في فيلمه " فورست غامب" كان الفنان الأمريكي توم هانكس بصدد تقديم واحد من أهم أعماله السينمائية الخاصة حين جسّد شخصية محب لرياضة الركض بشكل مرضي يصل الى درجة الهوس حتى أنه حين ماتت أمه انطلق في الجري إلى أن تجاوز حدود الولاية خلال أسبوع ثم حدود الكثير من الولايات المجاورة خلال الأشهر الموالية وقطع نصف القارة خلال ثلاث سنوات. وفي الأثناء شرع الناس يجرون وراءه معتقدين أنه يحمل رسالة اختلف على فك شفرتها قد تخص الدفاع عن الحق في بيئة سليمة في حين اعتقد الكثيرون أنها رسالة للسلام مناوئة للحروب. ورأى آخرون أنها دعاية لمنتج ما. بعض الشركات والعلامات التجارية نجحت في تحويل قصة الرجل الذي يجري الى منتجات وملصقات ذات مبيعات خيالية إذ كان عدد الذين يجرون خلفه دون أن يتوقف أو أن ينبس ببنت شفة يرتفع يوماً بعد آخر.
فجأة، بعد سنوات ودون سابق انذار توقف فورست غامب لتنحبس الأنفاس من خلفه منتظرين كلاماً أو موقفاً يدعم ما ذهبوا اليه قبل أن يسحب البساط من تحتهم بجملة " تعبت. أريد العودة الى البيت".
الآن وبعد سنوات طويلة من ظهور الفيلم (1994) كثيراً ما يلتبس علينا صوتا توم هانكس وأحمد زكي بتداخلهما خصوصاً حين يردد الثاني في فيلم "البيضة والحجر": إذا سقط منكم لهفوري فكلكم لهفوري " حيث صرنا نعمد كلما سقط منا فورست غامب الى صناعة آخر وآخرين حتى لا ينقطع حبل متعتنا بالركض وراء الراكضين بهدف أو بدونه. صوتان لا يكاد يفصلهما سوى صوت محمد عبد الوهاب المنبعث من اليوتيوب "إجري إجري وديني أوام وصلني".
من أين جاؤوا؟
كان من المفترض أن أعد هذا المقال وأن أرسله قبل أسبوعين تقريباً لكني تنبّهت متأخراً إلى أن موضوعاً مماثلاً يهم "المؤثرين" ليس بالبساطة التي كنت أعتقد خصوصاً أن كل قفزة كنت أقوم بها الى الوراء تاريخياً لفهم الظاهرة كانت تسقطني داخل مبحث جديد لم أنتبه له سابقاً لأنتهي إلى أن كل التاريخ البشري بني على وجود "المؤثرين" وتواصل الى اليوم.
مريم الدباغ
الأنبياء كانوا مؤثرين وغرابا "قابيل وهابيل" كما يصورهما الخيال الديني كانا مؤثرين، ومثلهم دياغو أرماندو مارادونا، نجوم السينما، الدعاة، أرنستو تشي غيفارا، مارلين مونرو، كريستيانو رونالدو، روكو سيفارادي رجل البورنو الأشهر، أوبرا وينفري، ليونيل ميسي، جوتنبرج، أينشتاين، نيوتن، محمد أبو تريكة، بوذا، يسوع، الدحيح، جورج بوش، الكتاب الأحمر، الكتاب الأخضر، فيروس كورونا، أحمد مساد، باسم يوسف، محمد البوعزيزي، ميا خليفة...
رحمة العريبي
كل هؤلاء وأكثر من ذلك في قائمة لا يمكن تحديد نهايتها هم في البداية والنهاية معا مؤثرون، كل في دائرة تقاطع الناس معه، لذلك حتى يكون الأمر قابلاً للتخصيص والحصر اخترت في النهاية الذهاب الى ارتباط مفهوم التأثير المرتبط أساساً بظهور الأنترنت وانتشاره وصولاً الى تحوله الى تفصيل حياتي يومي داخل حيواتنا ليكون الحديث مرتبطا بالمؤثرين الجدد.
زهير اليحياوي وبيرم التونسي وجهان لعملة واحدة
يحب عمنا أحمد فؤاد نجم الشاعر الكبير بيرم التونسي لذلك لم يكن من الغريب أن يخصه بأغنية أدّاها الشيخ امام عيسى وفيها اعتراف غير ضمني بفضل الرجل في تأسيس موجة شعرية في مصر تم استثمارها والمراكمة عليها على امتداد أجيال متلاحقة. يقول المقطع:
ياعيون الشعر يا تونسي
يابحور هايجين مايجين
ماشيين في طريقك دايما
وح نفضل كده ماشيين
ع الدرب اللي انت رسمتو
بالليل والناس نايمين
وان كنا نقول ونغير
وندور في المضامين
حيكون الفضل لبيرم
أسس واحنا الطالعين
الأنبياء كانوا مؤثرين وغرابا "قابيل وهابيل" كما يصورهما الخيال الديني كانا مؤثرين، ومثلهم دياغو أرماندو مارادونا، نجوم السينما، الدعاة، أرنستو تشي غيفارا، مارلين مونرو وميا خليفة
باستعمال عملة التأسيس ذاتها مع قلبها نحو الوجه الثاني تستقر صورة زهير اليحياوي الرجل المؤسس أيضاً ولكن هذه المرة في مجال ثان يتعلق بقصة النضال السبراني أو قصة الشهيد الأول للأنترنت في تونس. في سنة 2001 أطلق اليحياوي مدونة TUNeZINE التي لاقت رواجاً منقطعاً النظير لطرافة اللغة فيها ولعمق ما كانت تحمله من نقد سياسي ساخر ولجرأة الطرح فيها خصوصاً مع كونها المحمل الرقمي الأول في تونس الذي يمارس فعل المعارضة خارج الأطر التي تعوّد فيها النظام السياسي القائم حينها مواجهة خصومه ومعارضيه. أمر بلغ ذروته مع الاستفتاء الذي تم تنظيمه تمهيداً لولاية رابعة لبن علي في حين نشر اليحياوي استفتاءه الخاص ليسأل هل تونس جمهورية أم مملكة أم حديقة حيوانات أم سجن؟
عزيزوس
متأثراً بثمانية عشر شهراً من الاعتقال تخللتها ثلاثة إضرابات جوع توفي زهير اليحياوي بتاريخ 13 أذار/مارس 2005 بسبب صعوبات في التنفس قبل أن ينصفه التاريخ بعد أحداث كانون الأول/ديسمبر 2011 وقبل أن يشهد بأم عينه صعود ذلك المد الهائل من المدونين الذين ساهموا في اسقاط المنظومة وتعريتها مروراً بنفس الباب الذي كان قد سبقهم اليه: باب الانترنت.
عراة في منازل بلورية
نظيم شعراوي اسم قد لا يدغدغ في الذاكرة شيئاً اذا ما لم يذكر بجانبه أنه والد عادل إمام في مدرسة المشاغبين وللرجل علاوة على أعماله الكثيرة دور جد مهم في فيلم "النوم في العسل" حيث قام بتأدية دور وزير الصحة الذي ينصح مواطنيه المصابين بوباء غريب أفقدهم قدراتهم الجنسية بالوقوف ليلاً أمام المرآة وترديد جمل معيّنة مثل: أنا بنب .. أنا زي الحصان.. انا زي الحديد. هذا المشهد يمكن اعتباره مشهداً مؤسساً لقصة ظهور "التنمية البشرية" بعد ذلك بسنوات قليلة ليتطور نفس المشهد ليؤسس هذه المرة لظهور ظاهرة "التيك توك " أو محاكاة الأغاني باستعمال الشفاه والملامح.
يسر الزيادي
في أحد النزل بالعاصمة تونس وبعد درس طويل ومكلّف في أصول التنمية البشرية تخرج زرافات من السعداء المقتنعين جزافاً بأنهم الأسعد والأنجح والأمهر في كل شيء بعد أن نجح المدرب في إقناعهم بذلك لينفرد كثير منهم بهواتفهم الذكية محاولين اقناع متابعيهم بتحولهم الرسمي الى"مؤثرين".
