ظلّ الطعام أو للدقة "الطبيخ" متذيلاً قائمة الاهتمامات في سجل الثقافات العربية، كجنس ثقافي أقل قيمة بالمقارنة مع دواوين العرب التراثية والمحدثة، ربما لالتحاقه كإحدى المهمات الأساسية للمرأة، وكفعل لا يليق بالرجولة، ما يضع الطبيخ كمنتج ثقافي "محترم" في تصنيف مختلف. أو ربما بسبب تغلغل الطبيخ بالثقافة الشعبية البديهية لشعب مارس الطبخ (بمعناه الفني) منذ أقدم العصور، حتى تحولت الفكرة الثقافية عنه أو حوله إلى فكرة رعاعية ملتصقة بأمية الجدات، خصوصاً في مواجهة ثقافة الطعام المعولمة التي جعلت للمطابخ الشهيرة الفرنسي، الإيطالي وأخيراً الأمريكي مكانة مميزة في الثقافة العامة من ناحية تقليد الطبقة الأعلى القادرة على فهم وهضم هكذا مأكولات.
وبالتالي فإن استخدام هذه المطابخ حتى ولو عن طريق الوصفات التلفزيونية يعبر عن ارتقاء ما، لأنه يتناسب مع موجودات العصر، حيث يبدو مطبخ منطقتنا من هذه الناحية جديراً بالموات، نظراً للتقصير الشديد تجاهه، إن كان لجهة التفكير به كثقافة، أو كان لجهة تسويقه وتصديره للعالم.
هذه الجدارة بالموات نبهت جزئياً وبشكل بسيط إلى أن الطبيخ منتج ثقافي يتساوى أهمية مع المنتجات الأخرى. خصوصاً بعد أن تمت سرقة مأكولاتنا القومية ونسبها إلى الثقافة الإسرائيلية –على غرار سرقة الكثير من نتاجنا الثقافي- والتي تعمم في العالم كمأكولات إسرائيلية كالحمّص والتبولة والفتوش والفلافل والكبة... وغيرها، تستفيد منها استفادة اقتصادية قبل الاستفادة الثقافية وما يتبعها من إعلان وإعلام.
لماذا لا نشاهد مطاعماً آشورية أو سريانية؟
ربما حركت هذه السرقة بعض الأحاسيس وكثيراً من الإحباطات في مواجهة كيفية التصرف حيال سرقة موصوفة لشيء لم يكن منظوراً أو معتنى به، بحيث بدأ يأخذ أهميته من السرقة نفسها ليظهر موقفنا من الثقافة متأخراً بالتقاطع مع مستجدات الزمان ولتبدو أية محاولة لتأصيل هذا اللون الثقافي محاولة للعودة إلى الماضي وممارسة ثقافته، ما يضعنا في هذه المسألة بالذات خارج أسئلة العصر، فبين تطوير المطبخ وتصديره، وبين إعادة اكتشافه وتأصيله مسافة قرون طويلة من الزمن، من العبث استعادتها كممارسة ثقافية واقعية، ما يحقن ثقافتنا بجرعات إضافية من التظلم والشكوى، والنق والشعور بالهزيمة والارتباك.
يبدو أن الطعام ظلّ متذيلاً قائمة الاهتمامات الثقافية العربية كجنس ثقافي أقل بالمقارنة مع دواوين العرب التراثية والمحدثة، ربما لالتحاقه كإحدى المهمات الأساسية للمرأة، وكفعل لا يليق بالرجولة
ليس المقصود استعادة الثقافة التأسيسية لمطبخ المنطقة لكننا ومن خلال هذه الاستعادة يمكننا تجاوز النق حول استباحتنا وسهولة سرقتنا، فها هي مدننا تزخر بالمطاعم الفرنسية والإيطالية، كما تزخر بروادها المحليين والأجانب، ولكن المرء لا يلحظ وجود مطعم سرياني أو آشوري واحد مثلاً.
سلاماً يا فطيرة الجبن، سلاماً يا منقوشة الزعتر، لقد تفوقت عليكم البيتزا، لماذا؟ هذا السؤال وغيره الكثير يمكن أن يكون في معمعة العولمة الثقافية، ليس لشتمها أو مقاومتها بل للحصول على مكانة فيها.
الاستشراق في الطعام
لطالما نظر الأوربيون للشرق على أنه مكان الحياة المدهشة والخيال والأساطير الغريبة، وخصوصاً الفرنسيين والبريطانيين والألمان، الذين اهتموا بالمشرق اهتماماً استثنائياً ووصلوا إلى مكانة مرموقة بما يسمى الاستشراق، يقول إدوار سعيد في كتابه "الاستشراق تاريخياً وثقافياً": "ثمة فرق كمي كما أن ثمة فرقاً نوعياً يبعد الانشباك الفرنسي البريطاني، وانشباك أي دولة أوروبية أو أطلسية أخرى، حتى مرحلة الهيمنة الامريكية بعد الحرب العالمية الثانية. ومن ثم أن يتحدث المرء عن الاستشراق هو أن يتحدث رئيسياً وإن لم يكن حصرياً عن مشروع ثقافي بريطاني وفرنسي".
