شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الأمومة كدور اجتماعي تفرضه قوى الاستعباد

الأمومة كدور اجتماعي تفرضه قوى الاستعباد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 31 مايو 202111:59 ص

واحدة من الحقائق الثابتة بشكل مطلق في الوعي البشري هي مفهوم الأمومة. ولعل الحديث في هذا المفهوم قد يعدّه البعض أمراً بديهياً، ولا يحتاج إلى حوار حوله. لكن إذا ما أخذنا وقتاً لتأمل هذا المفهوم وارتباطاته التشعبية من علاقته مع مفاهيم مجردة كالحب، ومفاهيم مادية كالاغتصاب، وقياسه على عالم الكائن الحي الذي يشاركنا هذا الكوكب كالحيوانات، والرفض الثقافي الإنساني لهذه المقاربات من قبل البعض -لأننا نمتلك الوعي المتطور- فسيضعنا الوعي أمام تساؤلات أعمق، يالإضافة إلى أننا كبشر أنجزنا معرفياً عبر تاريخنا المفاهيم كلها التي تحدد مستقبلنا الخالد فلسفياً من المنظور الغيبي، وهو أن مفاهيمنا الحياتية عبارة عن عبور مؤقت وغير مهم. وعليه، تكون تلك المفاهيم التي نعايشها لا تحقق أي فعل سوى تجسيد هذا الوعي المستقبلي، فتصبح ممارسة مفاهيمنا الدنيوية ليست سوى تحصيل حاصل لتحقيق المأرب الغيبي للإنسان.

كل ذلك يضع مفهوم الأمومة بشكل خاص، ومفهوم الأبوّة أيضاً وإن بمستوى أقل -لأن المجتمعات ثقافياً تُنهي الأبوة كمعنى "علاقاتي" نتيجة القدرة الذكرية على الخلق الأبدي بالمعنى الفيزيائي- يضعها أمام تساؤلات عدة: هل يمكن عدّ الأمومة غريزة طبيعية كالجوع والعنف والجنس، أم هي عبارة عن أنساق تجريبية ثقافية مُفترضة نتيجة اتساع الرقعة المفهوماتية للمجتمعات؟

الإنجاب هو ضرورة للاستمرار، لكن الأمومة أو الأبوّة لا دخل لهما بالإنجاب كفكرة بيولوجية في الكائن الحي، إنها مفاهيم فلسفية اجتماعية

في واحدة من الحوادث الاجتماعية الشهيرة، سمع بعض الجيران صوت تحطيم أوانٍ من أحد المنازل، وصراخ امرأة تطلب النجدة. طبعاً أُبلغت الشرطة، وتجمهر الجيران، واقتحم الأمن المنزل. شاهدوا رجلاً يحاول تهدئة امرأة عجوز ترميه بكؤوس وصحون. اعتُقل الرجل واقتيد إلى فرع الشرطة. وبعد وقت، استطاع عن طريق أوراق رسمية، وعن طريق تعرف جيرانه إليه، أن يثبت أنه ابن تلك السيدة، وأن أمه مريضة "زهايمر"، وأنها لم تستطع التعرف إليه.

هذه الحادثة قد تبدو طبيعية بالنسبة لكثير من الناس. لكن هناك سؤال؛ أليس من المفترض أن العجوز التي تمتلك غريزة العنف والدفاع عن النفس، فهاجمت ابنها الذي لم تعرفه لتدافع عن نفسها ضد خطر خُيّل إليها، أن تمتلك بالمقياس الغريزي نفسه الشعور الأمومي في معرفة ابنها؟ لكنها ببساطة لم تستطع معرفة من يكون، وعدّته خطراً يحيق بفكرة وجودها الطبيعي... ما هذه الغريزية الانتقائية؟

طبعاً قد يخرج البعض الآن ليقول: "كما أشرت في مقالك إلى أن تصدي المرأة للخطر هو إحساس طبيعي بالبقاء، فإنجابها أيضاً إحساس طبيعي، وضرورة للاستمرار". بالتأكيد عزيزي القارئ الإنجاب هو ضرورة للاستمرار، لكن الأمومة أو الأبوّة لا دخل لهما بالإنجاب كفكرة بيولوجية في الكائن الحي، إنها مفاهيم فلسفية اجتماعية. فالقطط على سبيل المثال، تُنجب بالمعنى الاستمراري البيولوجي، لكنها تتخلى بكل سهولة عن وليدها إن كان لا يستطيع المنافسة للبقاء على قيد الحياة. والأمر نفسه يقاس على الصقور والنسور والفيلة والدببة والزرافات... الخ.

هذا الخلط الثقافي بين الإنجاب كحالة طبيعية لاستمرار الوجود، وبين الأمومة كمفهوم فلسفي مُرسّخ اجتماعياً من قِبل بعض المستفيدين لإعطاء أدوار محددة لكل كيان، هو ما يستدعي التمييز.

عزيزي القارئ، عندما تتآكل ذاكرتك يوماً ما، بإمكانك أن تشعر بالغضب والجوع والرغبة في الجنس والعنف، لكنك لن تتذكر منجزاتك الإنتاجية التناسلية، كالأبناء

تدعم الفلسفتان، اللاهوتية الغيبية والمادية العلمية، بمدارسهما وتوجهاتهما كافة -بغضّ النظر عن العدميين الذين أيضاً لا يرفضون غريزة الأمومة، لكنهم لا ينفذونها كسلوك اجتماعي- مفهوم الأمومة. بمعنى أن الجميع متفقون، مثل سائر البشر والمجتمعات، على أن الأمومة غريزة طبيعية. ويقدّم الغيبيون دليلهم الواضح قائلين إنها إرادة الله لبقاء النوع البشري، والمهمة الموكلة إلى الكائن الحي من أجل الاستمرار. ويقدّم العلمانيون، فلسفياً أو تطبيقياً، دلائلهم أيضاً، قائلين إن التكوين الفيزيائي للمرأة قائم على الشعور الطبيعي بالامتلاء.

الغيبيون والعلمانيون يختلفون في كل شيء، لكنهم يتفقون على نقطة واحدة تحمل كل مقومات الاختلاف الجوهري فلسفياً... يا سبحان الله! لماذا هذا التركيز المتشنج والداعم لفكرة الأمومة؟ ومن هو المستفيد فعلياً؟

لنشرح الأمر بطريقة أخرى، بيولوجياً، وكما تفترض القوة الطبيعية، الذكر قادر على الإنجاب وإعطاء الدورة الحياتية أسسها كلها لما يقارب قرناً كاملاً، بينما لا تمتلك المرأة سوى ربع قرن فقط. الذكر يمتلك قدرة التلقيح ثلاث مرات أو أكثر يومياً، بينما تمتلك المرأة هذه القدرة مرة واحدة شهرياً. وبتطبيق راديكالي للمثال، فإن نطاف رجل واحد يمكن توزيعها على مبايض نساء الأرض كلها.

يمكن أن يكون للرجل الكثير من الأطفال من دون جهد كبير، لكن ليس للمرأة سوى عدد قليل من الأطفال، وذلك بعد جهد ضخم. لذلك من الطبيعي أن تكون الإناث أكثر انتقائية، سواء على المستوى المادي بالنسبة إلى الشركاء، أو على المستوى المفهوماتي في أطروحاتها العاطفية حول الأمومة، عن طريق تركيزها المطلق على التناسل بطريقة الحب، وليس الجنس المجرد كما عند الكثير من الذكور. وهذا بالطبع ينقلنا إلى معضلة أخرى، وهي الاغتصاب كاستراتيجية "طبيعية" لدى الذكور لتحقيق النجاح الإنجابي، ورفض الإناث لها لأنهن باحثات عن إنجابية انتقائية وأكثر خصوصية، بمسمى أمومي.

الأمومة والأبوّة تراكم خبراتي وثقافي، ولا شأن له بالغريزة لا من قريب ولا من بعيد، وما عملية افتراضها كحقائق غريزية إلا لأن هناك أدواراً جندرية وبيولوجية اقتصادية تفترضها قوى الاستعباد على الوعي الإنساني

طبعاً كي لا يُفهم الأمر على أنه احتقار للمرأة، أو دفاع عما قيل عن طبيعية الاغتصاب لدى الذكور (وهذه الفكرة "استراتيجية الاغتصاب الطبيعية" تحتاج مقالاً خاصاً يمكن الكتابة عنه في وقت لاحق)، بل هي أمثلة لشرح الضرورة التي دفعت المرأة تاريخياً لخلق فكرة الحب، وإعطاء القداسة لفكرة الأمومة. إنها المنافسة الضرورية لإثبات الوجود على المستوى البيولوجي الطبيعي. فعندما يقال لك في الدين الإسلامي مثلاً أن تتزوج بأربع نساء، وما ملكت أيمانك، فهو من هذا المنطلق البيولوجي بين الذكرية شبه الأزلية التلقيحية، والأنثوية المرتكسة لضرورات الزمن الآني.

يجب التمييز بين الاستمرار بيولوجياً كفلسفة إنجابية، وبين الأمومة كمعنى ثقافي. من الصحيح أن المرأة في صراعها التاريخي الثقافي والاقتصادي والاجتماعي مع الطبقة الذكرية الجنسية التلقيحية، أنتجت مفاهيم خاصة بها كمفهوم الحب والأمومة -فالحب منجز فلسفي أنثوي بحت، لتحقيق عدالة اجتماعية، تضاهي الذكورية القائمة، كون الإنجاب مسألة اقتصادية بحتة تاريخياً، والأمومة منجز اختياري لتحقيق الانتقائية التناسلية- لكنها مفاهيم استطاع الذكر توليفها بما يخدم مصالحه التاريخية الثقافية والاقتصادية، واكتفت المرأة بهذين المنجزين كنوع من جدار حماية لنفسها وتاريخها ومستقبلها من ضربات التسلط الذكوري. ومع ذلك فإن جدار مفهومَي "الحب والأمومة" لم يصمد كثيراً، بل على العكس، تمت إضافتهما إلى لائحة ملحقات الاستبعاد السلطوي الأبوي على الأنثوية كدرجة ثانية، وعلى المجتمعات كدرجة أولى.

