يبدو أن قدر البطاطا - كما تسمى في بلاد الشام أو البطاطس كما تسمى في مصر- أن تبقى محاطة بالحروب، حروب اكتنفت سيرتها، وضجيج اشتعل على منعطفات تاريخية بشأنها، فثمة في سيرتها تلك، رحلات وتحولات ومناخات وقتلى ومهاجرون، وجدالات لا تريد أن تنتهي، لعلك تتخيل الآن أناساً يتهافتون على طبق بطاطا وأيادي ترتفع وتنزل، والحقيقة أن ذلك ما حدث ويحدث، وسيبقى يحدث، فما لم تحله القرون من مشكلات، يبقى عالقاً إلى الأبد.
تاريخ البطاطا في المشرق مسالم، وعلى الرغم من انتشارها فلا يمكن القول إن تاريخها في المنطقة تطوّر ليجعلها طبقاً عربياً رئيسياً، فهي إما للحشو، أو لتضاف إلى المقلوبة -رغم القول بأنها بدعة في هذه الطبخة-، أو مفركة مع البيض أو اللحم، أما في الغرب فالحال مختلف تماماً
مشروع عراك تحول إلى منجز تاريخي
عام 1853 دخل زبون نزق إلى أحد مطاعم مدينة ساراغوتا سبرينغز في نيويورك، وطلب صحن بطاطا مقلية، وكان جورج كروم النادلَ المناوبَ والطباخَ أيضا، وحين وضع الصحن على الطاولة، دفعه الزبون إليه محتجاً لأن البطاطا لم تكن مقرمشة بما يكفي مزاجه، فاستشاط كروم غضباً، وأعاد صناعة الطبق، فلم يرق الزبون مرة أخرى، وفي لحظة صعد الدم فيها إلى رأس كروم، حاول أن ينتقم من الزبون، فقطّع البطاطا إلى شرائح دقيقة، ورماها في الزيت، فكاد الزبون يغيب عن الوعي لشدة ما استهوته تلك الرقائق، لم يعرف أحد اسم هذا الزبون، ولم يعرف جورج كروم أنه في غمرة العراك الخفي مع زبونه، قد اخترع "الشيبس".
البطاطا والسياسة.. من الجوع إلى الاستقلال
عام 1845 اندلعت مجاعة في أيرلندا، سبّبتها آفة فطرية تسمى "اللفحة المتأخرة" أو "فيتوفثورا إنفستنس"، أتلفت ثلث محصول البطاطا في العام ذاك، وتسربت رياح اللفحة تلك إلى مسام السنة التالية، فأتلفت 90% من المحصول، وواصلت جريمتها حتى عام 1847، العام الذي يسمى حتى الآن "47 الأسود"، حتى اضطر الأيرلنديون إلى أكل البذور دون زراعتها.
تاريخ البطاطا في المشرق مسالم، وعلى الرغم من انتشار زراعتها فلا يمكن القول إن تاريخها في المنطقة تطوّر ليجعلها طبقاً عربياً رئيسياً
في المحصلة، أودت هذه المجاعة بحياة مليون شخص، وتسببت في هجرة مليون آخرين، ممن استطاعوا الوصول إلى الولايات المتحدة، وكانت البطاطا بين القتلى والقتلة في آن.
كانت أيرلندا في ذلك الزمن مقسومة إلى طبقتين، الإقطاعيين والمزارعين، أما الإقطاعيون فكانوا يعيشون في إنجلترا، بعد أن حولوا أيرلندا إلى مزرعة كبيرة، يقوم عليها الفلاحون الفقراء، هؤلاء الفلاحون توافقوا شيئا فشيئا على زراعة البطاطا دون غيرها، لأنها الأقل كلفة والأكثر ربحا، وهو ما يحتاجونه ليتمكنوا من سداد أجرة الأراضي المرتفعة، لأصحابها السائحين في ضباب لندن وقصورها.
في الكارثة تلك، التي سُمّيت "الجوع العظيم" أو "المجاعة الكبرى"، لم يجد الأيرلنديون ما يأكلونه، إذ فقد أكثر من نصف المحصول، وسافر النصف الآخر بصناديق إلى إنجلترا، التي تخلت بدورها عن أيرلندا، ففقدت الأخيرة ربع سكانها.
في العام 1847 أو "الجوع العظيم"، لم يجد الأيرلنديون ما يأكلونه بسبب آفة فطرية أصابت البطاطا، إذ فُقد أكثر من نصف المحصول، وسافر النصف الآخر بصناديق إلى إنجلترا
صحيح أن حملات لجمع التبرعات طافت العالم، إلا أنها لم تجمع ما يكفي لإنقاذ الأرواح، وفي غياب دور الدولة، نشأ تصور لدى الأيرلنديين بأن لندن تريد أن تقتلهم عمدا، تخيّل أن تقتل شعباً بحرمانه من البطاطا! هذا هو جبروت النبتة التي تختبئ في الأرض.
عندما سمع السلطان العثماني عبد المجيد أخبار الكارثة وأهوالها، قرر إرسال 10 آلاف جنيه إسترليني - أي ما يعادل 1.3 مليون دولار اليوم- كمساعدات، إلا أن المكلة فكتوريا، أصرت أن تطبع في ذهون الأيرلنديين أفظع صور التخلي، إذ طلبت من السلطان خفض المبلغ إلى ألف جنيه فقط، لأنها نفسها لم تتبرع سوى بألفي جنيه، ولم تُرِدْ أن يسبقها في فعل "الخير" أحد.
لم يكن لدى السلطان خيار سوى الموافقة على اقتراح الملكة، إلا أنه أرسل إضافة إلى الألف جنيه، ثلاث سفن محملة بالغذاء والأدوية والبذور اللازمة للزراعة، فواصلت الملكة انحيازها للمجاعة دون السكان، فرفضت حكومتها السماح لسفن المساعدات العثمانية بالرسوِّ في ميناء دبلن، فرست السفن في آخر الأمر في ميناء دروهيدا على بعد 30 ميلاً عن ميناء عاصمة أيرلندا، وأفرغت حمولتها هناك.
بعد سنين ستفجّر هذه الحادثة ومثيلاتُها غضبَ الأيرلنديين، وتتسبب البطاطا في حرب الاستقلال الأيرلندية، التي انتصر فيها الجوعى على المملكة التي لا تغيب عنها الشمس، وانتزعوا استقلالهم في العام 1921، وعبّروا في رخائهم عن الامتنان لتركيا، إذ اتخذوا من الهلال والنجمة شعاراً لمدينة دورهيدا حتى يوم الناس هذا!
صناعة السمك.. في لحظة الجوع
عام 1680 تجمدت الأنهار في بلجيكا، بحلول شتاء قارس أكثر من المعتاد، وكما يحدث عادة في المجتمعات ذات الطبقتين، فقد أوجعت هذه الحادثة الفلاحين الفقراء، أكثر من الإقطاعيين الذين يملكون خيارات شتى من اللحوم والطعام، ثمة حكمة تتبدى في الفقر دائماً، وتصنع المعجزات، أبعد ما فكر فيه الأثرياء يومها أن يتخلوا عن الأسماك، وينهالوا على مزارع المواشي ذبحاً وشيّاً، ولكن ما الذي يفعله من لا يملك من المزرعة سوى حظ الكدّ والتعب؟
كان فقراء بلجيكا من المزارعين يعتمدون على صيد الأسماك من الأنهار، وقَليِها بالزيت في آخر النهار، هذا قوت سهل ولا يكلف سوى عناء وضع الصنارة في النهر، أو دق الخناجر في بطون الأسماك، إن كان حدس الصيّاد يقظاً ومدفوعاً بجوع بَنِيه، لكن الانجماد قضى على مصدر الغذاء الوحيد بالنسبة إلى الفقراء، فلجأوا إلى صناعة السمك! كيف صنعوه؟
عندما سمع السلطان العثماني عبد المجيد أخبار الكارثة وأهوالها، قرر إرسال 10 آلاف جنيه إسترليني كمساعدات إلى أيرلندا، إلا أن الملكة فكتوريا، طلبت من السلطان خفض المبلغ إلى ألف جنيه فقط
في منتصف القرن السادس عشر، غَنِم المستكشفون الإسبان، غنيمة كبرى من أميركا اللاتينية، حيث نقلوا شتلة إلى أوروبا، تسمى "بطاطا"، وسرعان ما لاقت استحسانا، وبدأ الأوروبيون سلقها وطحنها، كما كان يفعل اللاتينيون، الذين حوّلوها إلى خبز.
بيد أن فلاحي بلجيكا، استخدموا خناجرهم، ليشكلوا حبات البطاطا على هيئة أسماك نهرية صغيرة، ومن ثم رمَوها في الزيت، ليقنعوا أطفالهم - ربما - بأنهم يُعدّون السمك المقلي كما جرت العادة، وفي غمرة الخوف والقلق وضجيج الأمعاء وهي تتضور، لم ينتبه البلجيكيون يومها، إلى أنهم اخترعوا طبقا سيغدو واحدا من أكثر الأطباق حضورا في العالم بأسره، لقد اخترعوا البطاطا المقلية!
620 كيلو مترا من الحدود المشتركة بين بلجيكا وفرنسا، حيث يعيش فلاحون فقراء على الضفتين، كانت كفيلة بانتقال الفكرة إلى فرنسا، إلا أن الإتيكيت الفرنسي المتعالي والفريد، لم تَرُقْه هيئة البطاطا السَمَكِيّة تلك، فعمد الفرنسيون إلى تشذيب الحبة أكثر، بل إلى تقطيعها على شكل أصابع، هكذا نجحوا في تلطيف شكلها، وفي استثمار الحبة كلها دون الاضطرار إلى التخلص من مجمل الحبة لصالح الشكل الفني، فالفقر فقر حتى إن كان في فرنسا، ودليل ذلك أن الفيلسوف الكبير جان جاك روسو، اضطر إلى جلي الصحون في الحانات، حين هاجر إلى باريس!
المشكلة أن الفرنسيين لم يظهروا العرفان لأخوتهم البلجيكيين في الفقر، ولم يعترفوا في الرخاء حتى الآن، بأنهم سرقوا -في ذروة الجوع- فكرةَ البطاطا المقلية من الفلاحين البلجيكيين، والمشكلة الأعقد أن البلجيكيين لا يملكون ما يؤهلهم من أدوات لاستعادة فكرتهم المسروقة، خصوصا بعد أن صار الناس في أقاصي الدنيا، يدخلون المطاعم، ويطلبون من النادل: "فرينش فرايز".. أي بطاطا فرنسية مقلية!
في خضم المجاعة استخدم فلاحو بلجيكا خناجرهم، ليشكلوا حبات البطاطا على هيئة أسماك نهرية صغيرة، ومن ثم رمَوها في الزيت، ليقنعوا أطفالهم بأنهم يُعدّون السمك المقلي، لكن الفرنسيين نسخوا الطبق وصار الـ"فرينش فرايز" الأشهر في العالم
صحيح أن هنالك فرقاً طفيفاً بين الطبقين، إذ تركّز بلجيكا على حجم الحبة ذاته المناهز لحجم السمكة حتى الآن، وتضيف إلى طبقها فاكهة من فواكه البحر، ربما من باب التعمية والتضليل في موج البحر، وتؤطرها بصوص خاص يقع بين المالح والحلو، إلا أن إصرار فرنسا على النكران يزعجها.
وحتى الآن ما تزال حرب البطاطا المقلية قائمة، فثمة نزاع بلجيكي فرنسي على تسجيلها في اليونسكو، ولا أحد يلتفت خارج الصحن الذهبي المملح، المزين بخط من الكاتشاب على الجهة اليمنى، وخط من الباربيكيو على الجهة اليسرى، والذي يشبه العلم البلجيكي أكثر من الفرنسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه