلفة من أقسام والممتدة أفقياً، يتوسطها برج مراقبة أكثر ارتفاعاً، يسمح بمراقبة أكبر عدد من الناس. أمّا بانوبتيك الشعب اليوم فهو، وكما جاء به فيلم البؤساء، يقوم على وجود كاميرا درون تصور عناصر الشرطة وهي تضرب صبياً، عند هذه النقطة يتابع فيلم البلد المؤدب فرضيته التي تقوم على تصوير عنف الشرطة في الأماكن العامة وخلال المظاهرات. وبالتالي، خارج أسوار البانوبتيك الأسمنتي صار لدينا بانوبتيك تكنولوجي يرصد أكبر عدد من الأشخاص بأقل الإمكانيات.
في ظل كل هذه المراقبة يتبادر إلى الذهن تساؤل حول الطريق كمكان عام، ما هو الطريق بالنسبة للمتظاهر؟ مكان مراقب على الدوام ومسرح لتعذيب الجسد. لقد غير العنف حالة الطريق الذي صار محتلاً بكاميرات المراقبة التي حولته لمكانٍ خطير، أخضعت فيه أجساد المتظاهرين لبرنامج تأديبي عبر ممارسة عنف غير محسوس تسببه المراقبة الدائمة.
يظهر الطريق في الفيلم الفرنسي "البلد المؤدب"، كمسرح لتعذيب الجسد، هو مكان مراقب على الدوام بكاميرات المراقبة التي أخضعت أجساد المتظاهرين لعنف غير محسوس
إذن، استطاعت الدولة الحديثة التي تتمثل في فرنسا وفقاً للأمثلة المذكورة، أن تخلق مجموعة من الزنازين المفتوحة حول المركز، بغية إخضاع الأجساد لنظام منضبط. هذه الأجساد التي كانت ومازالت موضوعاً وهدفاً للسلطة، والتي بدورها قد حولتها إلى "أجساد طيعة"، حسب تعبير فوكو، خلال عرضه التاريخي لولادة فكرة السجن كمكان تأديبي.
لنرى استناداً على شرحه وإسقاطاً على الأفلام التي تحاول تسليط الضوء على عنف الشرطة، بأن معنى كلمة سجن قد خرجت من معناها الحرفي وما يحمله من مضامين حبس، داخل معتم، تعذيب، لتعكس أيضاً معاني مثل مكان متغير وخارجي، إلاّ أنه محصور بين المراقبة والمعاقبة، أيّ مكان هامشي أكثر من السابق، فيه أبواب تفتح على حدود أخرى، إلاّ أنها جميعها مراقبة بالكاميرات ومهددة بالعنف لكي تنضبط، وبالتالي تعيش الأجساد الطيعة في بانوبتيك البلد المؤدب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.