"المرأة العاملة خائنة"، و"المرأة كالسيارة العمومية"، و"لا يجوز للمرأة نشر صورها على مواقع التواصل"؛ العبارات السابقة هي جزء من بحث معمّق حول ظاهرة الفتاوى أو الأحكام الدينية الصادرة عن بعض رجال الدين، والمتعلقة بالحريات الدينية وقضايا المرأة بشكل خاص في لبنان.
ولطالما أثارت مثل هذه الفتاوى الجدل، وأحدث بعضها ضجةً لدى الرأي العام خلال السنوات الأخيرة، بين مستنكرٍ لتقييد حرية المرأة والتدخل في شؤونها من دون النظر إليها كقيمة وكفاعلة، وآخرين يرون أن هذه الأحكام تناسب بيئاتهم وأساليب حياتهم.
أحكام مسبقة
عام 2020، قال رجل الدين الشيعي عباس حطيط، إن "شواطئ وشوارع مدينة صور، جنوب لبنان، لا تختلف كثيراً عن شواطئ وشوارع أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل"، عازياً ذلك إلى ظهور فتيات بلباس البحر. وهو نفسه كان هاجم المرأة العاملة في عام 2016، ونعتها بـ"الخائنة"، وشبّهها بـ"سيارة عمومية"، لأنها "تحادث وتضحك وتختلي في العمل بالأجنبي، كما تفعل مع الزوج".
كما برزت في عام 2018، محاضرة لرجل الدين الشيعي السيد سامي خضرة، وفي مضمونها توبيخ للرجل الذي يسمح لابنته أو زوجته بنشر صورهما على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد وصف خضرة الرجل الذي يقبل بذلك بأنه "فاقد للشرف والكرامة"، علماً أن رجل الدين نفسه، كان قبل نحو سنة من ذلك، قد نصح المرأة بوضع صورة "شجرة"، بدلاً من صورتها، "لتفادي استغلال النفوس المريضة لصورتها"، على حد تعبيره، لتنهال التعليقات الساخرة منه وقتها.
نصح رجل دين المرأة بوضع صورة "شجرة"، بدلاً من صورتها، "لتفادي استغلال النفوس المريضة لصورتها"
أحكام لا فتاوى
يعرّف الخطيب في مساجد بيروت والباحث المتخصص في تنمية الفكر الإسلامي الشيخ بهاء الدين سلام، الفتوى الدينية بأنها "إظهار الحكم الشرعي بدليل قرآني أو نبوي في مسألة معيّنة أو في أمر جديد مستحدث، مع مراعاة الشروط المطلوبة للفتوى".
من جانبه، يشدد المفتي الجعفري ورجل الدين الشيعي الشيخ أحمد طالب، على "أهمية التفريق بين الفتوى الدينية التي تصدرها مرجعية فقهية دينية معتبرة، وهي غير قابلة للمعارضة إلا من خلال مرجع فقهي آخر، وبين الأحكام الدينية التي يطلقها بعض رجال الدين وتعبّر فقط عن رأي استنسابي أو وجهة نظر، بقصد التوجيه والنصح أو حتى طلب الشهرة، وفي هذه الحالة تكون معارضتها أمراً متاحاً من قبل أي رجل دين آخر".
يوضح طالب أن "الدين الاسلامي يتضمن تشريعات وقوانين وضوابط عامةً، وتمنح هذه التشريعات المرأة حريةً معتبرةً وكاملة الشروط والأركان، طالما أن الفعل الذي تقوم به لا يسبب فتنةً ولا يضعها في محل الخطر والوقوع في الحرام، ولا يعدّ منافياً للضوابط الأخلاقية أو يضعها في موضع تشويه الصورة والسمعة".
يقول طالب لرصيف22: "الجدلية تكمن في التطبيق وتفريع القوانين على أيدي رجال الدين أو المعنيين بتفسير الدين، والتي تختلف بحسب البيئة التي يعيشون فيها، باختلاف الزمان والمكان. فمثلاً، رجل الدين الذي يعيش في مدينة النجف يرى أن أي امرأة لا تلبس العباءة السوداء لا تحافظ على الضوابط الأخلاقية وتثير الفتنة وتستعرض زينتها، لأنها غير متقيدة بزي النجف الموحد. أما رجل الدين المستقر في أوروبا، فيرى أن حجاب المرأة من دون لبس العباءة لا يثير الفتنة". وبرأيه، فإن "الفتاة التي تمشي في شوارع أوروبا وهي تلبس العباءة السوداء تلفت النظر أكثر من تلك التي تلبس حجاباً عادياً".