نعلم جميعاً أنه منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية كانت السيطرة على الشرق بريطانية وفرنسية، وبالتالي السيطرة على الاستشراق، أما بعد نهاية الحرب فقد انتقلت راية الاستشراق إلى الأيادي الأمريكية، ما أحدث تحولاً حقيقياً في الفعل الاستشراقي من حيث الطريقة والهدف والقصد والغاية منه.
وقد حظي المطبخ السوري بنصيب لا بأس به من اهتمام المستشرقين، فكانت أهم المنجزات في هذا الحقل بريطانية وفرنسية.
لم يكن "جان بوتيرو" أو "ديفيد وينز" بحّاثة مختصين بالمطبخ السوري القديم، لكنهم وبشكل استثنائي عن غيرهم من الباحثين استوعبا أن هذا المطبخ هو جزء من حضارة، وأنه مؤشر على رقيها وتطورها، بحيث تسنى لصنّاع هذه الحضارة أن يكون لديهم الوقت الكافي للتفنن بوصفات الطعام، وحتى تصنيع أوانٍ وأدوات متطورة لطبخ تلك الوصفات وإخراجها بالحلة الراقية التي تليق بالمتلقي والذواق.
استوعب بعض المستشرقين أن المطبخ السوري مؤشر على رقي الحضارة التي نشأت هنا، بحيث تسنى لأهلها أن يكون لديهم الوقت للتفنن بوصفات الطعام، وتصنيع أدوات متطورة لطهيه
على أن هذه المعالجة ستتناول فقط منجزات هذين الرجلين وجهودهما في الوصول إلى حقيقة تاريخية ناصعة عن أن مطبخ منطقتنا هو أقدم مطبخ في العالم، وهذا ما أثبته "بوتيرو"، أما "وينز" فقد اكتفى بالتحدث عن هذا المطبخ في عصره الذهبي، على ما يعتقد هو؛ وذلك في الحقبة العباسية، وكيف استفاد العباسيون من المطبخ البابلي والكنعاني، وطوروا الوصفات المطبخية التي وصلت إليهم من المطبخ البابلي أصلاً، ومن دمشق أيضاً.
المطبخ البابلي هو الأقدم في العالم
بالعودة إلى فترة زمنية طويلة كان يُعتقد أن المطبخ اليوناني هو أقدم مطبخ في العالم، وقد ساد هذا الاعتقاد بناءً على مراجع ومكتشفات يعود تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وذلك في الحقبة المواكبة لأفلاطون، حيث أن المؤرخ اليوناني "ميتكوس" قد تحدث عن بعض الوصفات المتوسطية، والتي غلب عليها الطابع البحري، لذلك ساد هذا الاعتقاد لفترة طويلة. إلا أنه والحديث لجان بوتيرو في كتابه "أقدم مطبخ في العالم" وبحكم المصادفة، تم العثور في أدراج جامعة "يال" الامريكية على مجموعة من رقم مسمارية مؤرخة حوالي 1620 سنة قبل الميلاد تحت اسم Babiloniancollection، وكانت هذه الرقم عبارة عن350 سطراً، معظمها مفهوم تماماً، وقليل منها غير مفهوم تتحدث عن وصفات مطبخية.
تزخر مدننا بالمطاعم الفرنسية والإيطالية، كما تزخر بروادها المحليين والأجانب، ولكن المرء يلحظ عدم وجود مطعم سرياني أو آشوري واحد.. سلاماً يا فطيرة الجبن، سلاماً يا منقوشة الزعتر، لقد تفوقت عليكم البيتزا
كان الظن في البداية أنها وصفات لأدوية طبية عشبية، وبعد التدقيق والترجمة تبين أنها وصفات طعام معدة بتقنية وحرفية عالية المستوى، وكان هذا الاكتشاف ما نقلنا من الاعتقاد بأن المطبخ اليوناني هو أقدم مطبخ في العالم إلى التمعن والتفكير بأن المطبخ البابلي هو أقدم مطبخ في العالم، وكان هذا الاكتشاف أيضاً هو المحرض الحقيقي لجان بوتيرو بتوجهه نحو مطبخ منطقتنا، ومن ثم البحث الجدي عن مراجع ورقم أخرى وترجمات كثيرة عن الكتابة المسمارية التي يوجه جان بوتيرو شكراً لمخترعيها، لأنه يعتبرها الوساطة التي بسببها عرفنا حتى فن صف الموائد عند البابليين القدماء. وقد فتح جان بوتيرو بذلك باباً مشرعاً يصعب جداً إغلاقه، لأنه لفت النظر إلى ثقافة الإطعام في كل منطقة بلاد الرافدين وبلاد الشام، من الممالك الكنعانية، إلى الآراميين والفينيقيين.