اليوم يكفي أن تقول إن الأمومة والأبوّة ليستا غريزة كي تقوم عليك الدنيا بأسرها، وتُدان أخلاقياً، على الرغم من أن أمثلة كامرأة "الزهايمر"، والإنتاج المفهوماتي التاريخي كـ"الحب" للمنافسة الاقتصادية، وطبيعية الاغتصاب كاستراتيجية ذكرية قائمة، تحتاج إلى إعادة تعريف. الجميع سيدينونك لتهديدك واحدة من أهم قوانين الاستعباد الطوعي الفكري للإنسان المعاصر.

ببساطة، ما الذي سيبقى من الخلود البشري -الذي هو قيمة الوجود أصلاً، بغض النظر عن خلودية الفلسفة اللاهوتية- إن اقتلعنا حقيقية أن ما نؤمن به، منجز أخلاقي وثقافي لاستمرارنا، لا البيولوجي فحسب، بل الفلسفي كمعنى أبدي. هو ليس أكثر من انطباع ثقافي يتراكم في الذاكرة، وترسّخه فلسفات لاحقة لإدراجها ضمن بنية سياسية وقوى اقتصادية تحدد أدواراً منهجية داخل الدائرة الإنتاجية من الاقتصاد المستمر.

عزيزي القارئ، عندما تتآكل ذاكرتك يوماً ما، بإمكانك أن تشعر بالغضب والجوع والرغبة في الجنس والعنف، لكنك لن تتذكر منجزاتك الإنتاجية التناسلية، كالأبناء. إنها انطباعات ثقافية ترسّخها المجتمعات وتؤكد على أنها مواضيع ثقافية تراكمية وليست غرائز. حتى في عالم الحيوان، نشاهد تفوّق مفاهيم القوة الاستمرارية للنوع؛ كالكائن الضعيف الذي يتم التخلي عنه من أجل آخر أكثر قوة وحضوراً، أو غريزة الجوع التي تزداد لدى أكلة اللحوم المستعدّين لقتل أطفالهم، وأكلهم من أجل البقاء. كما نشاهد الأسد الذي يقتل أشباله لأن لبوة رفضت ممارسة الجنس معه، فيقتلهم من أجل إعادة تلقيحها من جديد.

عندما يدافع حيوان عن صغيره، كمنهج طبيعي للبقاء، فهو يقوم بذلك لتوافر عدد من شروط الاستمرارية، لا العاطفية الأمومية، كالقوة والحضور والشجاعة والاصطياد والإنتاجية البيولوجية، لأن من لا تتوفر فيه تلك المقومات مصيره التخلي عنه.

إنها ببساطة استراتيجيات الطبيعة، والأنثى البشرية تمارس الاستراتيجيات هذه نفسها، لكن بطريقة أكثر وعياً. فمثلاً هي تنتقي الذكر لتحقيق أمومتها فلسفياً كمعنى ثانٍ، واستراتيجية إنجابية لاستمرارها بيولوجياً كمعنى أول، في صيغة أكثر تكاملية من مفهوماتية جنسية. إنها تعيد بناء واقعها المستقبلي وصياغته.

وبما أننا كبشر نمتلك الوعي والإدراك المعرفي، فبالتأكيد نحن أكثر ارتقاءً من عوالم الحيوانات، لأن ميزة الوعي هي قدرته على التجريبية. إننا تجريبيون، لكن هذا الرقي التجريبي نفسه يجعل الأمومة والأبوّة أكثر تمدناً. إلا أن الخلاف ليس حول تمدن هذا الشعور، بل حول تعريفه وإحالته -التابعة لمفاهيم مفروضة من فلسفات مطروحة واقعياً- إلى شيء غير حقيقي.

الأمومة والأبوّة تراكم خبراتي وثقافي، ولا شأن له بالغريزة لا من قريب ولا من بعيد، وما عملية افتراضها كحقائق غريزية إلا لأن هناك أدواراً جندرية وبيولوجية اقتصادية تفرضها قوى الاستعباد على الوعي الإنساني الواهم بحريته وإنجازاته. عزيزي الإنسان، عندما تقول لك وصايا المقدسات، غيبية كانت أم علمانية، إنك يجب أن تكون أباً أو أماً، فهذا لأنه لا يمكن النظر إليك إلا ضمن معايير الإنتاج. فعملية دفاعك عن هذه المفاهيم على أنها حقائق، لا تحقق سوى استعباد أعمق، واستلاب طيّع للذات البشرية، لعدم قدرتها على التمييز بين الطبيعة الأصيلة، وبين المفهوم الحضاري الاستعبادي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image