شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عن المزايدات في المعاناة والعذابات والآلام

عن المزايدات في المعاناة والعذابات والآلام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والمشرّدون

الأربعاء 11 يناير 202308:43 ص

بعض السوريين داخل سوريا لا يستطيعون أو لا يريدون أن يسمعوا أو يقرأوا كلمة واحدة عن معاناة السوريين خارج سوريا، على اعتبار أنهم متخمون بما يكفي من العذابات والآلام ولا متسع لديهم للمزيد. وبرأيهم، وهذا مجحف، أن مَن هو خارج سوريا لا يحق له أن يتكلم عن آلامه لأنها لا تساوي شيئاً في اعتبارهم أمام ما يعانونه هم داخلها.

لا يخفى على أي ذي عقل أن العيش في سوريا لا يُحتمل أو أن الحياة فيها جحيمية على كل المستويات بل هي الجحيم الأقسى، ولكن هذا لا يعني أن مَن هو خارج سوريا لا يحق له أن يتكلم عن معاناته وأن معاناته لا تعني شيئاً، فنحن لسنا في تحدٍّ أو سباق معاناة. ثم ما هي الفائدة من مقارنة معاناة الخارج بالداخل، وهل يصح النظر إلى أن الكلام عن معاناة ما يلغي المعاناة الأخرى؟

الذين يعيشون خارج سوريا يتعرضون أيضاً لشتى ضروب القهر والعذاب، لكن عدداً كبيراً منهم لا يتكلم عن معاناته خجلاً من معاناة مَن هم في الداخل، أي أنهم بطريقة ما يعيشون نوعاً من الكبت. والحال أن هذا الكبت كما نعلم يخرج بطرق عديدة وينفجر أو يعبّر عن نفسه بطرق ووسائل مختلفة، وهو يصيب النفس بما يصيبها من الوهن والحزن والضعف.

كثيراً ما نسمع عن حالات اكتئاب مزمن لسوريين يعيشون في بلاد مستقرة تحترم حقوق الإنسان وتتمتع بثقافة مواطنة راسخة وتؤمّن للاجئين الكثير من الفرص التي يمكن اعتبارها في سوريا مجرد حلم، بل إننا نسمع عن حالات انتحار لسوريين في هذه البلاد، ناهيك عمّا تعرضوا له من تهميش وعنصرية... وبالرغم من ذلك، ثمة عدد كبير لا يتلكم عن معاناته ويحتفظ بها لنفسه، والحق أن مَن لا يتقاسم معاناته أو عذاباته مع الآخرين قد يكون أكثر مَن يعرف ما هو العذاب أو المعاناة.

إحدى الطرق التي تعبّر العذابات عن نفسها بها هي الأحلام، وأشهر الأحلام أو للدقة الكوابيس التي يعاني منها السوريون في الخارج كما في الداخل هي الكابوس الأمني، إذ يرى الحالم نفسه ماراً على أحد الحواجز العسكرية، أو يتعرض لمداهمة من أحد فروع الأمن، أو يحلم أنه ما زال معتقلاً في سجون النظام أو أنه ما زال جندياً على إحدى الجبهات، أو لنقل باختصار إنه يعيش أحد ضروب العذاب أو الألم أو المعاناة التي سببها النظام. وهذه الكوابيس هي تجلٍّ مباشر للمخاوف التي حفرها النظام في نفوس السوريين، أو هي بصيغة أخرى إحدى الأدوات التي تقوم النفس فيها بنحت نفسها من الداخل.

"العيش في سوريا لا يُحتمل والحياة فيها جحيمية على كل المستويات بل هي الجحيم الأقسى، ولكن هذا لا يعني أن مَن هو خارج سوريا لا يحق له أن يتكلم عن معاناته وأن معاناته لا تعني شيئاً، فنحن لسنا في تحدٍّ أو سباق معاناة"

ثمة أيضاً سبب آخر يمنع السوريين خارج سوريا ليس فقط من التعبير عن معاناتهم بل حتى من التعبير عن آرائهم عموماً، وخصوصاً السياسية، وهذا السبب هو الخوف الأمني من النظام أو من أطرافه. فكما نعلم إن النظام السوري في لبنان مثلاً ما زال ذا بأس أمني ولديه شركاء يمسكون بتلابيب الناس. لكن الخوف الأمني على مَن بقي في سوريا قد يكون أحياناً أشد من الخوف على النفس، والحال أن لكل السوريين المقيمين خارج سوريا تقريباً أهل أو أصدقاء داخلها، والنظام يستخدم الأهل أيضاً أو مَن بقي من العائلة داخل سوريا لمعاقبة اللاجئين الذين ينتقدونه، وهذا الخوف كفيل بإسكات الأفواه.

لنتخيل فقط أي تعذيب للضمير سيصيب لاجئاً ما إذا اعتقل النظام أحد أفراد أسرته المقيمين في سوريا بسبب آرائه السياسية. أو لنتخيل ما الذي يضعه على الميزان اللاجئ الذي يريد أن يدفع للنظام البدل النقدي عن الخدمة العسكرية كي يستطيع رؤية أهله بعد سنوات من الشتات، فهل يستطيع أن يطمئن للعيش تحت سطوة النظام مرة أخرى أو تحت رحمة شبيحته؟ ناهيك بأنه أساساً رضي أن يتجرع السم المتمثل بدفع المال للنظام كي يعفيه من الخدمة العسكرية ويسمح له برؤية أهله مرة أخرى...

"ثمة عدد كبير [من السوريين الذين يعيشون في بلاد مستقرة] لا يتلكم عن معاناته ويحتفظ بها لنفسه، والحق أن مَن لا يتقاسم معاناته أو عذاباته مع الآخرين قد يكون أكثر مَن يعرف ما هو العذاب أو المعاناة"

ثمة حالات كثيرة كهذه ممَّن دفعوا بدل الخدمة العسكرية لكنهم لم يتحملوا العيش في سوريا فخرجوا منها مرة أخرى. وثمة على العكس من ذلك عدد من السوريين الذين لم يتحملوا البقاء خارجاً فعادوا إلى سوريا عودة نهائية رغم كل شيء.

ما نشير إليه هنا أن العنف النفسي يطال السوريين أينما كانوا، وما يزيد من وطأته ويطيل بعمره هو انسحاق آمالهم وتدهور أوضاعهم المعيشية على جميع المستويات، والمزايدة بالألم والعذاب والمعاناة على الآخرين لا طائل من ورائها.

النظام وشبيحته وأجهزته الأمنية باقون إلى أجل غير معلوم، والدولة السورية تنتظر إعلان انهيارها الرسمي، والاحتلالات قضت على ما تبقى من أمل، لذلك فإن الخوف الأمني باقٍ ما بقي كل ذلك، إلا أن ما يزيد الأمر بؤساً أن آثار العنف النفسي والأمني والاجتماعي، بل وكل أنواع العنف التي مارسها النظام لا تختفي باختفائه إنما تحتاج وقتاً طويلاً ليقوم العقل والنفس بهضمها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image