"المؤثرون الجدد" في تونس كما في بقية البلدان التي تشبهها هم أبناء شرعيون لظاهرة أخرى هي "تلفزيونات الواقع" انطلاقاً من نسخها الغربية والفرنسية تحديداً، وصولاً الى النسخ العربية
قد تبدو المقاربة غريبة لكن مجرد التعمق فيها قليلا يتيح التكهن بأن "المؤثرين الجدد" في تونس كما في بقية البلدان التي تشبهها هم أبناء شرعيون لظاهرة أخرى هي "تلفزيونات الواقع" انطلاقاً من نسخها الغربية والفرنسية تحديداً وصولاً الى النسخ العربية. فهل كان المتابعون لهذه البرامج يتابعون حفلات البرايم والنتائج والأصوات أم كانوا يهتمون بتفاصيل الحياة الخاصة للمشاركين والتي كانت تعرض في كثير من النسخ أربعة وعشرين ساعة في اليوم دون انقطاع لتدخل أحياناً في كثير من التفاصيل الخاصة جداً.
لايدي سمارا
الحقيقة هو أن نسب المتابعة القصوى التي كانت تنشر تباعاً تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن متابعة الكواليس كانت تحظى بالنصيب الأهم. والأمر يعزى في الى تلك النزعة التي نحملها في جيناتنا الميالة الى حشر الأنف في تفاصيل بعضنا البعض وهي بضاعة نجح مؤسسو تلفزيونات الواقع في تسويقها تماماً كما عرف القائمون على منصات التواصل الاجتماعي التقاطها واستثمارها ليظهر لنا مصطلح آخر يسمى التريند أو الموضوع الأعلى بحثاً ومشاهدة.
مواصلة على نفس النهج يحرص "المؤثرون الجدد" في تونس على جعل حياتهم اليومية بأدق تفاصيلها متاحة للجميع كما لو كنا نعيش في بيوتهم أو كما لو كنا قطعة ملابس في خزاناتهم أو ملعقة في مطابخهم أو حتى سائلاً للاستحمام في حماماتهم. في الجهة الأخرى يحرص المتابعون على المواكبة الحينية ورفع عدد المتابعات التي تتحول في مرحلة متقدمة الى عنصر جذب للراغبين في استثمار ذلك بهدف التسويق لمنتجاتهم وسلعهم. في مرحلة أكثر تقدماً يحرص الفاعلون الإعلاميون على اقتناص هذه "العصافير النادرة" بتحويل وجهتها الى المنابر الإعلامية حتى أن الكثير منهم تسلل الى التمثيل والدراما التلفزيونية والسينما.
في تطبيع مع الرداءة وفي واحد من برامج التوك شو يجلس واحد من "المؤثرين الجدد" مستعرضاً بتباه قصة فشله في التحصيل العلمي والمعرفي والتي كانت سبباً في سعده، وفيما وصل اليه اليوم من نجاح بعد تفرغه وتركيزه التام على تقاسم الساعات التي يقضيها يومياً في ألعاب الفيديو إذ يعد اليوم قدوة ومثالاً لآلاف الشباب الناشئ.
يحرص قناصو الفرص في تونس على الاستثمار في مجال تحويل الحمقى الى مشاهير، وهو أمر لم يكن ليمر لولا تلك الأرضية الجاهزة التي تراكمت طبقاتها على امتداد سنوات طويلة باعتماد سياسة تصحير فكري وثقافي عام وشامل ومقيم.
في كل الحالات لا يمكن فصل ظاهرة المؤثرين الجدد في تونس وتمددهم في الفضاء السبراني عما يحصل خارج التغير العميق في المجتمع التونسي من استسهال لكل شيء تقريباً، فالوضع العام سياسياً وثقافياً واجتماعياً بات يتيح لكل شخص فرصة أن يرى نفسه في أي موقع وفي كل منصب وفي أي وظيفة إذ صار تحويل ربع دولار إلى أنترنت واستعمال هاتف شبه ذكي ممراً آمناً ليتحول مواطن محدود وشديد البساطة إلى مؤثر وصانع رأي وإلى بطل قومي في كثير من الحالات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...