عمل المرأة في الإسلام
بحسب طالب، "لا مشكلة في عمل المرأة والاختلاط مع الموظفين من الناحية الشرعية طالما لا يقتضي وجود خلوة".
بدوره، يدافع رئيس المحاكم الشرعية السنية في لبنان الشيخ محمد عساف، عن عمل المرأة بالقول إنه "لا يوجد ما يحرّم عمل المرأة في الإسلام في المطلق، ففي التاريخ الإسلامي، سواء في عهد الصحابة أو عهد النبي محمد كانت المرأة تخرج مع الجنود في الجيش وقت الحروب لمداواة المرضى، وكانت تختلط بحكم المهنة مع كثيرين"، مضيفاً: "كانت هناك العديد من الفقيهات في التاريخ الإسلامي، عدا عن أن فقهاء عديدين درسوا عند فقيهات، ومنهم الإمام الشافعي الذي درس الفقه عند السيدة نفيسة في مصر".
نساء يفتين
يطالب عساف، في حديثه إلى رصيف22، بأن تتضمن المؤسسات الدينية، ومنها دار الفتوى، نساء معنيات بإصدار فتاوى خاصة بالنساء، ويرى أن ذلك أمر محبّذ "لأن النساء يشعرن بالراحة أكثر حين يتحدثن عن أمور خصوصية لامرأة مثلهن وتمثلهن".
هناك علماء دين يقولون إنه يجب التفريق بين فتاوى المرجعية الدينية التي لا يُمكن معارضتها، وفتاوى رجال دين قد تُعبر عن رأي استنسابي أو حتى لطلب الشهرة!
من جهته، يلفت عضو المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز ومستشار شيخ عقل الطائفة الشيخ وسام سليقا، إلى وجود عدد "من السيدات الفاضلات داخل المجلس يقمن بأدوار جمة، ومنهن من تسلمت رئاسة لجان في المجلس".
ويضيف في حديثه إلى رصيف22، أنه "ثمة ضوابط محدودة لا يجوز تخطيها، كما ذكر الله عز وجل في الكتاب الكريم (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) و(وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)". ورداً على سؤال حول الضوابط الخاصة بالنساء في الدين الإسلامي، يجيب: "كل أمر أو فعل يُذهب العقل ويضرّ الجسد هو مخالف للدين والشرع، ووجب تجنّبه".
وينبّه إلى أنه لا تجوز مخاطبة الشباب، نساءً ورجالاً، بالحسم عبر "نعم" أو "لا"، بل "يجب أن تكون مخاطبةً علميةً مقرونةً بأسس وقواعد دينية كي نستطيع الارتقاء في مجتمعاتنا"، مشدداً على رفض "أي حكم عشوائي أو ظالم أو تعسفي يتعارض مع العناوين الأساسية، وهي المحبة والإيمان والعدالة والإنصاف".
حريات مشروطة
تطرح بعض الآراء جدليةً جديدةً عن الفتاوى الدينية من مراجع دينية كبرى، وليس رجال دين فقط، والتي قد تناقض مبدأ دعم الحريات من دون تجزئة، وتندرج في إطار تقييد حرية المرأة في المطلق. ومن الأمثلة على ذلك، أن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، واستناداً إلى مكتب المرجع الديني الأعلى علي السيستاني، يجيز عمل المرأة، إلا أنها موافقة مشروطة بالتقيّد بسلوكيات وتصرفات معينة داخل أسرة العمل ومع الموظفين، ومن إحدى التصرفات التي يعدّها المجلس خارجةً عن الحدود الشرعية خلال العمل، هي "المزاح والمفاكهة"، أي الحديث المصحوب بالمزاح والضحك مع غير المحارم.
ومثال آخر هو ما ذُكر على لسان الشيخ عساف، حول تبرّج المرأة، بقوله: "يصبح شكل بعضهن كالباربي وهذا محرّم طبعاً"، عادّاً أن "الماكياج بلا لون والقليل من الكحل غير محرم، طالما لا يلفت النظر ولا يثير الشبهات".
يجيز السيستاني عمل المرأة، إلا أنها موافقة مشروطة بالتقيّد بسلوكيات وتصرفات معينة داخل أسرة العمل ومع الموظفين
إساءة للمرأة والدين
إلى أي مدى تقوّض بعض الأحكام الدينية حرية المرأة الدينية؟ يشرح سلام أنه "منذ مئات السنوات هناك موروثات فكرية شعبية تحولت بفعل الزمن إلى ما يشبه الثوابت الدينية الأصيلة، ومشكلتنا أن موروثات الناس وتقاليدهم التي تخالف الدين أصبحت مقدَّمةً على أصول الدين، ولذلك نسمع ونرى مثل هذه الأحكام، سواء في مال المرأة أو تقرير حياتها المستقبلية أو عملها أو دراستها أو زواجها أو ما شابه".
