شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
القرد

القرد "إذا زاد به الشوق استمنى بيده"... مخطوطة يمنية بها العجب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الاثنين 6 فبراير 202310:21 ص

تتنوع كتب الرحلات بتنوع مؤلفيها وكُتّابها، وتختلف من حيث الإمتاع وغزارة الفائدة، فإن كان صاحب الرحلة متنوع المعارف، تأتي رحلته مميزة عن غيرها بما يسجله ويضمّنه إياها، وهذا النوع المميز ينطبق على يحيى بن مطهر ورحلته إلى بيت الله الحرام والمدينة النبوية.

قبل أكثر من ثلاثة قرون، ترك ابن مطهر مخطوطة تدون مشاهداته في رحلته، وكادت أن تندثر كغيرها من المخطوطات النادرة، لكن عام 2006، شهد إعادة إحياء لتلك المخطوطة، حين أصدرت دار "السويدي للنشر والتوزيع" الطبعة الأولى من كتاب "بلغة المرام في الرحلة إلى بيت الله الحرام وإلى المدينة المنورة"، مرفقة بتقديم وتحقيق لعبد الله محمد الحبشي، وحسني محمد ذياب، وذلك بعد عام واحد من حصول الكتاب على جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي.

يحيى بن مطهر... علّامة مدحه شيوخه

اسمه يحيى بن مطهر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين، حفيد القاسم بن محمد الحسني، اشتهر كمؤرخ وأديب من أهل صنعاء في اليمن. ولد عام 1190هـ/1776م، ونشأ في كنف والده وأخذ الفقه عن سعيد ابن إسماعيل الرَّشيدي، ودرس النحو وغيره من العلوم عن يد علي بن عبد الله الجلال، ومن أبرز شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم محمد بن علي الشوكاني.

يقول عنه شيخه محمد بن علي الشوكاني، في كتابه "نيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر": "له سماعات كثيرة وشغلة تامة بالعلم، وتقيد بالدَّليل ومحبّة للإنصاف، وهو على منهج سلفه في البعد عن أعمال الدَّولة والتكفّي بما تركوه له، وهو الكثير الطِّيب، وفيه علو همة ومكارم أخلاق".

إعادة إحياء مخطوطة يمنية نادرة عمرها أكثر من  ثلاثة قرون، تحتوي على مشاهدات يحيى بن مطهر في رحلته إلى بيت الله الحرام والمدينة النبوية... مخطوطة فيها العجب

اشتغل يحيى بن مطهر بالتدريس، وله عدة كتب منها "الروض الباسم في معرفة أولاد الإمام القاسم"، و"العطاء والمنن في التاريخ"، و"العنبر الهندي في سيرة المهدي"، و"شرح سنن النسائي"، وله نظم شعري جمعه في ديوان، وفقاً لما جاء في مقدمة الكتاب الذي بين أيدينا اليوم "بلغة المرام في الرحلة إلى بيت الله الحرام وإلى المدينة المنورة".

توفي يحيى بن مطهر بن إسماعيل عام 1852م عن عمر ناهز السادسة والسبعين عاماً، وفقاً لما أورده خير الدين الزركلي في "الأعلام".

مخطوطة نادرة في أدب الرحلة وقعت بين أيدينا

الكتاب الذي نشرته دار السويدي يضم بين صفحاته صوراً لمخطوطات يحيى بن مطهر، إذ تُعد من أندر ما ترك أهل اليمن، فكانت "بمثابة مسودة يكثر فيها الشطب والتصحيح، وكثرة التعليقات والإضافات على الهامش التي تربك الأصل، كما شابها كثرة الأخطاء اللغوية التي يستغرب أن تصدر من عالم مثل رحالتنا هذا واستخدامه للكثير من الألفاظ العامية في اللهجة اليمنية"، وفقاً لما جاء في مقدمة الكتاب.

وكشأن أغلب رحالة ذلك الزمان، تبدأ الرحلات بخروج لأداء فريضة الحج. إذ ذكر ابن مطهر في المقدمة أنه عزم عام 1211هـ للقيام بهذه الرحلة، قائلاً: "لما كان شهر شوال من شهور سنة إحدى عشر بعد اثني عشر مائة مع حصول عوائق متصلة وعلائق ليست بمنفصلة، صادف مهلة حققتها، وفرصة توهتمتها، هممت على العزم لأداء الحجة، وترددت في سلوك أية محجة عليها حجة، وقلت: سل سبيل الصواب يفيده الجواب، فإنما شفاء العي السؤال".

بعد الحيرة والتردد في أن يسلك أيَّ الطرق، برية أم بحرية، وأيهما أنسب، سأل الناس الممارسين لمثل هذه الأمور، واختار طريق البحر، وبعد العودة من رحلته تهيأ له أن يرصد ما عنَّ له فيها، مقتدياً بما فعله السابقون في الكتابة عن الرحلات.

القردة تستمني بيدها والخنازير للنصارى!

تتميز مخطوطات يحيى بن مطهر ـ رغم ما بها من أخطاء شكلية ـ بالدقة في تدوين مشاهداته، فقد وصف رحلته وصفاً جيداً ونقل لنا تفاصيلها من لحظة خروجه من مقر إقامته في صنعاء حتى وصوله إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومن ثم العودة.

