يأتي هذا التقرير كجزء من مشروع "مش عَ الهامش"،
والذي يسلط الضوء على الحقوق والحريات والصحّة الجنسيّة والإنجابيّة في لبنان.
"صارت الاحتياجات مختلفة. كنّا نعمل مع الأشخاص على برنامج لتأمين حياة ومستقبل. هلأ، عدنا للعمل على الاحتياجات الأساسية - تأمين أجرة السكن، توفير الأكل والشرب ومواد التنظيف. كتير ناس خسرت شغلا. كتير ناس صارت بلا مأوى ومهددة تصير بالشارع وكلنا نعرف حياة الشارع لوين بتوصل من ناحية الأمراض والمشاكل الاجتماعية والقانونية".
بهذه الكلمات اختصرت ناديا بدران، المديرة التنفيذية لـ"جمعية العناية الصحية للتنمية المجتمعية الشاملة (SiDC)" أثر التدهور الاقتصادي في لبنان على المتعايشين والمتعايشات مع فيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، قائلةً إن الأزمة الاقتصادية أعادت الجهود المبذولة في هذا المجال سنوات إلى الوراء ما يمكن اعتباره عودة إلى المربع صفر.
سجّل لبنان أول إصابة بالفيروس في العام 1984، وبعد خمس سنوات، أُنشىء برنامج مشترك بين وزارة الصحة العامة ومنظّمة الصحة العالمية أُطلق عليه "البرنامج الوطني لمكافحة السيدا (NAP)" إثر ارتفاع عدد الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية في البلاد.
منذ ذلك الحين، يحصل كل من تثبت إصابته بالفيروس على العلاج الدوري مجاناً من NAP مباشرةً أو من الجمعيات العاملة في هذا المجال، ومنها SiDC التي بدأت عملها على ملف HIV منذ تسعينيات القرن الماضي، وكانت في طليعة الجمعيات التي درّبها "البرنامج الوطني لمكافحة السيدا".
تقوم الجمعية بتوفير الدعم النفسي والاجتماعي والصحي والدوائي للمتعايشين والمتعايشات مع فيروس نقص المناعة في لبنان، ومساعدتهم/ ن لمواجهة أي تمييز بسبب إصابتهم/ ن بالفيروس، وتوعيتهم/ ن بشأن حالتهم/ ن الصحية ومستقبلهم/ ن.
"صارت الاحتياجات مختلفة… عدنا للعمل على الاحتياجات الأساسية"... الأزمة الاقتصادية في لبنان تُعيد المتعايشين والمتعايشات مع فيروس نقص المناعة البشرية إلى "المربع صفر"، وتخوّف من زيادة الإصابات
قلق من زيادة الحالات
وفق أحدث الأرقام الرسمية الصادرة عن NAP، بلغ العدد التراكمي للإصابات بالفيروس في لبنان، حتى 30 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2022، 3108 إصابات، بينها 181 إصابة خلال العام الفائت فقط، 92% منها من الذكور. راهناً، يتلقى 2122 شخصاً العلاج المجاني من NAP. وتعد العلاقات الجنسيّة غير المحميّة السبب الأبرز لانتقال عدوى الـHIV بنسبة 99.55%، وفق البرنامج الحكومي. علماً أن هذه التقديرات مرشحة للزيادة نظراً لعدم الالتزام بإجراءات الوقاية.
بالعودة إلى ناديا بدران من SiDC، فإنها تقول لرصيف22 إن أثر الأزمة الاقتصادية على المتعايشين والمتعايشات مع فيروس نقص المناعة في لبنان جاء على مستويين، الأول وهو التأثير الذي انطبع على الجميع من حيث غلاء الأسعار وصعوبة الحصول على وظيفة وعدم كفاية الأجور والرواتب إن وجدت، والثاني وهو الأثر المتعلق بزيادة خطر الإصابة بالفيروس.
تشرح: "لا أدري إذا كانت هناك دراسة في لبنان عن ارتباط الأزمات بالأمراض. لكن أستطيع القول إنه على المستوى العالمي، دائماً ما يُعرض الفقر والأزمات الاقتصادية الأشخاص للكثير من المخاطر، ومنها الإصابة بـHIV والعلاقات الجنسية غير المحمية واستخدام المخدرات أثناء العلاقات الجنسية".
وهي تنبّه إلى أن "80% من الأشخاص الذين "نتعامل معهم من الطبقة الفقيرة والطبقة المتوسطة التي باتت فقيرة أيضاً"، جازمةً بأن "الأمر الجيد هو أن العلاجات المجانية الخاصة بالمتعايشين والمتعايشات ‘لم تُقطع‘".
تضيف بدران أن نحو 40% من المتعايشين والمتعايشات مع HIV في لبنان من فئة الشباب وتحديداً أقل من 29 عاماً. وهو عمر، في رأيها، مرتبط بـ"السلوكيات الخطرة التي تعرض للإصابة بـHIV" مثل المخدرات والعلاقات الجنسية غير الآمنة.