ويضيف: "الفتاوى التي تصدر من قبل بعض الشيوخ حول المرأة تحتاج إلى تفصيل أكثر وإلى شرح أكثر، ولا يجوز إطلاقها كقاعدة عامة، إذ إن بعض الأحكام تنعكس سلباً على المرأة، وأيضاً على صورة الدين الإسلامي الحنيف".
ويشير سلام إلى أن "حرية المرأة في الإسلام مكفولة ومصانة ضمن الأسس الشرعية، ويُمنع لأي أحد أن يتعرض لها"، مضيفاً أن "الفتوى تختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف".
ويتفق المتخصص في علم الاجتماع الديني محمد ترحيني، مع سلام، على أن لهذه الأحكام تأثيراً سلبياً على المرأة والمجتمع في آن، "إذ إن بعض رجال الدين يفتون بأن خروج المرأة من البيت يحتاج إلى إذن من الرجل، مما يؤدي إلى مزيد من التشدد في المجتمع بشكل مطلق".
ويقول لرصيف22: "الأحكام الدينية من قبل رجال الدين هي عبارة عن دين موازٍ عن أصل الدين، وبنتيجته، تضخّم الدين الإسلامي"، داعياً إلى "الفصل بين الدين وبين فهم الدين، بحسب المراجع التي يتقيدون بها".
الحرية والمادة ٩
تشرح المحامية والخبيرة في القانون الدولي لحقوق الإنسان منار زعيتر، أنه "لا وجود لمؤسسة دينية تطلق فتاوى دينيةً في لبنان، وتالياً ليس لدى المؤسسات الدينية تأثير على المستوى القانوني، لكن في المقابل، هناك بين الحين والآخر آراء فقهية لمؤسسات دينية أو رجال دين تؤثر على سيرورة حياة النساء اليومية وحقوقهن وحريتهن".
تقدّم زعيتر في حديثها إلى رصيف22، عدداً من الأمثلة ومنها: "توقف تسجيل زيجات مدنية بسبب آراء دار الفتوى السنية، وعلى مستوى الطائفة الشيعية، يقف المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سداً منيعاً ضد تعديل قانون حضانة الأبناء، وفي طائفة الموحدين الدروز، شهدنا في عام 2016، رفض بعض مشايخ خلوات البياضة مشاركة المرأة في الانتخابات البلدية في حاصبيا".
بسبب حساسية المادة رقم 9، يحتَّم على مجلس النواب اللبناني الأخذ بآراء المؤسسات الدينية في كل تشريعاتهم، ومنها تلك التي تتعلق بالنساء وحرياتهن وحقوقهن، فكيف السبيل إلى مواجهتهم؟
برأيها، لهذه "الأحكام تأثير مجتمعي وسياسي قوي، فعلى صعيد المجتمع، تُعدّ المؤسسات الدينية مرجعيةً دينيةً لفئة كبيرة من المجتمع اللبناني، تتأثر وتستنير بآراء المرجعيات الدينية، لذا لدى تلك المؤسسات القدرة على التأثير على الدعم المجتمعي للنساء وحرياتهن من خلال مواقفها، وهذه الفئة لن تكون حاضنةً لأفكار تنويرية حديثة وتشريعات جديدة ومنها قوانين الأحوال الشخصية المدنية".
أما سياسياً، فتملك المؤسسات الدينية تأثيراً على مجلس النواب بموجب المادة التاسعة من الدستور اللبناني، والتي تنص على أن "حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام، وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية".
توضح زعيتر أنه "بسبب حساسية هذه المادة، يحتَّم على مجلس النواب الأخذ بآراء المؤسسات الدينية في كل تشريعاتهم وقوانينهم، ومنها تلك التي تتعلق بالنساء وحرياتهن وحقوقهن، والمشكلة تكمن في أن المجتمع المدني لم يستطع أن ينتج أدوات ثقافيةً ومجتمعيةً توازي الخطاب الديني، وإلى الآن ما زال عمله نخبوياً".
وتنفرد الفتاوى والأحكام المتنوعة بالدين الإسلامي لأن الآيات القرآنية لها وزن موسيقي وسجع، مما يحتم الاستعانة برجال دين لتفسيرها، مع الاستعانة أيضاً ببعض الروايات والأحاديث النبوية الشريفة التي تُبنى عليها بعض الأحكام الدينية، بينما الأحكام الدينية والأوامر في التوراة والإنجيل أكثر وضوحاً: "افعل هذا ولا تفعل هذا"، ولا تستدعي التفسير، بحسب ترحيني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...