نراه قد نقل إلينا صورة مُفصّلة عن مصاعب السفر في البرّ والبحر وما لاقاه من مشقة، خاصة في أثناء إبحاره في المركب، التي أعطانا بشأنها وصفاً دقيقاً، فيقول: "وقد عنّ لي تحقيق المراكب ونحوها لمن اشرأبّ إلى ذلك ممن لم يعرفها، فالصغار تسمى دوات، وطلائع، وغرابات، وبتائل، ودجيّات وطرادات، وشواعي، وسنابيق، وزعائم، وماشوتاه، ونمصات، على هذا الترتيب. أولها أكبرها وآخرها أصغرها".

حتى الحيوانات وجدت صداها في وصف ابن مطهر خلال رحلته، فيقول مثلاً: "أما الخنزير فيتخذه النصارى كثيراً لما فيه من قبول التأديب، حتى يمكن الانتفاع به، وهو من عجائب المخلوقات (...) وأما القرد ففيه من قبول التعلم ما لا يخفى، وكأنه معدّ للانتفاع به، وأنه أشبه بالإنسان في غالب حالاته، فإنه يضحك ويطرب ويقعي (...) وإذا سقط في الماء غرق كمن لا يُحسن السباحة، ويأخذ نفسه بالزواج والغيرة على الإناث وهما خصلتان من مفاخر الإنسان، وإذا زاد به الشوق استمنى بيده"!

ومن بين ملاحظاته أيضاً، رؤيته لأهل الغوص في البحار، فيقول عنهم: "ولشدة الغياصة وطولها، ترى أجسام أهل هذا الشأن في غاية البياض، وأنه ربما بقي أياماً ولا أرى له صحة؛ لأنه لا يستمسك اليوم الواحد على كظم نفسه والصبر عن الزاد والماء، ويلزم ترك الصلاة، فالله أعلم بالصحة".

أعجب ما رصد يحيى بن مطهر في رحلته هو وصفه لجدة وقت زيارتها، فيقول عنها: "هي محلة أخذت من كآبة الدنيا بأوفر نصيب، ولا أقدر أصف شيئاً مما هي مشتملة عليه. وعلى الجملة، فإن كانت النار في السماء فهي فوقها، أو في الأرض فهي تحتها"

لكن أعجب ما رصد يحيى بن مطهر في رحلته هو وصفه لجدة وقت زيارتها، فيقول عنها: "هي محلة أخذت من كآبة الدنيا بأوفر نصيب، ولا أقدر أصف شيئاً مما هي مشتملة عليه. وعلى الجملة، فإن كانت النار في السماء فهي فوقها، أو في الأرض فهي تحتها، مع أن عليها مخائل التأسيس والقوة والدور الشامخة، ودائرها (يقصد أسوارها) قد صار متهدماً".

عام صعب على مصر واليمن

لعل هذا الجزء في مخطوطة يحيى بن مطهر هو الأمتع من بين سطوره، ففيه يحكي عن أنه سمع أخباراً عن دخول الحملة الفرنسية لمصر، فيقول: "وفي هذا العام (يقصد 1212 هـ) بلغت أخبار من شأن الفرنج، ودخولهم مصر، والسبب قيل إنه حصل بينهم وبين متولي مصر من بني بويه (المماليك) مناوشة، وأنه أقدم إلى ابن بارتوه الفرنجي (نابليون)، وانتهب ما أجلب به من التجارة، وقيل إنه عن تسليط من السلطان لتمرد بني بويه عن طاعة أمره، هكذا بلغ ولم تتضح الحقيقة".

أما عن اليمن في هذا التوقيت، فحين عزم ابن مطهر على الخروج للحج، كان "أهل اليمن في أشدّ حال، وقد اجتمع عليهم مشقة العدم وارتفاع الأسعار ارتفاعاً مجاوزاً، بلغ القدح الحنطة خمسة قروش حجراً، والقدح الطعام أربعة قروش، وقد نضبت الآبار والغيول (الماء الجاري على وجه الأرض) وحصل موت كثير، وكثر موت الدراويش في الطرقات من الجوع، فربما رأى رجل رجلاً منهم فظن أنه قد مات، فإذا طعم لقيمات وسقي قليلاً من الماء فاق وأقام في الحال يمشي ويطلب الزيادة، نسأل الله السلام"، بحسب قوله.

للشعر مكان عند ابن مطهر

لا تخلو مخطوطات يحيى بن مطهر من أبيات شعرية مُرتجلة يُلقيها في كل حادثة تقابله، بدأها بهجره بلده وأهله، بقوله: "تعزمت حتى لا أراع من النوى/ وإن غاب إخوان عليّ كرامُ/ وقد جعلتْ نفسي على اليأس تنطوي/ وعيني على هجر الصديق تنامُ".

ويحكي عن أصدقاء له أصبحوا ولاة فتغيرت طبائعهم: "إن الولاية غيّرت إخوانَنا/ فلووا وجوههَمُ لنا وتبدّلوا/ فاصبرْ على قبحِ التغيّر منهُمُ/ واتركْ عتابَهُمُ إلى أن يعزلوا".

ويبدو أن اهتمام ابن مطهر بجعل ما يفعله ينتمي لأدب الرحلة لم يخطر بباله، فلم نجد حديثاً كثيراً عن أهمية الترحال والسفر وما فيهما من فوائد، ولكن على الرغم من تلك الندرة، نقف أمام هذين البيتين علّهما يفيان بالغرض: "من كان مشتاقاً لما يشتهي/ يرحلْ، ففي الرحلة قفوُ الأثرْ/يظفرْ بما يهواه في بيتِه/ فعند ربِّ البيت علمُ الخبرْ".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image