الأمر نفسه تؤكده لرصيف22 فاطمة خليل مسؤولة الخدمات والتعليم بـ"مرسى" (Marsa) - مركز الصحة الجنسية، إحدى الجمعيات الناشطة في مجال رعاية المتعايشين والمتعايشات مع فيروس نقص المناعة البشرية في لبنان، إذ توضح أن "المتعايشين والمتعايشات مع HIV هم/ ن الأكثر معاناة للبطالة نظراً لوضعهم/ ن الصحي ولعدم إقبال أصحاب العمل على توظيفهم/ ن وهو ما زاد بفعل تدهور العملة اللبنانية والأزمة الاقتصادية إذ أُغلقت العديد من المشاريع وزاد عدد المتعطلين عن العمل".
وهي تشدد على أن الأثر الاقتصادي ترتب عليه انصراف العديد من المتعايشين والمتعايشات عن متابعة الفحوص الصحية بشكل منتظم في وقت تدهور فيه وضعهن النفسي بسبب الأوضاع المأزومة.
توفر "مرسى" بيئة آمنة لفحوصات HIV وإحالة من تثبت التقاطه العدوى منهم/ ن لأطباء موثوقين لديها لتلقي خدمة طبية خالية من الوصم والتمييز وبأسعار مخفضة. كما توفر الدعم النفسي والاجتماعي المجاني واستشارات التغذية الصحية للمتعايشين والمتعايشات.
وبسبب الأزمة الاقتصادية، تكافح الجمعية الآن لمواصلة تقديم خدماتها مجاناً أو بسعر مخفّض للأشخاص الذين يعانون وضعاً اقتصادياً هشّاً، وفق خليل التي تلفت إلى مغادرة العديد من الأطباء البلاد، ما دفعهم إلى البحث عن أطباء آخرين جديرين بالثقة وقادرين على تقديم خدمة آمنة وخالية من الوصم للمتعايشين والمتعايشات.
في غضون ذلك، تؤكد بدران أن الأزمة الاقتصادية أثرت أيضاً على عمل المؤسسات في لبنان بما فيها تلك المعنية بالمتعايشين والمتعايشات مع HIV. تقول: "أثر الوضع الاقتصادي الراهن في ‘الأهداف‘ التي نضعها في عملنا مع الأشخاص، وعلى الفحوص التي لا توفرها وزارة الصحة مجاناً". وكانت تقارير صحافية حديثة قد أشارت إلى انقطاع اختبار فحص المناعة السريع من الصيدليّات في لبنان.
لكن بدران تشدد على أن NAP يعد "نعمة" وأحد أفضل البرامج الصحية على مستوى لبنان إذ ما يزال يوفر فحص HIV مجاناً في العديد من المراكز والجمعيات ويمكن لأي شخص يشك بالتقاطه العدوى طلبه والحصول عليه مجاناً وبكل سرية أي بدون الكشف عن اسمه، والشروع في تلقي العلاج المجاني فور تأكد إصابته.
"الناس محبطون ومضغوطون طوال الوقت وبحاجة للترفيه عن أنفسهم. المجال الذي يمكنهم الترفيه عن أنفسهم به مجاناً هو الجنس. الأخطر أنهم يمارسون الجنس بدون وقاية لارتفاع أسعار الواقيات الذكرية والمزلقات أو حتى اختفائها من بعض الصيدليات، ما يعرض للإصابة بـHIV"
"فلّيت من ورا الأزمة"
ما تقوله بدران وخليل يؤكده إيلي بلان (36 عاماً)، وهو متعايش مع فيروس نقص المناعة البشرية، ومسؤول عن الحراك المجتمعي والشباب في المكتب الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة للإيدز.
يقول إيلي الذي اضطر إلى مغادرة لبنان إلى بلد عربي مجاور ليتسنى له الاستمرار في عمله الـ"أونلاين" في ظل انقطاعات الكهرباء المضنية وضعف خدمة الإنترنت في بلاده، لرصيف22: "فلّيت من ورا الأزمة بلبنان. مش مغترب بمحل كتير بعيد أولاً لأنه الجواز اللبناني ما بيسمح لنا بكتير فرص، وتا أقدر أروح تقريباً على لبنان كل 3 أشهر تا أشوف أهلي وآخد أدويتي ولأنه ما عندي إقامة هون".
مع ذلك، يعتبر إيلي نفسه "كتير محظوظ" ومن أقل المتعايشين تأثراً بالأزمة، لافتاً إلى أن آخرين كثراً يعانون حقاً لأجل تأمين الأموال اللازمة لبعض الفحوص الدورية التي ارتفع ثمن أحدها لأكثر من 80 دولاراً، بالإضافة إلى تكاليف التنقل والمواصلات. وهو حزين لأن بعض المتعايشين والمتعايشات لا يستطيعون تأمين "التغذية الصحيّة" الضرورية لتقوية أجسادهم تماماً كأهمية العلاج الذي يوفر لهم مجاناً.
ويردف: "مع الأزمة صار في تراجع لأولويات حقوقية مثل محاربة الوصم والتمييز ضد المتعايشين والمتعايشات مع الـHIV. صار أنو نأمن الأكل والدوا للأشخاص أبدى (أكثر أهمية) من أنو نأمن له الإشيا التانية"، مضيفاً أن الكوارث والأزمات على اختلافها عادةً ما تشهد تراجعاً للاهتمام بالحقوق التي يراها البعض ثانوية في مقابل الاحتياجات الأساسية.
وختم إيلي بالتأكيد على أن حالات الإصابة بفيروس نقص المناعة في لبنان تشهد زيادة لأن "الناس محبطون ومضغوطون طوال الوقت وبحاجة للترفيه عن أنفسهم. الشيء الذي يمكنهم الترفيه عن أنفسهم به مجاناً هو الجنس. الأخطر أنهم يمارسون الجنس بدون وقاية لارتفاع أسعار الواقيات الذكرية والمزلقات أو حتى اختفائها من بعض الصيدليات، ما يعرض للإصابة بـHIV والكثير من الأمراض المعدية".
في هذا الصدد، تلفت ناديا بدران إلى أن الواقيات الذكرية وغيرها من أدوات الوقاية انقطعت بعض الوقت من الصيدليات لكنها متوفرة وبالمجان لدى الجمعيات المعنية وبدعم من وزارة الصحة، ويبقى فقط التزام الأشخاص وطلبها لحماية أنفسهم والآخرين.
استدركت: "في ظل الأزمة، الواقيات الذكرية ما انقطعت… وزارة الصحة عطونا. الشباب ما عندن حجة لازم يبذلوا جهد تا يحموا حالهن".
الاستجابة المُثلى لتبعات الأزمة الاقتصادية على المتعايشين والمتعايشات مع HIV في لبنان تتطلب "برنامجاً متكاملاً يوفّر المتابعة الصحية والاجتماعية المنتظمة والشاملة والمجانية التي تؤمّن لهم/ ن العلاج والفحوص مع التوعية ضد الوصم والتمييز"
ما الذي يحتاجه المتعايشون والمتعايشات مع HIV في لبنان؟
الاستجابة المُثلى لتبعات الأزمة الاقتصادية على المتعايشين والمتعايشات مع فيروس نقص المناعة في لبنان تتطلب، وفق ناديا بدران، "برنامجاً متكاملاً يوفّر المتابعة الصحية والاجتماعية المنتظمة والشاملة والمجانية التي تؤمّن لهم/ ن العلاج والفحوصات جنباً إلى جنب مع التوعية ضد الوصم والتمييز اللذان قد يعرقلان ممارسة هؤلاء الأشخاص لحياتهن الاجتماعية والمهنية".
تؤكد بدران أن الحاجة ما زالت ملحة إلى توعية موجهة للشباب بالمدارس والجامعات حول السلوكيات الخطرة التي قد تؤدي للإصابة بـHIV، وكيفية التصرّف لدى الشك في الإصابة به حتى "دوغري يروحوا يطلبوا المساعدة، وهيدا الشي بده يخف الضرر ويساعدهم ما ينتشر الفيروس في جسمن، ويساعدهم يهتموا بصحتهم وما ينقلوا الفيروس لغيرن"، مردفةً بأن هذا يحمي من الأمراض المنقولة جنسياً وليس من فيروس نقص المناعة البشرية وحده.
من جهتها، تشدد فاطمة خليل على أنه هناك قانون في لبنان ينص على عدم التمييز أو الوصم لأي مريض من قبل مزودي الخدمة الصحية، لكن هذا لم يمنع تماماً التمييز أو انتهاك الخصوصية للمتعايشين والمتعايشات بشكل حاسم. "نحن بحاجة لقانون يحمي المتعايشين والمتعايشات من كافة أشكال الإقصاء والتمييز وخرق السريّة"، تضيف.
يُذكر أنه في نهاية شباط/ فبراير 2022، أُبرمت اتفاقية تعاون بين المنظمة الدولية للهجرة (IOM) ومنظمة الصحة العالمية (WHO) كـ"إطار عمل" للمنظمتين لمواصلة دعمهما للبرنامج الوطني اللبناني لمكافحة السيدا في إطار الاستجابة الأوسع للوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية (HIV) والسيطرة عليه في لبنان.
الهدف الرئيسي للاتفاقية هو توسيع نطاق وخدمات خطة العمل اللبنانية عبر 13 منظمة غير حكومية محلية متخصصة في تقديم المشورة والفحص الطوعيين وتوفير الأدوية والمستلزمات الاستهلاكية على نحو مستمر للتشخيص والعلاج حتى نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2024.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم