شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أيهما أرحم: السجان أو أم ديب؟

أيهما أرحم: السجان أو أم ديب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الأربعاء 4 يناير 202302:10 م

أربعة جدران، وشباك بستارة متسخة، وباب خشبي؛ كانت هذه هي مساحتي الجديدة من الجغرافيا السورية البالغة 186 ألف كم2 في شباط/ فبراير من العام الماضي، عندما أُجبرت على الخروج من غرفة كانت مؤلفةً هي الأخرى من أربعة جدران وشباك وباب يتقاسم الشارع حرفياً في إحدى حارات دويلعة (فيلات في دمشق)، كما أحب أن أسميها أسوةً بالأحياء الراقية التي يحظى قاطنوها بمنزل كبير وشرفة واسعة.

مع ذلك، لست وحدي في هذه الأمتار القليلة التي تُسمّى مجازاً "غرفةً"، فالمطبخ مشترك مع صاحبة المنزل والحمام كذلك والسيفون، وحبل الغسيل وفيش الكهرباء والمغسلة والمجلى والممر والباب الخارجي وكل أحاديث قاطني المنزل والمنازل المجاورة ومشاجراتهم التي تخترق سمعك رغماً عن أنفك بفعل الجدران المتلاصقة.

تدعو أم ديب الله يومياً، أن يُعجّل بموتها، لكن وقتاً طويلاً قد مرّ ولم تمت ويبدو أنها لن تموت قريباً، وها أنا أحزم أمتعتي وأستعد لترك السكن في منزلها، قبل أن تنتهي مدة العقد بستة أشهر، حالي في ذلك حال فتيات كثيرات استأجرن الغرفة وغادرنها لأسباب لا بد أنها متعلقة بالعجوز الثمانينية التي أطلقت على أبنائها الذكور ومن دون معرفة الأسباب أسماءً من الحياة البرية، وهي نمر وفهد وديب.

قررت أن أكون فتاةً سيئةً ولو لمرة واحدة أتحدث فيها عن أم ديب التي يصح في وصف بخلها قول ابن الرومي في عيسى: فلو يستطيع لتقتيره تنفّس من منخرٍ واحد

قد يكون من العيب أن أتحدث عن سيدة استقبلتني عندما كنت في حاجة. ما زلت أذكر ذلك اليوم جيداً. كان البرد شديداً. اتصل بي صاحب الغرفة ليخبرني بأنه بدأ بإخراج أغراضي منها من دون أن يمنحني الوقت لإيجاد السكن البديل. اختلط البكاء بالشتائم، ولم تكن بيدي حيلة في تلك اللحظة سوى لساني الذي أطلقته للدعاء بكل ما ملكته من رواسب الغضب والقهر التي تجمّعت وخرجت كلها في وجه الرجل الذي أتمنى أن يكون بخير الآن، لأنني وبعد أن انتهيت من سردة البكاء والشتائم، قلت في نفسي إنه لن ينجو من عُطب ما في حال ثبُت أن الله يستجيب لدعاء المقهور.

المهم، أنني منذ تلك الحادثة لم أعد أجد سبباً مقنعاً يبقيني فتاةً طيبةً، وحقيقةً، ما العيب في أن أكون فتاةً سيئةً أو حتى فتاةً مؤذيةً؟ فأنا لم أعثر حتى الآن على شخص سيئ أو مؤذٍ اضطّر إلى أن يترك منزله تحت المطر لأن مالك السكن هدده بالطرد، لذلك قررت أن أكون فتاةً سيئةً ولو لمرة واحدة أتحدث فيها عن أم ديب التي يصح في وصف بخلها قول ابن الرومي في عيسى: فلو يستطيع لتقتيره تنفّس من منخرٍ واحد.

لم نتفق أنا وأم ديب. غرقنا في سوء من الفهم بالرغم من أننا بدأنا بدايةً طيبةً. كنت أجالسها يومياً وأحدثها حتى يغالبها النعاس، فهي مريضة ولا تخرج خارج غرفتها إلا إلى الحمام أو المطبخ ومشوارها البعيد لا يتجاوز حدود باب الدار. تضع كرسياً في الخارج وتُسلّي نفسها بمراقبة المارة، لكن هذا التوافق لم يصمد طويلاً، والأساس في ذلك هو مزاجها، فهي عصبية جداً ولسانها سليط، وتجرح في الكلام إلى درجة الأذى وقد اعترفت بذلك وطلبت مني أن أتحمل وأتجاوز. وافقت على ذلك مرغمةً، فلا حول لي ولا قوة وأنا تعبت من التنقل وأرهقتني قصص الإيجار.

رؤيتها فيش القاظان وهو يدخل في إبريز الكهرباء يصيبها بالقشعريرة. عدت إلى الغسيل اليدوي لأنها منعتني من تركيب الغسالة كي لا أحدث ثقباً في حائط المطبخ

لم يتوقف الأمر عند مزاجها السيئ، بل تعداه إلى بخلها النادر، فتشغيل الحمام غير مسموح به سوى مرة واحدة في الأسبوع، في يوم الجمعة، اليوم العالمي الذي تستحمّ فيه. رؤيتها فيش القاظان وهو يدخل في إبريز الكهرباء يصيبها بالقشعريرة. عدت إلى الغسيل اليدوي لأنها منعتني من تركيب الغسالة كي لا أحدث ثقباً في حائط المطبخ.

لدى أم ديب، الزيارات ممنوعة باستثناء الأهل والتأخير كذلك ممنوع. أمسكتُ مرةً بقطعة قصدير صغيرة تُستخدم كمغلاق للباب، فذهبت القطعة في يدي كصفوة السيجارة، ونلت نصيبي من الشتائم وكان سؤالها الذي وجهته إلي في تلك اللحظة جدّياً جداً: لماذا كل هذا الخراب؟ بماذا أجيب هذه العجوز التي تعدّ خراب قطعة القصدير خراباً لدورتها الدموية، فيما الخراب في الخارج يغطي مساحة سوريا؟ تهديدات دائمة بالبحث عن مكان آخر إن لم تعجبني الشروط. خطر لي أن أزور السجن لمعرفة أيهما أرحم: السجان أم أم ديب؟ لا داعي للإجابة. خرجت أخيراً.

غسالة وبراد وأدوات للمطبخ، ولابتوب، وسرير ووسادتان ولحاف أعطتني إياه أمي قبل عشر سنوات، ما زلت أحتفظ به مغلفاً كما كان حتى الآن، وهو القطعة الأغلى على قلبي في ملكيتي الصغيرة المؤلفة أيضاً من مرآة وثلاثة كراسٍ سوداء وحمراء وبنية وطاولة خشبية مستطيلة وطاولة أخرى أهدتني إياها صديقتي المقرّبة وأخبرتني: "هذه الطاولة تحمل شيئاً من الماضي أريد التخلص منها". قالتها صراحةً وحملتني عبء ذكرياتها، لكني لن أتأخر كثيراً وسألتحق بصديقتي بعد فترة وأرمي بعبئي أنا أيضاً على آخرين.

قررت أن أنشر الطاولة من منتصفها، لأنها تأخذ مساحةً كبيرةً من الغرفة، ولأنني أردت أن أخفف عبء الحمولة عند التنقل، وهو ما بات يتكرر كثيراً لدرجة أنني غيرت سكني ثلاث مرات خلال سنة واحدة، وهذا الانتقال المتسارع أو الطرد إذا صح التعبير استدعى مني أن أغير طريقة التفكير. خطر لي أن أقلل من حجم الأثاث بما يتناسب مع حجم سيارة السوزوكي، فأستطيع نقله بطلب واحد، وهذا يخفف عني تكاليف النقلة الثانية. والفكرة الثانية أنني أنا أيضاً بحاجة إلى التخفيف من عبء الذاكرة، ففكرة المواجهة التي اعتمدتها سابقاً خفّت، ولم يعد يغريني النظر إلى الصورة والتحديق بها كحلٍ لتجاوزها أو هزيمة من وقف داخل إطارها. الحل إذاً هو الهروب، حتى لو تطلب ذلك التخلص من أشياء كانت تعنيني ولم أتخيل أنني قد أتخلى عنها يوماً.

أنهت عتمة المدينة الاحتياطي المتبقي من الإرادة. الجميع متشابهون، لا وجه يغريك لتقول صباح الخير، ولا صديق تضعف أمامه فتصرخ وتبكي، وتطوي وتكدس لينفجر لاحقاً كل ما طُوي

إحدى هذه الأشياء هي مكتبتي الصغيرة، وفيها أول كتاب جاءني كهدية قبل 13 سنةً. أذكر أنني دخلت برفقة اثنين من أصدقائي إلى مكتبة نوبل، وطلبا مني أن أختار كتاباً، فاخترت "الأمير" من دون معرفةٍ مني بميكافيللي ولا بالسياسة. في الإهداء كتبا إلي: "تعلّمي كيف تحكمي يا أم السوس".

أشياء أخرى تخلصت منها؛ سجادة وحصير وتلفاز أعطيتها لصاحب السوزوكي الذي نقل لي الأغراض أول مرة ولوح صغير كنت أكتب عليه تمارين اللغة، أعطيته لابنه الذي يساعده، وأصيص ملون اشتريته من معرض الزهور قبل ست سنوات برفقة رفيقة العمر فاديا. هكذا أصبحت خفيفةً ورشيقةً وجاهزةً لطي الخيمة والرحيل في أي لحظة، حالي في ذلك حال البدو، هؤلاء القوم الذين أحببتهم لافتقادهم وطناً، لكنني لم أعتقد للحظة أنني سأصبح بدويةً أكثر من البدو ذاتهم. لقد حدث هذا بالفعل. هم يرحلون من الربيع إلى الربيع، وأنا أرحل في كل الفصول.

عندما خرجت من الريف إلى المدينة لأول مرة، كنت أمتلك رشاقة الماعز الجبلي في تسلق الجبال وأعالي الأشجار لأنال ما أريد. اعتقدت واهمةً أن اللحظة التي أصل فيها إلى المدينة هي بداية الخروج من الظلمات إلى النور. وأي نور؟ ذاك الذي يحرقك بعد أن تكتشف أن لا شيء يستحق كل هذا العناء. أنهت عتمة المدينة الاحتياطي المتبقي من الإرادة. الجميع متشابهون، لا وجه يغريك لتقول صباح الخير، ولا صديق تضعف أمامه فتصرخ وتبكي وتحكي، وتطوي وتطوي وتكدس لينفجر لاحقاً كل ما طُوي سابقاً. تصطادك الأمكنة ويصطادك الناس. وحده المستقبل يتعفّف عن رميك في شباكه. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard