"يحتوي كل بيت في حيّنا على غرفة للرئيس. مع ذلك، لم يأتِ الرئيس لزيارتنا قط. ليست المسألة أننا ننتظره، ففي الواقع، نحن ننسى في أغلب الوقت أن هذه الغرفة موجودة هنا. نحن ننسى، في أغلب الوقت".
هذا ما يقوله ريكاردو روميرو، في روايته "غرفة الرئيس".
لم يكن اختياري لهذه الرواية وليد الصدفة. وأنا أقرأ نص الغلاف وجدتني أعود إلى طفولتي وأنبش ذكرياتها، طفولة اتّسمت بالحرمان وانعدام الخصوصية، طفولة ملأها الخوف لسنوات عدّة.
لحظة اختياري للكتاب أيقَظَت في داخلي مشاعر معاناتي من التسلُّط والبطريركية التي تجعل الأب زعيماً.
وضعني الكاتب على تماس مع ديكتاتورية رجال العسكر التي تنسحب على الجنود داخل البيوت والغرف، فتُولِّد سيلاً من الاضطرابات النفسية وفقدان الإحساس بالحرية والانغماس في المكان.
"الحمّام فوق غرفة الرئيس بالضبط، هل يسمع الرئيس صوت تدفُّق ماء المرحاض؟ هل يسمع صوتنا ونحن نستمني؟ وأنا في الحمّام رحت أَعدُّ بلاطات الحمّام كيلا أفكر في هذا الأمر، كيلا أفكر بالرئيس".
يحدثنا روميرو عن انتظار الناس زيارة الرئيس حيث من واجبهم تخصيص غرفة له. الواجب لا يقتصر على وجودها بل على تنظيفها وترتيبها بشكل دوري تحسّباً لزيارته.
يشبه هذا الكتاب ما عشته في بيت أهلي. أليس داخل كل بيت صورة ومكان مخصص لديكتاتور صغير؟ في بيتنا على الأقل، الجواب: نعم!
"لحظة تقاعد أبي من وظيفته العسكرية هي ‘لحظة انتصارنا’. اتّسع هامش خصوصيتي وحريتي. استعدتُ شيئاً من طفولتي. هي لحظة اختفاء تسلُّط الخارج على أبي فتراجَع تسلُّطُه علينا فاتسع هامش الخصوصية داخل البيت واتسعت الحرية التي مَنحَنا إياها ‘الأب’"
عشنا أنا وأخواتي الثلاث داخل بيت لا تتعدى مساحته 80 متراً مربعاً، مؤلَّف من ثلاث غرف، مطبخ وحمام. ويقع في منطقة ساحل المتن الشمالي، شرقي بيروت. غرفتا نوم كانت إحداهما تتحول إلى غرفة جلوس نهاراً. الغرفة الثالثة سميتها "صالون استقبال ضابط أبي". فيها أغلى المفروشات وأجمل الصحون. يُفتح بابُها مرة في السنة لاستقبال الضابط الذي كان أبي يخدم تحت أمرته. قضى أبي، الشرطي النظامي، عمره يخدم في سلك الأمن الداخلي، ويعمل في ما بتقى من وقته سائق أجرة.
هذه الغرفة كان يُمنع دخولها إلا لتنظيفها أو لاستقبال الضابط. بقيَت مكاناً لاستقباله إلى حين تقاعُد أبي. عندها تحوّلَت إلى غرفة جلوس لعموم زوار البيت.
لحظة تقاعد أبي هي "لحظة انتصارنا". اتّسع هامش خصوصيتي وحريتي. استعدتُ شيئاً من طفولتي. هي لحظة اختفاء تسلُّط الخارج على أبي فتراجع تسلُّطُه علينا فاتسع هامش الخصوصية داخل البيت واتسعت الحرية التي مَنحَنا إياها "الأب".
هل الخوف تقليد عائلي متوارث؟ هل يحتاج الانتصار على الخوف إلى تدمير أمكنة عشنا فيها أم أنّ تغيير وظيفتها يكفي؟
"نحن نتاج مأزق موروث منذ القدم عنوانه الخوف وسيطرة الأقوى على تفاصيل حياتنا. انسحاقنا ليس نتيجة ظرف ما أو زمن ما، إنه مسار طويل عمره مئات السنين. إنه تراكم من الرضوخ وتسيُّد فكرة الزعيم علينا"
في الرواية، أجبر الإذعان لديكتاتور واحد سكان البيت على تخصيص مساحة واقعية لديكتاتور يسيطر على بلد، فاغتصب بذلك المساحات الخاصة. في بيتنا كان الإذعان لديكتاتوريتين واحدة خارجية تتمثل بالجنرال وأخرى داخلية تتمثل بجندي (أبي).
المواجهة في بيتنا كانت أولاً مواجهة غير مباشِرة مع جنرال لا نعرف وجهه إلا من خلال ظلّه وهو يدخل الصالون، وثانياً مع أبٍ مرعوب من واقعية "جنراله" وتسلطه العسكري.
نحن نتاج مأزق موروث منذ القدم عنوانه الخوف وسيطرة الأقوى على تفاصيل حياتنا. انسحاقنا ليس نتيجة ظرف ما أو زمن ما، إنه مسار طويل عمره مئات السنين. إنه تراكم من الرضوخ وتسيُّد فكرة الزعيم علينا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون