شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
التهاب عضو التذوّق الجمالي

التهاب عضو التذوّق الجمالي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 16 يناير 202312:42 م
يكتب الفيلسوف الفرنسي إيف ميشو (1944- الآن) عن الفن وعلم الجمال بصيغة الساخر تارة، والناقد القاسي تارةً أخرى، محاولاً الإجابة عن سؤال: لماذا وصل عالم الفن إلى شكله الحاليّ؟ هو سلعةُ، وغرض غالي الثمن، يعدنا بتجربة تتلاشى بمجرد أن نشيح بنظرنا عن اللوحة أو التمثال أو التجهيز، فـ"الفن" حالياً هدفه "التسلية" لا التجربة الجماليّة، كموزة تلصق على جدار، أو بُرقع عملاق يغطي قوس النصر في باريس لـ"يمتع" المارّة.
يرى ميشو أن ما وصل إليه الفن بالمعنى الجمالي والسوسيولوجيا حالياً إشكاليّ، فنحن أمام خط إنتاج، وتسويق، واستهلاك بهدف استعراض العمل الفنيّ لا اختباره؛ هو غرض قابل للتلاشي، وكأن "قدر كل ما هو صلب في الحياة الحديثة أن يذوب ويتحول إلى أثير".
لكننا في "أثير" ما بعد الحداثة، ضمن عالم شديد الاتصال وقائم على الاستعراض، عالم نسعى فيه لأن "نستمتع" بكلّ تجربة سواء كنا في المتحف، أو صالة الفندق أو عيادة طبيب الأسنان، فكل ما هو "جميل" في عالم الفن حالياً أثيري، قيمته آنية، شديدة التأثير، وأيضاً آنية التلاشي.
ثلاث قيم تحكم الفن المعاصر؛ الأولى ماديّة، أي بكم يمكن أن نبيع (ونعيد بيع) هذا العمل الفني؟ الثانية تسويقيّة، أي ما عدد الجمهور المتوقع حضوره حين نعرض هذا العمل الفني؟ والثالثة أخلاقيّة، ما هي القيم التي نحاول الترويج لها في هذا العمل الفني؟
الكتاب الأخير لميشو عن نهاية الفنّ يقرأ عالم الفنّ الحالي ضمن مصطلحين رئيسيين، الأول هو علم الجمال (Esthétique)، الذي لا يغوص ميشو  في تعريفه لأن الكتب النظرية استنزفته، لكنه يميل إلى المعنى الأصلي للكلمة، واستخدامها اليوناني، أي ما يكسبنا معرفة، وإن استطردنا يمكن القول حسب تعريف جوروجيو أغيمبين، هو المعرفة الحسيّة التي تنتج عن التجربة الفنيّة.

التهاب عضو التذوق

يمكن القول إن هناك عضواً حسيّاً للمعرفة الجمالية، نتذوق عبره و"نعرف". هذا العضو يتفعل حين يتحرك بين ثلاثة عناصر في العمل الفنيّ "الشكل، والشعور، والعقل"، وفي عالمنا المفرط في جماله الاصطناعي، هذا العضو مُنتبج (انتبج أي تورّم وامتلأ ماءً) يُحشى يومياً وكل ثانية بما هو مجمل واصطناعي، فيفقد القدرة على المعرفة.
هو أشبه بمدمن يبحث كل ثانية عما "يتذوقه" علّه يخفف ألم الالتهاب الجماليّ ويروّح عن نفسه، الشعور الذي نتوهم أنه يعتلينا كلما "شاهدنا" أكثر وكلما استهلكنا عاطفياً ما يدّعي أنه يسعى لخلق إحساس بـ"المتعة" و"الراحة" داخلنا، ليتحول المتحف أو المعرض (كحالة قصر طوكيو في باريس) إلى مساحة للاسترخاء، واستهلاك الألوان والأضواء التي تتساقط على الجدران، أشبه بمنتجع حسيّ-جمالي من أجل تخفيف ألم الرغبة بما هو "مُجمّل".

"انتبه، هنا الفنّ!"

يشير مصطلح "التجميل الفائق hyper esthétisation " الذي يوظفه ميشو إلى عمليات التجميل، لا تلك الطبية فحسب، بل أيضاً تلك التي تمس المكان، والعمل الفني، والشارع، والثياب، وغرفة الانتظار، ومحل الثياب، والمقهى، والسيّارة، فـكل شي يجب أن يكون "مُجملاً- Esthétisé ". هذا التجميل قياسي، مُصمم بدقة لجذب الانتباه الآني، والأهم يهدف للربح، فنحن أمام تجارة عالميّة، لا تساؤلات نقديّة.
يطرح ميشو مصطلحات أخرى لمحاولة فهم الظاهرة الفنيّة وفضاءاتها، هناك "المساحات الجمالية المحميّة- zone esthetique protégée" و "الفنّ المسلي Artertainment "، وطائفة الحساسين the cult of sensibilities ، وأيضاً الفن بهدف الـ"Fun"، ولا يقصد هنا المتعة أو التسلية، بل الترويح عن النفس. والأهم هو مصلح التجميل الفائق، أي مجموعة الجهود القياسية والتكنلوجيّة المبذولة لتجميل الأشياء وجعلها جذابة إلى حد يلغي عنها "المعرفة"، ما يجعل المتحف وعيادة طبيب الأسنان، والمقهى كلها متطابقة، كل شيء فيها "جميل" و"ممتع" وينقل إحساساً بـ"الراحة".
كل ما هو "جميل" في عالم الفن حالياً أثيري، قيمته آنية، شديدة التأثير، وأيضاً آنية التلاشي

لإيضاح المصطلحات السابقة، يكفي أن نتتبع مكان أي عمل فنيّ في لوفر أبو ظبي أو مركز بومبيدو في باريس، أو متحف الفن المعاصر في برلين، لنكتشف أن الأدلاء ذوو وجه مُجمّل طبياً، والجسد مجمّل، والشارع إلى المتحف مجمّل، وما حوله من دكاكين مُجمّلة، والأشجار على طرف الرصيف مجمّلة، والعمل الفني موضوع في مساحة مُجمّلة تخلق حساً بالراحة والمتعة.
كل المعارف التي تأتينا من رحلة البحث أو الزيارة تختزل برسالة واحدة، في هذا المكان، أي المتحف، بإمكانك أن تستمتع وأن تشعر بأنك أفضل، نحن أمام "إعلان" عملاق لا مساحة لنقل معرفة ما. وهنا الإشكالي، فالتجميل يطغى على معظم الفضاءات الفنيّة المعاصرة ، حتى صور الموتى والضحايا "مُجمّلة" تعرض في مساحات محمية جمالياً تصرخ بتصميمها وشكلها الخارجي "انتبه، هنا الفن!".

قيمة الفن المُجمّل

الفنّ المُجمّل في السياق الحالي هو ذاك الذي يولد شعوراً بـالرضا، والـFun، ويصلح لالتقاط سيلفي بجانبه، وإن لم يكن كذلك، فالفضاء الموضوع فيه مُجمّل، سواء كنا نتحدث عن تمثال لكلب جيف كونز في صالة انتظار فندق، أو أعمال بانكسي المسروقة من الجدران و المعروضة في صالة ما، أو صور جثث مترامية على الأرض إثر مذبحة في الشرق الأوسط. كل ما سبق معروض ومُجمّل بأسلوب الهدف منه خلق الشعور بالرضا لدى المُشاهد/ المستهلك.
يشير ميشو إلى ثلاث قيم تحكم الفن المعاصر؛ الأولى طبعاً ماديّة، أي بكم يمكن أن نبيع (ونعيد بيع) هذا العمل الفني؟ الثانية تسويقيّة، أي ما عدد الجمهور المتوقع حضوره حين نعرض هذا العمل الفني؟ والثالثة أخلاقيّة، ما هي القيم التي نحاول الترويج لها في هذا العمل الفني (نسويّة، هويات، مظلوميات تاريخية، ما بعد استعمار ...)؟. أما أسئلة الحرفة والقيمة الجمالية والإتقان فغير موجودة، ولا يوجد من يهتم بها، الهدف هو جذب الناس، ثم بيع الأعمال وإخفاؤها في أحد الأقبية للتهرب من الضرائب ثم بيعها بضعفَيْ الثمن لاحقاً.

طائفة الحساسين

يشير ميشو إلى طائفة الحساسين ويسخر منهم أحياناً، أولئك الذين يبحثون عن شعور بالراحة، المحميّون ضمن فقاعاتهم المجمّلة، مقلدو المشاهير، أو الواقعون في وهم وسائل التواصل الاجتماعيّ، مستهلكو الأزياء السريعة، المعتزون بهوياتهم، الباحثون عن "الشعور" الآني بالمتعة والراحة.
المفرط في حساسيته يرى نفسه جزءاً من المجمّل وامتداداً له، ولا يسأل عن العلاقة بينه وبين ما يراه، فكل شيء ممتع ومسلّ ما دام في مساحة محميّة جمالياً
هذه الطائفة يعجبها أي شيء مجمّل، هم مستهلكون من العيار الثقيل، يمتلكون رأياً بكل شيء ويفضلون و "ما يروّح عن أنفسهم"، هم الجمهور الذي يستهدفه التسويق، أولئك الذين تنطبق عليهم تقنيات الفن المُجمل، ذاك الذي يركز على الغرض لا التجربة، على الآني لا المستمر في الزمن، على الإحساس لا التفكير، على النتيجة النهائيّة المبهرة، لا العملية التي قد تكون آلة قد قامت بها.
يمكن اختزال كل هذه الفئة بمن يلتقطون صور السيلفي مع الغوريلا العملاق الذي نصبه ريتشارد أورلينسكي في الشانزيليه بجانب محل لويس فيتون، الذي للمصادفة لا يعتبر عملاً فنياً بل منتجاً "لوكس". هم أيضاً المتعاطفون بشدة مع الأعمال الفنية التي ينتجها الناجون من الحروب كونها "تروّح عنهم" وتخفف عنهم الذنب، باختصار، المفرط في حساسيته، يرى نفسه جزءاً من المجمّل وامتداداً له، ولا يسأل عن العلاقة بينه وبين ما يراه، فكل شيء ممتع ومسلّ، ما دام هو في مساحة محميّة جمالياً.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image