في مطبخ الخليفة
كل هذا الإرث أفضى إلى تراكم معرفي مطبخي، بني عليه لاحقاً إبان العصور التي ازدهرت فيها الحضارات التي تلاحقت على أرض بلاد الشام والرافدين.
وهنا يعطينا الباحث "ديفيد وينز" كتاباً شيقاً جميلاً أسماه "في مطبخ الخليفة" حيث يتحدث عن وصفات الطبخ في العصر العباسي، وكيف استفاد هذا المطبخ من جده البابلي من حيث المواد والأدوات والإضافات التي أغنت الوصفات نفسها، لأن بغداد كانت آنذاك مغناطيساً حقيقياً، وحاضرة جاذبة للعديد من الثقافات المجاورة لها.
يقول ديفيد وينز: "يدين المطبخ المنزلي في العصر العباسي في بغداد في تصميمه ونظامه إلى تأثيرات وادي الرافدين سابقاً، والتي بقيت مثالاً نابضاً بالحياة في دور بغداد الحديثة ذات الفناء المفتوح". كما يؤكد الباحث على انتقال الحالة المدنية في المطبخ إلى أبناء المدنيين، وعدم تأثيرها على الحالة البدوية الموسومة والموصوفة بالتنقل والترحال وعم الثبات، بخلاف الحالة المدنية، حيث يورد لنا مثالاً واضحاً عن طريقة طهي الخبز عند الرحّل، وعند المدنيين فيقول:
"لاحظ الرحالة السويسري بركهات أن عرب الجزيرة العربية كانوا في العام 1830 يتبعون الطريقة التالية في خبز الأرغفة: أولاً يتم تسخين حجر ذي سطح مستدير حيثما وجدت مضارب القبيلة، وبعد ذلك تنحى النار بعيداً ثم توضع العجينة التي صنعت من حبوب مطحونة طحناً خشناً على الحجر الموضوع على الرماد المتوهج حتى تتم عملية نضجه، ومن ثم ينتج عن ذلك رغيف مستدير قاس بعض الشيء بلا خميرة".
وبخلاف ذلك، كان التنور هو الجهاز المستخدم لتحضير الخبز والذي تعود أصوله إلى منطقة وادي الرافدين، والذي يمكن التحكم تماماً بناره من خلال فتحاته، وكانت ملحقاته الكثيرة دليلاً واضحاً على أن عملية الخبز في المدينة عملية أكثر تعقيداً من مثيلتها عند البدو الرحل. ونذكر من هذه الملحقات محراكاَ لإذكاء النار، ومنديلاً خاصاً لمسح الرطوبة، وصنارة لإخراج الخبز من التنور إذا سقط، ناهيك عن أدوات الخباز نفسها، من شوبك، وجفنة للعجن، ومحل لتنظيف الجفنة، ومحلب خشبي لحفظ الخميرة، وريش لترييش العجينة… إلخ.
بعد العثور على بعض الكتابات المسمارية القديمة، سحب المطبخ البابلي لقب "أقدم مطبخ في العالم" من المطبخ اليوناني
على كل حال سنعرج لاحقاً أيضاً على الوصفات الرائعة الموجودة في ذلك الكتاب، والتي ألف معظمها إبراهيم بن المهدي، المهدي الذي كان شقيقاً لهارون الرشيد. فقد عاش إبراهيم هذا بكنف عمه هارون الرشيد، وكان شاعراً ومولعاً بالطبيخ، لكنه عيّن والياً على دمشق، ثم عاد إلى بغداد وبحوزته الكثير من الطبخ الدمشقي، مما سنح له بتوليفة رائعة من الأطباق جمع فيها تراثه البابلي مع تراث بلاد الشام. فكان تزاوجاً رائعاً ببركة هذا الطاهي الرائع.
رغم القناعة بأن استباحة الشرق فكرياً كانت أحد أهم أهداف الاستشراق، كونه عرى الشرق أمام الغرب كفرصة أتاحت للساسة الغربيين إعادة إنتاج الشرق سياسياً أو اجتماعياً بالطريقة التي يرونها مناسبة. ولكنه أيضاً -أي الاستشراق- بهدفه الثقافي كان سبباً لمعرفة منجزات كثيرة.
ومن المؤسف أن نعرف ما عرفناه عن طريق الغرب، ولكننا عرفناه، ومن الواجب علينا أن نستخدمه ولو متأخرين. فهذا يضعنا وجهاً لوجه أمام جهلنا وعدم درايتنا بعظمة الحضارة التي حققها الأجداد، في حين أن الغرب، ومن خلال مستشرقيه المتعطشين لما أفرزته تلك الحضارة، قد سبر غورها وفك رموزها وحكاياها. وأما عن حالنا نحن فهي كما قال الشاعر:
كالعيس في الصحراء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمولُ
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون