من أصعب الأشياء عليّ هو قراءة مجموعة قصصية، فقراءة رواية حجمها أضعاف المجموعة القصصية في الصفحات أسهل عليّ. ففي الرواية هناك جبل واحد. مهما كان عالياً، فهو جبل واحد. لكن في المجموعة القصصية، تتسلق الجبل مرة ثم تنزل لتتسلق آخر، فآخر، فآخر... كل قصة قصيرة محبوكة هي اكتمال، هي مشوار تنتهي منه لتبدأ آخر.
هذا ما شعرت به 34 مرة أثناء قراءة مجموعة الأديب المصري حسام فخر الأخيرة "بالصدفة والمواعيد"، الصادرة عن دار العين. منذ مجموعته "حواديت الآخر"، مرّ 14 عاماً لم ينشر فيها كتاباً، ثم خرج النص الأخير، ويقدّمه بمقدمة، يعترف فيها بأن "كل ما حدث، حدث بالصدفة... كل ما عشته ورأيته ورويته هنا لم يكن إلا ضربة حظ، لا فضل لي، اللهم إلا التقاط الصور".
فمنذ عمله في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، "البساط ليس أحمدياً"، وتأثره بصوت يوسف إدريس الذي كتب تقدمة للعمل حينها، حاول حسام فخر أن يتخرج من أسر جمال أدب يوسف إدريس. ويحاول أن يعود إلى الحكاية وإلى الحدوته، ونضارتهما، عودة من تعمّق في أشكال القص والسرد وتجارب الحداثوية الكثيرة التي تابعها في اللغة العربية التي يعشقها وفي غيرها من اللغات التي ينتقل بينها في عمله طيلة عقود كمترجم فوري في الأمم المتحدة.
ففي "وجوه نيويورك" و"يا عزيز عيني" و"حكايات أمينة" و"حواديت الآخر" احتفاء بالحدوته والحكاية، جعله يحتفي باللغة الحية المتداولة اليومية، في محاولة لكشف منابع الجمال والطزاجة فيها، ولرصد تجارب حياته الخاصة وحيوات مَن مرّوا في حياته، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
"بالصدفة والمواعيد" لوحة فسيفساء من 34 مشهداً يحكي فيها الراوي، بدون ترتيب معيّن، لا زماني ولا مكاني، بل بالصدف، رغم البداية في سن طفولة الراوي، في مصر الجديدة، وفي العربية "الموسكوفيتش" البيضاء التي عاد بها الأب من بعثته إلى الاتحاد السوفياتي، وصولاً إلى المشهد الأخير في الصورة، "لقاء مع كل شيء"، حيث نصل إلى أن "كل شيء إلى زوال مهما كان جماله ومهما كان الجهد المبذول فيه". ورغم هذا، يجدد الراوي الأمل بأن "كل ما يزول يعود في دورة الحياة التي لا تتوقف".
"كل ما حدث، حدث بالصدفة... كل ما عشته ورأيته ورويته هنا لم يكن إلا ضربة حظ، لا فضل لي، اللهم إلا التقاط الصور"
الخيط الواصل يظهر جلياً في أماكن ويختفي في الخلفية أحياناً، هو الصراع في علاقة الراوي بالأب، وبآمال وأحلام الأب فيما يريد هو لهذا الطفل أن يكون، والمقارنة الدائمة بينه وبين الأخ النموذج في كل شيء. بل تتناول النصوص المجتمع الأبوي والثقافة الأبوية، وصراع الفرد معها من خلال هذا الطفل الشاب البالغ الذي يُدخل قدمه إلى عالم الكهولة.
ويدخل الكاتب في ثنايا تجربة دولة يوليو ونقد سلطويتها بمراحلها المختلفة، من مدخل إنساني، من علاقة الابن بالأب والأم و"الدادة" وبائع التين الشوكي. ويناقش السياسة في تجليها في العلاقات الأسرية والاجتماعية والإنسانية. بدون ضجيج، ولا استعراض، بالهمس، وعبر "أنشودة بساطة".
فصوص المجموعة جميلة منسابة بسيطة فيها دفء الحكي، ودائماً الجمال في نهاية القصة التي في الغالب تنقل النص إلى أبعاد أخرى تماماً. وأستثني منها فقط، قصة "في الصحراء"، حيث كان الختام عادياً بل متوقعاً.
على مدار ما يقرب من أربعة عقود، يدور صراع داخل حسام فخر، حول التواجد، وما يعنيه هذا التواجد في الثقافة المصرية، وما يتطلبه الآن من إعادة إنتاج نفسك كل يوم بالدعاية بشكل دائم في قارة النت، مع شعور بالاغتراب، ومن إعادة تفكير في تحديد الوطن، فالغربة في القاهرة والغربة في نيويورك، والغربة بين الكتابة والتعبير بالعربية التي يعشقها وباللهجة القاهرية التي كتب بها قصصاً كاملة من المجموعة وليس فقط الحوار، وبين الكتابة بالإنكليزية لكي يستطيع أن يقرأ الأبناء ما يكتب ويتواصلون معه. إنه صراع دائم داخل نصوص حسام فخر.
"الخيط الواصل (بين قصص حسام فخر في مجموعته "بالصدفة والمواعيد")... هو الصراع في علاقة الراوي بالأب، وبآمال وأحلام الأب فيما يريد هو لهذا الطفل أن يكون... تتناول النصوص المجتمع الأبوي والثقافة الأبوية، وصراع الفرد معها من خلال هذا الطفل الشاب"
في النص الأخير، "لقاء مع كل شيء"، يروي الراوي تجربة يشير فيها إلى الجانب الروحاني الإنساني، في زيارته لدور العبادة العتيقة، فيحكي عن زيارة له إلى معبد "الزمردي" في بانكوك. هناك، شهد الجهد الذي يقوم به الرهبان في رسم "الماندالا" الرملية، من الحصى الذي جمعوه ليعودوا به ويطحنوه، ثم يرسمون رسمة الشهر... عمل متواصل لا يتوقف، وبعد عرض اللوحة لزوار المعبد، وأداء صلواتهم، يهدمون بأيديهم ما صنعوا خلال الشهر.
ويُلمح الكاتب في نهاية لوحته الأخيرة إلى أن ما حدث لم يكن النهاية، فإنهم يجمعون كل حبات الرمل، ليعودوا ويسكبونها في الماء الجاري، لينقلها النهر إلى الحياة مرة أخرى، فـ"دورة الحياة لا تعرف التوقف".
أنتظر من حسام فخر نصوصاً جديدة أشعر بإرهاصاتها بين سطوره وأتمنى لها أن تخرج من "لقاء" داخله الشرق والغرب والشمال والجنوب، سواء بالعربية أو بالإنكليزية، وأرجو ألا ننتظر ما يقرب من عقد ونصف آخرين من الزمان للقراءة، فالعمر يمر يا حسام.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعاتيعني اذا اليسا اللي عملت اغاني وفيديو كليبات عن العنف ضد النساء وقال حملت قضايا المرأة العربية، غنت ودافعت عن المغتصب سعد المجرد... قرطة منافقين.
Farah Alsa'di -
منذ 12 ساعةرغم قديه الحادثة موجعة ومؤسفة إلا أني مبسوطة أنه هاي من المرات القليلة تقريباً اللي المجتمع الأردني بوقف فيها مع "المرأة" الضحية... عشان تعودنا يكون الحق عليها دايماً أكيد!
Line Itani -
منذ يومعجيب في بلد ومجتمع "محافظ" زي المصري انه يكون فيه حرمات على أشياء كثيرة بس الموت لا - ودا بس لأن فيها أرض ومصاري..
jessika valentine -
منذ يومالمشكلة هي المجتمع واللغة انبثقت منه وتغذي هذا الفكر الذكوري. لن تتغير اللغة الا إذا نحن تغيرنا. وزيادة على الأمثلة التي قدمتها للغة العربية، الانكليزية ليست افضل حالا فيُقال للقميص الابيض الذي يُلبس تحت القمصان wife beater باللغة الانكليزية، والنق bitching. وعلى سيرة say no، يقول الذكور المتحدثون باللغة الانكليزية no means yes and yes means anal. على الدجاجة أن تكسر قوالب التربية لبيضها الإناث والذكور لان أحدا سواها لن يفعل.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعit would be interesting to see reasons behind why government expenditure on education seems to be declining -- a decreasing need for spending or a decreasing interest in general?
Benjamin Lotto -
منذ أسبوعجدا مهم البحث