اعتبر النقاد لوحة "الصرخة" للفنان النرويجي ادفارد مونيك ( 1863- 1944) ثاني أهم لوحة عالمية بعد الموناليزا كما أنها بداية الحداثة الأوربية بما جسدته من آلام الانسان المعاصر وقلقه الوجودي. يقول عنها مونيك إنها مستوحاة من منظر الغروب حيث شعر بصرخة تمر عبر الطبيعة وكأن غيوم الغروب دماء فعلية جسّدها في ألوان لوحته التي تنحني فيها الخطوط كما لو كانت رجع صدى صوت الإنسان الذي يقف في وسط اللوحة ويصرخ. ومن صرخة حقيقية وشبيهة بصرخة مونيك تنطلق إليف شافاك في روايتها "جزيرة الأشجار المفقودة" الصادرة حديثاً عن دار الآداب. صرخة آدا في فصل المدرسة الثانوية التي استمرت دقيقة كاملة قشطت حنجرتها وجرحتها بقوة، بعدما وقفت لتجيب عن سؤال مدرسة التاريخ: لماذا تعتني النساء بالموروثات؟
كان لدى آدا جواب مختلف فوالدها هو من يعتني بالموروثات التي ليست سوى شجرة تين حملها من جزيرة قبرص إلى إنكلترا.
واسم آدا يعني الجزيرة، وهي المولودة لأب يوناني وأم تركية قبرصيين يعيشان في المنفى. أطلقت آدا صرختها وكأنها صرخة الجزيرة المختزنة عبر عقود من آلام الحروب والاقتتال وهجرة الأبناء. تلوم آدا نفسها إذ فعلت دون أن تعرف سبباً محدداً لذلك، ففي داخلها الكثير من احتقان الألم والفراغ والكآبة خصوصاً بعد فقد أمها. وهذا ما عرضها للتهكم والسخرية والتساؤلات حتى أن إدارة المدرسة استدعت والدها الذي أسرع في عمله (دفن التينة ) وهرع إلى المدرسة.
الحب في مواجهة الحرب
نعم كان والدها (كوستاس) يدفن التينة تلك ليحفظها من البرد وهي طريقة اتبعها القدماء في أيام الصقيع حتى لا تموت الشجرة التي تعيش في مناخ غير مناخها الأصلي. وهناك خطوات توضيحية لفعل ذلك توردها الكاتبة كما هناك خطوات توضيحية لنبشها حين يصبح المناخ مناسباً. وكوستاس عالم نباتات وأحياء ومغرم بالطبيعة منذ صغره إذ لم يكن يحتمل قتل عصفور صغير من أجل أكله كما انهار حين مرت جائحة موت خفاش الفاكهة الجماعي في جزيرة قبرص وهي إحدى الكوارث البيئية التي مرت بها الجزيرة بعد وأثناء كوارث الحروب وصراع دول الجوار عليها والاقتتال الأهلي على خلفيات قومية ودينية ليغدو كما يحدث دائماً في مثل هذه الحالات جيران الأمس غرباء اليوم ورفاق الأمس وأهله أعداء اليوم . وامام ذلك وقفت علاقة الحب بين كوستاس وديفني والدة آدا في أسوأ امتحان مهددة بالانفصال . وهما من قوميتين مختلفتين وديانتين مختلفتين؟
علاقة غرامية بين "دفني" التركية، و"كوستاس" اليوناني، برغم احتدام الصراع في قبرص بين اليونانيين والأتراك... رواية "جزيرة الأشجار المفقودة" لأليف شافاك عن الحب والذاكرة وتداعيات اختلاف الأديان والقوميات
حاول الشابان الحفاظ على العلاقة لكن والدة كوستاس التي فقدت زوجها ثم ولديها الآخرين تخاف عليه فترسله مرغماً إلى بريطانية قبيل اشتعال الحرب الأهلية بأيام تاركاً حبيبته دون أن يعرف أنها حامل ليبتعدا سنوات طويلة، وبعد انتهاء الحرب يعود كوستاس للبحث عنها ويشاهد ما تغير بالجزيرة إذ تم تقسيمها وتغير وجهها فأماكن كثيرة باتت خرائب وقطعت الأشجار، كما صار هناك مافيات لصيد الطيور بطرق رهيبة لتصديرها إلى الخارج وأعداد هائلة من المفقودين والموتى ليس آخرهم الابن الذي أنجبته ديفني في غياب كوستاس وتركته لعائلة بريطانية تربيه ليموت على إثر إصابته بجائحة الملاريا.
يعيدهما الحب من جديد ليتزوجا ويغادرا الجزيرة إلى إنكلترا مثل كثير من السكان، يحملان معهما فسيلة التين وجنيناً سيكون آدا.
"هل تسمعني الآن؟"... صرخة تشعل العالم
قام أحد الطلاب بتصوير آدا أثناء صراخها وبث الفيديو على الانترنت للسخرية لا أكثر، لكن الفيديو لاقى رواجاً كبيراً بين المتابعين الشباب الذين رأوا في صرختها تعبيراً عن صوتهم المكتوم وطريقة للتعبير عن تلك الطاقة الهائلة المختزنة في داخلهم وضياعها ولتبدأ حملة "هل تسمعني الآن؟" بتلك القوة البرية للتعبير عن الرفض وإثبات كيانهم الذاتي .
إنها صرخة الجيل الذي يعاني من فقدان الهوية والهدف والانتماء أمام البشرية الذاهبة بقدميها إلى أسوأ الأوقات وبكل قسوة، والألم المختزن من سوء الفهم والتقدير وما حصدوه من زراعة الآباء (الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون)، لكن الآباء أيضاً كانوا يضرسون فلا يمكن طمس الألم بمجرد مغادرة أرض الصراع.
البحث عن المفقودين والخيارات الصعبة
كانت ديفني والدة آدا قد تفرغت للبحث عن المفقودين في الجزيرة بعد هدوء الحرب ضمن فريق ترعاه الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لتكشف جرائم مروعة ومقابر جماعية ثم تعيد الجثامين لأهلهم ليدفنوا بكرامة، وتتابع ذلك في بريطانية بعدما كبرت ابنتها، فتقوم بلقاء المهاجرين لبيان المعلومات وشهادات عن آخرين ما يعيدها إلى مأزق التذكر والألم فتعود لإدمان الكحول وتنتهي في غيبوبة لتموت بشكل مفاجئ بينما زوجها في مؤتمر بيئي في أستراليا، وتضعنا ديفني في بحثها هذا أمام سؤال هل يجب دفن الحقائق والشهادات كما ندفن تينتنا مخافة الألم أم علينا الحديث عن الماضي ونقله للأجيال التالية؟
أي مخاطرة في الخيار وكيف نضمن عدم توريث الأحقاد لأجيال لم تعرف تلك الألفة القديمة بين الأطراف وتلك المودة وذينك السلام والوئام؟ تختار ديفني الصمت وعدم الحديث عن الماضي أمام ابنتها التي لا تستوعب حالة الفراغ الذي تعيشه وانقطاع الجذور والجو الخاص الذي يحيط بالأسرة ولا يستطيع أبواها تغييره ولا الإجابة عن علامات الاستفهام الكثيرة المحلقة في داخلها وخاصة بعد موت أمها وتركها وحيدة وعرضة للاحتياج الرهيب كأنها تقف على جرف مهدد بالانهيار.
مستنفرة حواسها لإطلاق تلك الصرخة كإشارة استغاثة أو رفض حانق أمام العالم.
التينة: ضمير الطبيعة ساردة من نوع مختلف
توازي شافاك سيرة العائلة الجديدة في المنفى مع سيرة التينة لتقوم بفهرسة فصول الرواية بأجزاء الشجرة الجذور والجذع والفروع وليتناوب السرد بين الذات الكاتبة وبين التينة الشاهدة مناصفة بينهما وعلى قدر الأهمية. ولهذا كانت الرواية غنية بالجماليات الأدبية والمعلومات العلمية المقدمة بشكل أدبي بديع.
إليف شافاك
فالتينة شجرة تتكلم وتسرد بلسان الطبيعة التاريخ والأحداث وتتحدث مع الكائنات الأخرى على الجزيرة وبإسمها لتكون صوت الطبيعة التي تراقب وتحتوي صراعات البشر وتتألم دون صوت ودون أن تستطيع الصراخ احتجاجاً، فالحروب التي يشعلها البشر لا تدمر حياتهم وحسب بل تدمر الاستقرار الكوني والنظام البيئي الذي يضمن استمرار الحياة على كوكبنا .
مقارنة بين عالم الأشجار وعالم الانسان وبين ذاكرة الشجر وذاكرة البشر لندرك أننا ما زلنا بعيدين عن إدراك حقيقي للطبيعة وعوالمها المختلفة فالنظام البيئي المهدد هو نظام متقن وحقيقي مرتبط ببعضه ومتآلف ومتعاضد، فالأشجار قد لا تتألم مثلنا لكنها تختزن ذاكرة تاريخية بما تشربه من دماء وحبر وروح الأرض وكما نصنع منها الورق الذي يحفظ تاريخنا. وهنا لا ننسى أن تاريخنا المدون تاريخ منقوص إذ لا يتصف بالأمانة فكل طرف يدونه كما يريد، لكن الأشجار لا تعرف كيف تنحاز لأنها ذاكرة حقيقية.
تقول التينة إن كل حلقة في جذع الشجرة وكل ثلم هو ذكرى لحادثة ولجرح مرت به الأرض ذاتها كما أن رائحة العشب المجزوز نداء استغاثة وتنبيه للنباتات المجاورة. تمنح الكاتبة شجرة التين شخصية مستقلة تعبر عن مشاعرها ورؤيتها حتى أنها تمتلك إعادة لقصة الخطيئة الأصلية، فهي تفكر وتستنتج أن التفاحة ليست الثمرة التي أغوت آدم بل تينة تتقطر بعسلها اقتسمها آدم وحواء كاقتسام الخطيئة، فلطعم ثمرة التين مذاق الفردوس المفقود وتدعم رأيها بذكر التين في كل الديانات والكتب المقدسة واستمرار تقديسها كشجرة مباركة. وتتحدث عن قدرة النباتات على التواصل بعضها مع بعض ومع الكائنات الأخرى، وهذا وراء قدرتها على ترميم الطبيعة كل حين كما أنها تسرد تفاصيل القصة وكأنها عاشتها كموت الابن بالملاريا واكتشاف جثتي يوسف ويوغاس في البئر وخراب فندق بالاس والتهام الفئران لمكتبته الضخمة وغيرها من الأحداث التي كانت تصلها عن طريق حديثها مع النحل والنمل والفأر والببغاء وغيرها.
"ثمة ألم، كثير من الألم في كل مكان وفي كل أحد. لا فرق إلا ما بين أولئك الذين يستطيعون إخفاءه ولم يعودوا قادرين على ذلك"
وتخبرنا استغرابها من امتلاك مشاعرَ حب حقيقية تجاه كوستاس الأب لنكتشف في النهاية أن ديفني حين ماتت بقيت روحها في المنزل الذي تحبه، ولتبقى قريبة من ابنتها وزوجها تقمصت جسد الشجرة، ومن هنا نستطيع تلمس تشابه الأسماء بين ديفني الزوجة ودافني الإلهة الإغريقية التي مسخت إلى شجرة غار (أوفيد: مسخ الكائنات) .
كما تبرر لنا مشاعر الشجرة ومنظومتها الحسية تشبيه العائلة بالشجرة إذ يقال شجرة عائلة، ويفسر لنا أيضاً إصرار كوستاس العناية بالشجرة في بلاد غريبة حتى لا تموت، فموتها هو موت ذاكرة كاملة: "من ينقذ شجرة تين ينقذ ذاكرة شخص ما".
مما يحيلنا إلى العنوان نفسه (جزيرة الأشجار المفقودة)، فلعله تكريم للعوائل المقتولة ولأشجار عائلات كاملة فقدت فروعها، كما فقد المهجرون جذورهم.
كيف يمكن الوقاية من الإصابة بفيروس الحروب الأهلية؟
تنتهي الحروب الأهلية ولكن من يمتلك ضمان عدم عودتها؟ تشبّه التينة هذه الحروب بالفيروس الذي يمكن الاصابة به مرة أخرى، فما هو اللقاح الذي يحمي من إعادة المرض والاصابة به؟
تقول التينة الراوية إن الفيروس تكثر إمكانية الإصابة به في حالات الانغلاق فالأشجار التي تلتف على بعضها ينتقل إليها الفيروس بسهولة أكثر إذ هو يشبه التعصب الذي يسمح بهذا الانتقال بين البشر، وكما يغدو من مصلحة الشجر ترك مسافة من الأمان للحفاظ على سلامتها من الإصابة بالفيروس فالبشر مطالبون بترك هذه المساحة لاحترام المعتقدات واليقينيات المتعددة حتى لا نصاب بالفيروس مرة أخرى.
لم يكن العيش المشترك ولا التاريخ المشترك رادعاً أمام اشتعال الحروب الأهلية فالطوائف التي تشترك بالمكان وكذلك القوميات تشترك بالثقافة والممارسات اليومية وتنشأ عادات مشتركة بينها ويوميات وتفاصيل وخرافات مشتركة وأطعمة بأسماء مختلفة كما يتم تداول الأسماء بشكل طبيعي وهذا ما نراه من خلال حديث مريم الخالة التي تزور العائلة لأول مرة لتحتضن وتحتوي آدا بعاطفة العائلة المفقودة مبررة غيابها بالوعد الذي قطعته لأبويها بقطع العلاقة مع عائلة أختها تعبيراً عن رفض خيارها بالزواج من دين مختلف.
تميز شافاك بين الأجيال وتعاطيهم مع ذكريات الحرب، فمن جيل يودّ طمسها إلى جيل يودّ نبشها
كل ما كان من عيش وعلاقات ودية بين السكان لم يحمهم من لوثة الجنون والعنف حين بدأت الحرب الأهلية، حيث يتم دائماً النكوص إلى الانتماء الأضيق إذ يبدأ الهياج العنفي وتصبح الحياة مهددة بعيداً عن ضمان هذا الانتماء حتى لو كان الشخص غير مبال أصلاً لهذا الانتماء على مدار السنوات، فلا خيار أمامه إلا الاصطفاف مع جماعته او الموت، فيغيب العقل الفردي لعدم فاعليته في مواجهة المجموع الهائج. ولهذا كل الاشارات التي كانت تشير للأيدي الاستعمارية الخارجية المسؤولة عن إشعال الحرب بين الأهل أُسكتت، وقُتل أي احتمال للبقاء المشترك كما حدث ليوسف ويوغاس، صاحبي حانة التينة السعيدة، وقد عثر على جثتهما بالصدفة في إطار نبش القبور الجماعية والأراضي للبحث عن مفقودين بعدما اعتمد هذا على خلفية حل النزاعات منذ الثمانينيات، كما في إسبانيا وتشيلي وغواتيمالا والأرجنتين وغيرها، لنكتشف على ترامي المساحات الجغرافية أن الحزن هو لغة مشتركة بين البشر وكذلك الألم.
كانت ديفني متمردة على الواقع دوماً وارتبطت بما اختاره قلبها بعيداً عن الصراعات القائمة وتقاليد السكان، لتعمل مع لجان البحث عن مفقودين لتكشف جرائمهم التي ارتكبوها بعضهم بحق بعض، وهي إذ تتقمص شجرة التين كأنها تتحول ليس فقط إلى ضمير البشرية الذي يقف إلى جانب الضحايا والعزل، بل تصبح ضمير الطبيعة والبشر لتوصل لنا على لسان الساردة التينة صوت الكون الشاهد على جرائم الإنسان وجنونه اللا مسؤول.
تميز شافاك بين الأجيال وتعاطيهم مع ذكريات الحرب، فمن جيل يودّ طمسها إلى جيل يودّ نبشها، ولعل المكان يلعب دوراً هاماً، لقد هاجر الأبناء إلى إنجلترا البلد الذي كان يستعمر قبرص وما زالت له قاعدتان عسكريتان فيها ولم يكن بريئاً لا في تقسيمها ولا إشعالها.
وهي (شافاك) التي تميزت دوماً أيضاً بطَرق المسكوت عنه وطرح مواضيع لها خصوصيتها وحرارتها وأهميتها في التاريخ الإنساني متابعة ذلك في الحديث عن جزيرة قبرص، بإهداء إلى المنفيين والمهاجرين في كل مكان. قبرص الجزيرة المتوسطية التي مدت أنظارها لتراقب وتشهد سفن المهاجرين والهاربين من جحيم حروبهم وضحايا المراكب والسفن المقلوبة يصارعون الأمواج والجثث المرمية على أبواب المدن الساحلية وفي عرض المتوسط الذي صار حماماً مائياً يعج بالأجساد الطافية وقد أطلقت صرختها ولم تصل أبعد.
"ثمة ألم، كثير من الألم في كل مكان وفي كل أحد لا فرق إلا ما بين أولئك الذين يستطيعون إخفاءه ولم يعودوا قادرين على ذلك"، هذا ما تقوله آدا التي تعود إلى مدرستها وهي واثقة بنفسها أكثر رغم تشوشها مرتدية قناع التهكم الذي يبرع به جيلها كما نصحتها الخالة مريم لأنها تعرف أن صرختها تتردد في صدر كل الرفاق وإن أخفوا ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...